نابليون بعد قرنين... لماذا صفق له هيغل؟

تحتفل فرنسا هذا العام بمرور مائتي سنة على وفاة إمبراطورها

نابليون بونابرت
نابليون بونابرت
TT

نابليون بعد قرنين... لماذا صفق له هيغل؟

نابليون بونابرت
نابليون بونابرت

تحتفل فرنسا هذا العام بمرور مائتي سنة على وفاة إمبراطورها الفاتح الشهير: نابليون بونابرت. ومن المعلوم أن نابليون حكم فرنسا إمبراطوراً حتى سقوطه في معركة «واترلو» الشهيرة عام 1815، ثم اختفت عائلة نابليون من الساحة، ولم تعد تحكم فرنسا حتى ظهور نابليون الثالث عام 1850. وهذا الأخير حكم فرنسا مدة عشرين سنة؛ أي حتى هزيمة فرنسا أمام الجيش الألماني عام 1870. بعدئذ، لم يحكم أحد من سلالة نابليون فرنسا. ولكن السلالة ظلت متواصلة، أباً عن جد، من خلال الأمراء على مدار الأجيال. ومؤخراً، سمعنا بأن حفيد نابليون تزوج من امرأة جزائرية محترمة، تدعى ياسمين بريكي. ويمكن القول إن سلالة نابليون بونابرت أثرت على تاريخ فرنسا كثيراً، وتركت عليها بصماتها الكبرى.
وهذه العائلة ليست فرنسية الأصل، وإنما إيطالية من جزيرة كورسيكا. وقد ولد نابليون بعد سنة واحدة من ضم هذه الجزيرة إلى فرنسا. وبالتالي، لو ولد قبل ذلك بعام واحد لما عد فرنسياً! ومع ذلك، فإن فرنسا تفتخر به بصفته أحد أمجادها العظمى، بالإضافة إلى لويس الرابع عشر، أو الجنرال ديغول، أو حتى جان دارك. وقد ولد نابليون في كورسيكا، هو وإخوته وأخواته الكثيرين. وكانت ولادته عام 1769. أما وفاته، فقد حصلت في جزيرة القديسة هيلانة، حيث نفاه الإنجليز بعد أن قبضوا عليه وأذلوه، وهو النسر الشامخ الذي لا يهان ولا يُذل... وكانت وفاته عام 1821؛ أي وهو شاب تقريباً في الثانية والخمسين من عمره.
كان نابليون في البداية شاباً فقيراً يبحث عن عمل، ولم يكن يجد ما يريده في جزيرة كورسيكا، حيث ولد وترعرع. لذلك أرسله والده إلى فرنسا لكي يدخل الكلية العسكرية. وهكذا، تخرج ضابطاً عام 1787. وعندما اندلعت الثورة الفرنسية بعد سنتين فقط عام 1789، ساهم فيها، بل لفت إليه الأنظار في أثناء حصار طولون التي كانت محتلة من قبل الإنجليز. فقد استطاع تحرير المدينة من قبضتهم، وبرهن على مهارة عسكرية مدهشة غير متوقعة، وكان ذلك عام 1793. ولكن تعاطفه مع قضية اليعاقبة أدى به إلى السجن، بعد سقوط زعيمهم روبسبيير، ثم خرج من السجن، وأصبحت البلاد تحت قيادة قائد جيش الداخل بول باراس. وقد كلفوه بقمع تمرد الملكيين المضادين للثورة الفرنسية في باريس عام 1795، فنجح في ذلك نجاحاً باهراً.

- صعود سريع
يبدو أن معرفة نابليون بالاستراتيجية العسكرية، ومهارته في ساح الوغى، وكذلك شجاعته؛ كل ذلك أدى إلى ترفيعه في المناصب العسكرية بسرعة، ثم عينوه على رأس جيش إيطاليا الذي كان في حالة سيئة يرثى لها. ولكن على الرغم من ذلك، استطاع تنظيمه، وخوض المعارك الظافرة به ضد النمسا التي كانت قوة عظمى آنذاك؛ وهذا ما أذهل جميع المسؤولين في باريس. وبدءاً من تلك اللحظة، أخذ نجمه يلمع، واسمه يشتهر في كل الأوساط السياسية والعسكرية، بل حتى الشعبية. وعندما عاد إلى باريس من إيطاليا محاطاً بهالات المجد، خافت القيادة السياسية على نفسها منه، ومن شعبيته الضخمة في أوساط الشعب الفرنسي، فقررت إبعاده عن البلاد للتخلص منه. وهكذا، كلفوه بالحملة على مصر وهم يعتقدون أنه لن يعود منها سالماً. وبالتالي، لا يعود لينافسهم على حكم فرنسا. وقد أخذ معه فريقاً كبيراً من العلماء والمهندسين والأطباء والمفكرين، وهم الذين سيدشنون نهضة مصر والعالم العربي لاحقاً، عن طريق نقل الحضارة الأوروبية إلى الشرق العتيق الذي كان يغط في نوم عميق في ظل السلطنة العثمانية المهترئة. لقد أيقظ نابليون مصر من سباتها الطويل، وفتح عينها على العلم والتكنولوجيا والحضارة.
وبعد أن أقام نحو السنتين في مصر، قرر العودة إلى فرنسا بعد أن سمع بوجود أزمة في الحكم، وصراع على السلطة والنفوذ والمناصب والوجاهات وما إلى ذلك. لقد عاد لإنقاذ البلاد من الفوضى، ومن صراع الأجنحة المختلفة على السلطة. وربما شعر أن لحظته قد حانت للقفز على السلطة، وإزاحة كل معارضيه وحساده، وهذا ما فعله عام 1800. وبعد أن استولى على السلطة، نصب نفسه بمثابة القنصل الأول لفرنسا، وقد فعل ذلك عن طريق انقلاب عسكري في الواقع، ثم أجبر النواب أو ممثلي الشعب على اعتماد دستور جديد للبلاد، وهو دستور يخلع المشروعية على استيلائه على السلطة. وبهذا العمل، أغلق نابليون مرحلة الثورة الفرنسية، وكل الفوضى العارمة الناتجة عنها، وفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد: هي صفحة عائلته الإمبراطورية.
وقد برهن نابليون على عبقريته في مجال الحكم وتنظيم شؤون الدولة، مثلما أثبت عبقريته سابقاً بصفته قائداً عسكرياً يخوض الحروب في ساح الوغى وينتصر فيها. فقد نظم شؤون إدارة الدولة، وقسم فرنسا إلى محافظات مختلفة، وأسس النظام التشريعي أو القضائي، والنظام المصرفي، وقطاع التربية والتعليم، بل حتى المدارس الثانوية (أو الليسيه)، وشهادة البكالوريا من اختراعه أيضاً، ولا تزال فرنسا حتى الآن تعيش في بعض تشريعاتها على قانون نابليون، وهو القانون المدني الذي سنه عام 1809. وهو كذلك الذي أسس بنك فرنسا عام 1801، وهو الذي بنى قوس النصر الموجود في أعلى شارع الشانزليزيه الشهير الذي يزوره السياح بالملايين كل عام، تماماً كبرج إيفل، وهو الذي بنى مؤسسات أخرى كثيرة، ودشن عهد فرنسا الحديثة. وبالتالي، فالرجل كان عبقرياً في كل شيء، ناجحاً في كل ما يشرع به، وهذا من عجائب الأمور، أو قل إن الدنيا كانت تفتح أبوابها أمامه آنذاك فلا يستعصي عليه شيء، والدنيا إذا أقبلت عليك أقبلت، وإذا أدبرت أدبرت. والنجاح يجر النجاح، وكذلك الفشل. ولكن نابليون لم يصل إلى السلطة بسهولة، ولم يكن طريقه مزروعاً بالورود والرياحين، فالواقع أنهم حاولوا اغتياله أكثر من مرة. وفي إحدى المرات، كادوا ينجحوا لولا أن الله نجاه في آخر لحظة. وقد جرت المحاولة في أحد شوارع باريس الضيقة المزدحمة بالبشر، وذهب ضحيتها عشرة من المارة على الأقل، واتهمت السلطات أنصار النظام الملكي المخلوع بها، ولذلك أمر نابليون أجهزته بقمعهم قمعاً شديداً، ثم أرسل قواته لاعتقال وريث العائلة المالكة المقيم في ألمانيا، وأعدمه على الفور.
وهكذا، قطع الطريق على أي أمل في عودة العائلة المالكة السابقة إلى الحكم، وأفهمهم أنه سيغتال كل من يحاول اغتياله، بل سيغتال أولادهم وذريتهم، وهذا شيء مرعب. وعندئذ، خافوا على أنفسهم منه، وما عادوا ينظمون محاولات الاغتيال لتصفيته، فالإنسان يخاف على أولاده أكثر مما يخاف على نفسه. وبعد محاولة الاغتيال التي كادت أن تودي به، نصحه مستشاروه بتأسيس سلالة مالكة لوراثة الحكم بعده، إذا ما حصل له مكروه... وقالوا له إن هذه هي الطريقة الوحيدة لتأبيد حكمه، وحماية مؤسسات الجمهورية الفرنسية الوليدة، وقطع الطريق كلياً على عودة النظام الملكي السابق الذي كان راسخاً في العقلية الجماعية منذ مئات السنين؛ نقصد سلالة لويس الرابع عشر والخامس عشر... إلخ. ولهذا السبب، عدل نابليون الدستور لكي يتم انتخابه إمبراطوراً لكل الفرنسيين، ويحل نهائياً محل السلالة الملكية السابقة. وهكذا، توجوه إمبراطوراً على فرنسا، بحضور البابا شخصياً، وأصبح الإمبراطور نابليون الأول. وعلى هذا النحو، أسس سلالة مالكة ترث الحكم كابراً عن كابر. وبعد أن خاض عدة حروب ضد ملوك أوروبا المحافظين الذين لم يقروا له باستيلائه على الحكم، والإطاحة بالعائلة المالكة الفرنسية، وصل إلى ذروة مجده عام 1810، وأصبح يسيطر على مناطق واسعة في أوروبا، بعد أن ضمها إلى فرنسا.

- خطيئة نابليون
أكبر خطيئة ارتكبها نابليون، وأودت به، هي أنه لم يعرف كيف يتوقف في فتوحاته عند حد. ولهذا السبب، تآلبت عليه العروش الأوروبية، واستطاعت أن تهزمه لأول مرة عام 1813. والواقع أنها كانت تريد المحافظة على امتيازاتها ومصالحها ضد قائد الثورة الفرنسية الذي يريد أن ينقل إليها الأفكار الجديدة، في الحرية والمساواة والإخاء، والقضاء على المذهبية والطائفية. وكانت هي إقطاعية رجعية أصولية، تعد الشعب رعيتها أو ملكاً لها. أما هو فكان يحمل راية التنوير، وأفكار فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو... إلخ.
ولهذا السبب، صفق له هيغل، على الرغم من أنه كان يغزو بلاده، وقال عبارته الشهيرة: «رأيت الإمبراطور، روح العالم، على حصان!». وقد رأى فيه هيغل «العميل» الأكبر للتاريخ والتقدم البشري، بالمعنى النبيل العظيم لكلمة «عميل»؛ لقد أرسلته العناية الإلهية لكي يدك حصون الإخوان الأصوليين، ويسرع من حركة التاريخ. لقد أرسلته لكي يدشن العهد الجديد المشرق للبشرية. ولكن دارت عليه الدوائر في نهاية المطاف، بعد كل انتصاراته وفتوحاته، فأخرجوه من الساحة في معركة «واترلو» الشهيرة عام 1815، ثم دخل التاريخ أسطورة حية، ولا يزال. فهو أحد كبار الفاتحين، بالإضافة إلى الإسكندر المقدوني وبعض القادة الآخرين.
ومؤخراً، دلت استطلاعات الرأي العام على أنه أكبر شخصية في تاريخ فرنسا، بالإضافة إلى لويس الرابع عشر باني قصر فرساي العظيم، وشارل ديغول محرر فرنسا من الاحتلال النازي، بل دلت على أنه أعظم الثلاثة. والله أعلم.

- من أقوال نابليون
أيها الجنود، من أعالي هذه الأهرامات، تنظر إليكم أربعون قرناً من التاريخ!
الرجال العباقرة يشبهون النيازك التي تحترق لكي تضيء عصورها!
النجاح هو الذي يصنع لاحقاً الرجال العظام!
اتركوا الصين نائمة الآن... وذلك لأنه عندما تستيقظ الصين، فسوف يهتز العالم!
ولكن يقال إن هذه العبارة الأخيرة مزورة، وليست له. والله أعلم.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟