«حجر اليمامة»... مدينة الإرث التاريخي والحضاري والمفارقات العجيبة

الرياض التي تغيّر اسمها بعد القرن السابع عشر الميلادي

«حجر اليمامة»... مدينة الإرث التاريخي والحضاري والمفارقات العجيبة
TT

«حجر اليمامة»... مدينة الإرث التاريخي والحضاري والمفارقات العجيبة

«حجر اليمامة»... مدينة الإرث التاريخي والحضاري والمفارقات العجيبة

تركت مدينة الرياض التي كانت تعرف قديماً بـ«حجر اليمامة»، إرثاً تاريخياً حضارياً موغلاً في القدم، وشهدت المدينة على مر تاريخها أحداثاً وتغيرات، وحملت مسميات أخرى، لكنها بقيت في المكان ذاته تحكي تاريخاً من آلاف السنين مليئاً بالأحداث لواحدة من أقدم المستوطنات البشرية في الجزيرة العربية، تعاقبت على أرضها حضارات وفي أزقتها وأحيائها المتعددة وعلى ضفاف واديها الشهير «حنيفة» خرج المشاهير الذين كان لهم اسم في سجل التاريخ، كما سجلت المدينة مفارقات عجيبة من خلال الأحداث التي شهدتها المنطقة قبل الإسلام وما بعده، إلى اتخاذها عاصمة للدولة السعودية الثالثة.
عن هذه المدينة التاريخية، قدّم كرسي التراث الحضاري في السعودية، للمكتبة العربية ولقارئ التاريخ إصداراً عن الرياض دعمه ورعاه رجل الأعمال السعودي المهندس سعد بن إبراهيم المعجل، يعد أحدث ما يمكن أن يُكتب عن الرياض بشكل شامل ومختصر منذ نشأتها إلى اليوم على مر العصور، وجمع مادته كل من الدكتور عبد الناصر الزهراني، والدكتور محمد أبو الفتوح غنيم، والدكتور محمد إسماعيل أبو العطا.
واعتبر المهندس المعجل، أن «الكتاب بقدر ما يفتح لدى القارئ آفاقاً من الدهشة والفضول بخصوص هذه المدينة وتاريخها، فهو استنهاض لهمم الباحثين بإكمال ما جاء فيه من خلال النقد والتدقيق والمراجعة والتمحيص».
بداية، يشير الإصدار إلى مكان الرياض الضارب بجذوره في أعماق التاريخ وإلى حداثة اسمها، حيث لم يكن اسم الرياض مستخدماً قبل القرن السابع عشر الميلادي، مبرزاً أن الرياض كانت موطناً لكثير من أعلام التاريخ، فعلى أرضها عاشت أشهر امرأة عُرف عنها حدة البصر وهي «زرقاء اليمامة»، كما أن في أحد أحيائها الحالية وهو حي منفوحة، التي كانت قرية مجاورة للرياض عاش وصال وجال ومات ودفن أحد شعراء العربية الكبار أصحاب المعلقات الأعشى (ميمون بن قيس)، كما كانت الرياض في صدر الإسلام موطناً لبعض صحابة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم. ولفت الإصدار في هذا الصدد إلى أن بعضاً من أحياء الرياض الحالية (كأرض الفوارة في حي الفاخرية الحالي) كانت أرضاً منحها الرسول لبعض الصحابة. ويكشف الكتاب عن مفارقات التاريخ في هذه المدينة من خلال مشاركة أهل الرياض في حروب الردة مع مسيلمة بن حبيب الحنفي، وضده، كما أن المدينة، عاصمة المملكة اليوم، كانت من أكثر المدن مقاومة للدولة السعودية الناشئة في طورها الأول، واستعصت على عاصمتها الدرعية ولم تخضع لها إلا بعد حروب دامت ما يقارب ثلاثة عقود، نتيجة قوة أهلها وتحصينها، وبعد نهاية أيام الدولة السعودية الأولى ودمار الدرعية، التي لم تعد تصلح مقراً للحكم.
وقع اختيار مؤسس الدولة السعودية الثانية الإمام تركي بن عبد الله على الرياض لتكون مقراً لحكمه وعاصمة لدولته، كما كانت الرياض البداية الفعلية في عهد الدولة السعودية الثانية، وكان سقوطها في أيدي آل رشيد إيذاناً بنهاية تلك الدولة، لتأخذ الرياض مكانتها كمقر للحكم السعودي في الفترة الثالثة بعد استعادة الملك عبد العزيز لها في رحلة طويلة لتوحيد الدولة الجديدة وإعلان قيامها عام 1932 لتبدأ رحلة النمو والتطور خلال عهد سبع ملوك في إرجاء البلاد.
رصد الإصدار في سبعة فصول تاريخ المدينة، ففي الفصل الأول أبرز محاور عن: أصل مدينة الرياض التي قامت على أنقاض مدينة حَجْر، مركز إقليم اليمامة وساكنيها قديماً ونزول بني حنيفة فيها، وواقع الرياض في صدر الإسلام وحروب الردة وفتح اليمامة، ثم اليمامة في عهد الخلفاء الراشدين، واختفاء مسمى حَجْر وظهور اسم الرياض، ووضعها في الدولة السعودية الأولى والثانية، ثم غزو محمد بن رشيد لها، إلى استعادة الملك عبد العزيز للرياض وقيام الدولة السعودية الثالثة وجعلها عاصمة لها.
وتناول الفصل الثاني من الإصدار أسوار وبوابات الرياض وأبراجها التي كانت حاضرة في بناء المدينة، وعاملاً مهماً في تخطيط المدن في العصور القديمة كعناصر أمنية لحمايتها وتتبع الإصدار الأسوار التي كانت محاطة بالرياض وبنيت على مر العصور: العصر الجاهلي والأموي عندما كانت الرياض تعرف باسم حَجْر، ثم أيام مدن مقرن ومعكال، ثم في فترة حكم دهام بن دواس، ثم في عهد الملك عبد العزيز بعد استرداده لها، ونظراً لاختفاء السور تماماً في الوقت الحالي بسبب إزالته قبل أكثر من سبعين عاماً؛ تماشياً مع متطلبات توسع المدينة وامتدادها.
واعتمد المؤلفون في تناول وصف أسوار المدينة على ما كتبه المؤرخون والرحالة القدماء، كما ذكر الإصدار الأبراج المحيطة بالرياض التي بلغت 21 برجاً، توزعت في أنحاء السور كافة، ومن أشهرها: برج الذلّان والواقع جنوب شارع السبالة حالياً، وبرج العصافير الذي لا يعرف موقعه بالتحديد، لكن تم التأكد بأن أهل معكال قد شيدوه، وبرج منفوحة، كما رصد الإصدار بوابات الرياض التي حددها بلجريف في وصفه ورسمه خريطة الرياض وبواباتها في عهد الإمام فيصل بن تركي بـ12 بوابة، وأشهرها بوابة الثميري، والبوابة الرئيسية في السور الجنوبي للمدينة وهي «دروازة دخنة» التي تعد أكبر بوابات السور وعرفت باسم الدروازة الكبيرة وبوابة نقبة مصدة ودروازة المريقب في الشميسي ودروازة البديعة التي عرفت باسم المذبح؛ نظراً لأن الجزارين كانوا يذبحون ذبائحهم خارج الرياض في هذه الناحية.
وتناول الفصل الثالث أحياء وشوارع الرياض ومسمياتها، في حين عدد الفصل الرابع مساجد الرياض القديمة، كما خصص الفصل الخامس للحديث عن قصور الرياض وأنماط المباني فيها، كما تحدث الفصل السادس عن متاحف الرياض الرسمية والخاصة، وخصص الفصل السابع كيفية الحفاظ على المعالم التراثية في مدينة الرياض.


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».