تحديث البنى التحتية و«التفوق على الصين» في قلب خطة بايدن الاستثمارية

أثارت جدلاً واسعاً بين الجمهوريين... وانتقادات من التقدميين

بايدن يستعد للتوقيع على مشروع قانون في البيت الأبيض الثلاثاء (أ.ف.ب)
بايدن يستعد للتوقيع على مشروع قانون في البيت الأبيض الثلاثاء (أ.ف.ب)
TT

تحديث البنى التحتية و«التفوق على الصين» في قلب خطة بايدن الاستثمارية

بايدن يستعد للتوقيع على مشروع قانون في البيت الأبيض الثلاثاء (أ.ف.ب)
بايدن يستعد للتوقيع على مشروع قانون في البيت الأبيض الثلاثاء (أ.ف.ب)

كشف الرئيس جو بايدن النقاب، أمس، عن خطته الاستثمارية لتطوير البنية التحتية الأميركية، وتبلغ قيمتها تريليوني دولار على مدى ثماني سنوات. وتسعى هذه الخطة الطموحة إلى تحديث شبكة النقل المتداعية في الولايات المتحدة، وخلق ملايين فرص العمل، وتعزيز القدرة التنافسية الأميركية على المدى الطويل. ويروّج مسؤولو إدارة بايدن لهذه الخطة من منطلق أنها مفتاح المنافسة الاقتصادية المتزايدة للولايات المتحدة مع الصين.
وفي تفاصيل الخطة التي أعلنها البيت الأبيض في 25 صفحة قبل ساعات من إلقاء بايدن خطابا في بيتسبرغ مساء أمس، كشف المسؤولون أن الخطة تستهدف أيضاً دعم مشروعات مكافحة تغير المناخ من خلال تسريع التحول إلى مصادر طاقة جديدة ونظيفة، وأخرى تساعد في تعزيز المساواة العرقية في القطاعات الاقتصادية.
وحدّدت الخطة مجالات الإنفاق، حيث وضعت 180 مليار دولار للبحث والتطوير، و115 مليار دولار للطرق والجسور، و85 مليار دولار للنقل العام، و80 مليار دولار لشركة «أمتراك» وقطارات الشحن. كما خصّصت 42 مليار دولار للموانئ والمطارات، و100 مليار دولار للنطاق العريض، و111 مليار دولار للبنية التحتية للمياه، فضلا عن مبالغ مخصصة لتدريب ملايين العمال الأميركيين، ودعم النقابات العمالية.
وتراهن إدارة بايدن بشدة على توسيع الإنفاق الحكومي الذي يهدف إلى زيادة استخدام السيارات الكهربائية، والتي لا تشكل اليوم سوى 2 في المائة من السيارات على الطرق السريعة في الولايات المتحدة، في إطار خطط حماية البيئة والتغير المناخي، حيث تقترح الخطة إنفاق 174 مليار دولار لتشجيع تصنيع وشراء السيارات الكهربائية من خلال منح ائتمانات ضريبية، وحوافز أخرى للشركات التي تصنع بطاريات السيارات الكهربائية في الولايات المتحدة بدلاً من الصين. وستمول الخطة أيضاً بناء حوالي نصف مليون محطة لشحن السيارات الكهربائية - رغم أن الخبراء يقولون إن هذا الرقم ليس سوى جزء ضئيل مما هو مطلوب لجعل السيارات الكهربائية خياراً سائداً.
وتقترح خطة بايدن 100 مليار دولار في برامج تحديث الشبكة الكهربائية، مع بناء المزيد من خطوط النقل من محطات الرياح والطاقة الشمسية إلى المدن الكبيرة.
ويعد هذا المشروع الاستثمار النصف أول من خطة الرئيس بايدن الطموحة لإصلاح الاقتصاد وإعادة هيكلة الرأسمالية الأميركية، التي يمكن أن تحمل تكلفة إجمالية تصل إلى 4 تريليونات دولار على مدار عشر سنوات.
وقال مسؤولون إن الخطة المطروحة سيستغرق تنفيذها ثماني سنوات، على عكس خطة التحفيز الاقتصادي الذي تم تمريره في عهد الرئيس باراك أوباما في عام 2009 عندما كان بايدن نائبا للرئيس.
وتواجه خطة بايدن الاستثمارية عراقيل كبيرة في الكونغرس، خاصة بعد استبعاد زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ دعمها. وقال السيناتور ميتش ماكونيل أمس إن الرئيس بايدن عرض عليه خطة البنى التحتية، وإنه من المستبعد أن يدعمها بسبب «الزيادة الضريبية الضخمة» التي تقترحها، و«تأثيرها المحتمل على الديون». يُشار إلى أن محاولات تمرير خطط استثمار في البنى التحتية الأميركية فشلت عدة مرات على مدار العشرين عاماً الماضية.
في المقابل، رأى مسؤولون أميركيون داعمين للخطة أنه، إذا تمت الموافقة عليها في الكونغرس، فإنها ستنهي عقوداً من الركود في الاستثمار الفيدرالي في مشروعات البنى التحتية، وستعيد الاستثمار الحكومي في تلك المجالات إلى أعلى مستوياته منذ الستينيات من القرن الماضي.
ويؤكد المنافس السابق لبايدن في الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين، بيت بوتيجيغ، الذي يشغل حاليا منصب وزير النقل وسيكون في الخط الأمامي في هذا الملف، أن الأمور ستكون مختلفة هذه المرة وأن الظروف مواتية. وقال بوتيجيغ: «أعتقد أننا أمام فرصة استثنائية لنيل تأييد الحزبين»، و«إظهار توجّه جريء على صعيد البنى التحتية». وتابع: «لا يحتاج الأميركيون لأن نشرح لهم أن البنى التحتية تستدعي تحركنا، وفي الحقيقة لا يمكن فصل البعد المناخي» عن هذا الملف.
ويرى مراقبون أن حجم الاقتراح يؤكد مدى إصرار بايدن على استغلال الفرصة لاستخدام الإنفاق الفيدرالي لمعالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأمد بطريقة لم يشهدها الاقتصاد الأميركي منذ نصف قرن. في حين أن الإنفاق على الطرق والجسور والتحسينات المادية الأخرى للأسس الاقتصادية الأميركية كان دائماً يتمتع بجاذبية وقبول لدى الحزبين، إلا أن خطة بايدن تثير معارضة جمهورية شديدة، بسبب حجمها الهائل أو لاعتمادها على زيادات ضرائب الشركات لدفع وتمويل هذه الخطة، بما في ذلك زيادة معدل ضريبة الشركات ومجموعة متنوعة من الإجراءات لفرض ضرائب على الشركات متعددة الجنسيات على الأموال التي تكسبها وتحجزها في الخارج. ويتخوف الجمهوريون أن تمويل هذه الخطة سيستغرق 15 عاماً لتعويض تكلفة برامج الإنفاق بالكامل.
وقال ماكونيل في وقت سابق من هذا الأسبوع إنه لا يريد أن يرى زيادات ضريبية لدفع فاتورة البنية التحتية، مشيرا إلى أن تمويل خطة بايدن سترفع معدلات الضرائب على الشركات من 21 في المائة إلى 28 في المائة، وسيعيد التفاوض حول الحد الأدنى للضريبة العالمية على الشركات متعددة الجنسيات.
بعض الديمقراطيين في الكونغرس انتقدوا أيضاً اقتراح بايدن بشأن البنية التحتية. ويتمتع الديمقراطيون بأغلبية ضيقة في مجلسي النواب والشيوخ، مما يعني أنه لا يمكن لبايدن وقيادة الكونغرس تحمل خسارة أي أصوات ديمقراطية. وقالت عضوة الكونغرس ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، من أبرز الأعضاء التقدميين في مجلس النواب، في تغريدة الثلاثاء إن مشروع القانون محدود للغاية وطالبت بزيادته. في الوقت نفسه، أصر بعض الديمقراطيين في نيويورك ونيوجيرسي على أنهم لن يدعموا أي تغييرات في قانون الضرائب، ما لم تتم استعادة تخفيض الضرائب على مستوى الولاية والمحلية.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟