رحيل برتران تافرنييه السينمائي ذي البصمة الإنسانية

اعتنى بتفاصيل الفيلم التاريخي كما لم يفعل سواه

برتران تافرنييه
برتران تافرنييه
TT

رحيل برتران تافرنييه السينمائي ذي البصمة الإنسانية

برتران تافرنييه
برتران تافرنييه

فيلم «موت مباشر» (La Mort en direct أو Death Watch كما اتخذ عنوانه الإنجليزي) عبّر عن مخرج يريد، بإخلاص، تحويل المشاهد إلى عين الكاميرا، وهو تبتلع أمامها كل ما يحدث. لم يكن مخرج الفيلم، برتران تافرنييه أول من استخدم الكاميرا على هذا النحو، لكن فيلمه كان من بين أفضلها وبالمقارنة مع أفلام أميركية وأوروبية أخرى عالجت حكاياتها بالأسلوب البصري ذاته (الكاميرا تقود من وجهة نظر البطل التي تتحول إلى وجهة نظر المُشاهد) ما زال إلى اليوم من بين الأتقن والأفضل لناحية ربط الأسلوب بالمعنى وبالحبكة.
‫رودي، بطل «دَث ووتش» كما أداه الأميركي هارفل كيتل، مهووس بالكاميرا. حسب قول المخرج حينها: «رودي أصبح كاميرا. شعرت بعلاقة على هذا النحو. الخوف الذي يمتلكني كمخرج نوعان: يبدو في بعض الأحيان أن كل شيء تراه ينتقل بلا وعي ليصبح سينما. هذا يمكن له أن يكون خطراً جداً، لأنه قد تشهد أي شيء حزين أو قريب منك، وفجأة تفكر بأن هذا الحدث فكرة عظيمة لفيلم».‬ الشأن الثاني الذي اعتبره تافرنييه خطراً هو أنه أخذ لا يشعر بأنه حقيقي ومنفتح ويقظ إلا عندما يبدأ تحقيق فيلم. هذا الشعور نقله إلى ذلك الفيلم بسطر من حوار زوجة بطله التي تقول: «يفهم الأشياء فقط عندما يصوّرها».

ساعاتي ليون

ليلة أول من أمس، أعدتُ اكتشاف فيلمه «L‪.‬677» الذي كان أنجزه سنة 1992. هو فيلم بوليسي عن الحياة الصعبة التي يعيشها أفراد من الشرطة التابعة لقوى الأمن المسؤول عن مكافحة جرائم المخدرات. والعبارة ذاتها التي وردت في «دَث ووتش» سُمعت ثانية في «L‪.‬677» لكن هذه المرّة باعتراف مباشر من الزوج وأحد رجال الفرقة لوسيان، أو لولو كما يناديه أترابه (قام به الفرنسي ديدييه بيزاك). يقول: «أشعر كما لو أفهم الأمور على نحو أفضل عندما أقوم بتصويرها».
ترافنييه هو كلا هذين البطلين، وسنجده، بقدر أو بآخر، في العديد من أفلامه الخمسة والعشرين الأخرى من حيث إنه كان مخرجاً محبّاً ومتعاطفاً مع محن أبطاله وشخصياته عموماً (الشرطي في «L‪.‬677» والضحية معاً) ولفهم شخصياته شعر، إذا ما كان الفيلم مناسباً، بأن عليه أن يجعل بؤرته البصرية مدخلاً لما يدور، عوض أن يروي بنفسه ما يقع أمام الكاميرا. هذا هو الفارق بين أن تتدخل، وألا تتدخل فيما تعرضه تاركاً في الحالة الثانية لشخصياتك تولّي مهمّة السرد عوضاً عنك كمخرج.
وُلد في مدينة ليون، فرنسا، في الخامس والعشرين من أبريل (نيسان) 1941، ابناً لمناضل ضد الاحتلال الألماني آنذاك. وفي البداية درس القانون ثم انحاز صوب حبّه للسينما وأخذ يحقق الأفلام من عام 1974.
أول فيلم جاء به كان «ساعاتي سان بول»، الرواية التي وضعها الكاتب البوليسي ذو الشهرة جورج سيمنون. فيليب نواريه قاد البطولة لاعباً دور الساعاتي الذي يكتشف أن ابنه (جاك دِنيس) بات مجرماً. يحاول أن يفهم ابنه، والدور الذي لعبه هو في تحويل ابنه إلى قاتل من دون أن يدري. هذا إذا كان لعب دوراً ما. يشي بذلك للمحقق (جان روشفور)، ويكتشف لاحقاً أن الجريمة التي ارتكبها ابنه كانت بدوافع سياسية تلاقي عنده، وهو الكائن الهادئ كالحي الذي يعيش ويعمل فيه، القبول.
‫عرض الفيلم في مهرجان برلين، وخرج منه بجائزة لجنة التحكيم الخاصّة. وهو ربح جوائز أولى في عدد كبير من المهرجانات، في 1995 عاد إلى برلين، وحاز «الدب الذهبي» عن «طُعم طازج» (Fresh Bait). قبل ذلك نال جائزة سيزار الأولى عن «دع العيد يبدأ» (فيلمه التاريخي الأول، وتقع أحداثه سنة 1719) وفي عام 1984 نال سيزار أفضل سيناريو عن «يوم أحد في الريف» (A Sunday in the Country) الذي سرد فيه حكاية عائلية تقع أحداثها قبيل الحرب العالمية الأولى. وفي 1990، نال جائزة «بافتا» البريطانية عن «لا شيء سوى الحياة» (La vie et rien d’autre: دراما مع فيليب نواريه أيضاً (مجموع أفلامه مع المخرج 6) وسابين أزيما ملأها المخرج بشحنته المعتادة من العاطفة المدروسة ببطء وثراء.‬
هذا نَذْر مما خرج به من جوائز خلال الثمانينات والتسعينات، وهو منوال استمر حتى سنة 2017، عندما نال جائزة أفضل فيلم تسجيلي عن «رحلتي عبر السينما الفرنسية» (Voyage á travers le Cinewma français). وهذا بعد أن منحه مهرجان فنيسيا جائزة الإنجاز الذهبية عن مجمل أعماله، سنة 2015.

أفلامه الأهم

لم يكن «رحلتي عبر السينما الفرنسية» فيلمه التسجيلي الوحيد. عادة ما اعتبرها النقاد بمثابة فترات راحة رغم قلة عددها. تافرنييه أنجز 4 أفلام من هذا التصنيف، أولها: «مسيسيبي بلوز» سنة 1983. ثم «حرب بلا اسم» (1992)، ثم «حكايات مُوَلّفة عن حيوات مكسورة» (Histoires de vies brisées)، وصولاً إلى «رحلتي عبر السينما الفرنسية» الذي شمل انعكاسات السينما على روح وفن المخرج منذ بداية شغفه بهذا الفن وحتى زمنه الحاضر.
على قدر كبير، هو فيلم تاريخ والتاريخ عند تافرنييه أمر مهم دارت حول عدّة أفلام منذ أن حقق «دع العيد يبدأ». عاد أكثر من مرّة إلى حكايات التاريخ الفرنسي، وآخر مرّة كانت سنة 2010 عندما أخرج فيلمه الرائع «أميرة مونبنسييه» مع ميلاني تييري ولامبرت ولسون وغاسبار يولييل في الأدوار الرئيسية. هذا الفيلم الذي تقع حكايته في غضون الحروب الدينية والسياسية، وتلك التي في القصر الملكي الفرنسي آنذاك أكدت العناية الفائقة التي كان تافرنييه يوليها لأفلامه التاريخية؛ من الملابس إلى تصاميم الشعر إلى تفاصيل الديكور والسلوكيات والحوارات وكل ما يتصل بالحقبة المعروضة من نسيج شامل تحيي لا الواقعية (فهو لم يكن مخرجاً واقعياً مطلقاً) بل ما يمكن نعته بـ«الحقيقية».
في مفهومه، فإن مسألة معايشة الفيلم التاريخي عليها أن تبدأ بالمخرج الذي يعي أن مسألة تقديم الحقيقة (بدءاً بالشوارب غير الملصوقة وانتهاء بالأثواب المصنوعة خصيصاً) تعني شيئاً واحداً: الدقّة. لكن على الجانب الآخر، يتراءى لهذا الناقد أن المخرج لم يكن يريد منا متابعة فيلم تاريخي، كما لو أننا سندخل الفيلم ونصير جزءاً من حياته وتركيبته، بل علينا أن نبقى على بُعد. هذا مفهوم الحياكة المسرحية المبدئي. لا تطلب منك المسرحية التاريخية أن تشعر بأنك جزء من التاريخ، بل همّها أن تنقل ذلك الجزء إليك في واقعك الحاضر.
كذلك لإيصال التاريخ إلى المشاهد (بصرف النظر عن الفترة التي يحكيها) أحب توظيف الشاشة العريضة، كما أحب أن يملأها بالشخصيات أو الإكسسوارات، وإذا تركها فارغة أحياناً فهذا طبيعي، لأنه يعرف كيف يستغل هذا الفراغ في الشاشة العريضة عوض استثنائه أو رفضه أساساً.
حين يأتي الأمر إلى تقييم أعماله، فإن هذه الأفلام التالية تقفز إلى الأمام متقدّمة عن سواها.
> «ساعاتي سان بول» (1973) بكل ما حواه من شغل على بحث في علاقة إنسانية تنشأ بين الأب والمحقق توازيها بحث آخر في العلاقة المفقودة - الموجودة بين الأب وابنه.
> «أسبوع عطلة» (Une semaine du vacance) تسعى مدرّسة (نتالي باي) لإعادة تقييم حياتها. تأخذ عطلة لتحقيق ذلك؛ فإذا بالهدف يتّسع أكثر مما كانت مستعدة لاستقباله. هذه دراسة درامية جيّدة للموضوع، ولو أن الفيلم ليس من بين الأفضل حقاً.
> «طلقة تورشون» (أو Clean Slate كما عنوانه الإنجليزي): عن رواية للكاتب البوليسي جيم تومسون وبطولة موزعة بين فيليب نواريه وإيزابيل أوبير. الروائي المعروف وضع حكايته البوليسية في مقاطعة بوركاسا الأفريقية سنة 1938. تافرنييه نقلها إلى شمال أفريقيا في الزمن الحاضر حيث، وتبعاً لطينة حياته، يبدأ باستخدام سلطته لتنفيذ تعاليمه مهدداً من لا يمتثل لها.
> «لا شيء سوى الحياة» (1989) دراما مسكونة بالمخاوف والتوتر تنفذ إلينا من موضوع جديد لم نره قبل أو بعد هذا الفيلم: دافن موتى مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تشغله المهمّة التي ينبري إليها عن كل شيء آخر، بما في ذلك حبه لزوجته.
> «ابنة دارتانيان» (D›Artagnan›s Daughter): تتجلّى في هذا الفيلم المنتج سنة 1984 أسباب للاعتقاد بأن شغل تافرنييه على المواضيع التاريخية ليس بعيداً عن شغل واهتمام جون فورد في أفلامه «الوسترن» حيال شخصياته الآيرلندية المفضّلة على سواها. مثل «هنري فوندا» في «ارتدت وشاحاً أصفر» في فيلم جون فورد (1949) يراجع دارتنيان (فيليب نواريه) حياته في عمر متأخر لا يمنعه من أداء المهمّة الأخيرة دفاعاً عن الملك.
> «كابتن كونان» (1995): بينما «ابنة دارتانيان» فيلم مبتسم في أحلك الظروف، يأتي «كابتن كونان»، كفيلم داكن في كل الظروف. بطله (فيليب تورتون) قائد خاض الحرب العالمية الأولى بدهاء وقسوة وشجاعة. ما الذي سيحدث له بعد الحرب هو ما يتمحور حوله الموضوع، كما وضعه السيناريست جان كوزموز الذي اشتغل مع تافرنييه عدة مرّات.
> في «يوم أحد في الريف» (1984) نجد تافرنييه في حالاته المرحة والعاطفية مرّة أخرى. فيلم مأخوذ عن رواية للفرنسي بيير بوست برحيق السيرة (اعتقد تافرنييه أنها انعكاس لسيرة المؤلف الشخصية). حكاية رسام يتوقف عن فنه ليراجع حياته المقلقة.
> «حول منتصف الليل» (1986) يعود تافرنييه إلى موضوع داكن كان «يوم أحد في الريف» غلّفه بريشة كوميدية. جزء من سيرة حياة عازف الجاز والبلوز الأميركي دايل تيرنر (قام به دكستر غوردون) ومشاكله مع نفسه وإدمانه وفنه.
هذه الأفلام، لجانب «L‪.‬677» و«أميرة مونبنسييه» هي ما يتوقف عندها النقاد أكثر من سواها من بين أفلام تافرنييه، وهم على حق. هذا رغم أن علاقة المخرج مع النقاد الفرنسيين كانت، كحالها عموماً، على تناقض، يشعل فتيلها خطأً بعض النقاد عدم التعمق جيداً فيما ينقدونه، وخطأ بعض المخرجين بموقف التعامل مع النقاد كإضافات لا لزوم لها في أفضل الأحوال. تافرنييه كتب مهاجماً «النقاد الذين يمزقهم الضياع بين الرغبة في خدمة ذواتهم وخدمة الذوق الوحشي للجمهور» كما كتب. هذا الموقف ازداد حدّة في التسعينات عندما لاحظ المخرج اهتمام النقد الفرنسي بالأفلام الأميركية والعالمية الأخرى بعدها، على حساب الأفلام الفرنسية.
في نهاية المطاف، فإن برتران تافرنييه لم يكن مجرد سينمائي عابر في سماء الفيلم الفرنسي. مثله في ذلك مثل إيف بواسيه وكلود سوتيه وحفنة أخرى التي أنجزت أفلاماً رائعة، لكنها لم تحز الشهرة ذاتها لبعض المحدثين، مثل فرنسوا تروفو وجان - لوك غودار. هو، وبواسيه وسوتيه على وجه التحديد، برهنوا على أن الفيلم الجيد لا يمكن تحديد مواصفاته، بحسب إذا ما كان منتمياً لسينما شعبية (ولو بمواضيع جيدة التأليف والتنفيذ) أو لسينما فنية. الفن بذلك، حيث تجده وليس حيث تتمناه.


مقالات ذات صلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

يوميات الشرق «صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

تعود أحداث فيلم «صيفي» الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة، إلى فترة أواخر التسعينات.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق المخرج محمد سامي في جلسة حوارية خلال خامس أيام «البحر الأحمر» (غيتي)

محمد سامي: السينما تحتاج إلى إبهار بصري يُنافس التلفزيون

تعلَّم محمد سامي من الأخطاء وعمل بوعي على تطوير جميع عناصر الإنتاج، من الصورة إلى الكتابة، ما أسهم في تقديم تجربة درامية تلفزيونية قريبة من الشكل السينمائي.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين رئيس في مشهد من فيلم «الفستان الأبيض» (الشركة المنتجة)

لماذا لا تصمد «أفلام المهرجانات» المصرية في دور العرض؟

رغم تباين ردود الفعل النقدية حول عدد من الأفلام التي تشارك في المهرجانات السينمائية، التي تُعلي الجانب الفني على التجاري، فإن غالبيتها لا تصمد في دور العرض.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق الفنانة الأردنية ركين سعد (الشرق الأوسط)

الفنانة الأردنية ركين سعد: السينما السعودية تكشف عن مواهب واعدة

أكدت الفنانة الأردنية ركين سعد أن سيناريو فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»، الذي عُرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، استحوذ عليها بمجرد قراءته.

انتصار دردير (جدة )
يوميات الشرق إيني إيدو ترى أنّ السينما توحّد الشعوب (البحر الأحمر)

نجمة «نوليوود» إيني إيدو لـ«الشرق الأوسط»: السينما توحّدنا وفخورة بالانفتاح السعودي

إيني إيدو التي تستعدّ حالياً لتصوير فيلمها الجديد مع طاقم نيجيري بالكامل، تبدو متفائلة حيال مستقبل السينما في بلادها، وهي صناعة تكاد تبلغ الأعوام الـ40.

إيمان الخطاف (جدة)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».