مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين

نادر كاظم يفكك المغالطات التاريخية في كتابه الجديد «الشيخ والتنوير»

مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين
TT

مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين

مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين

في حين كان الصيادُ العجوز في رواية «الشيخ والبحر» لإرنست هيمنغواي يدركُ أن خوضَ البحرِ عميقاً لن يجعلَ الهزيمة تطاله، فإن أحداً لم يؤمن بذلكَ سوى الفتى مانولين الذي يرى في الشيخ المنسي (سانتياغو) إصراراً على عدمِ الاستسلامِ أمامَ الهزائمِ، والذي رغمَ التهامِ أسماكِ القرشِ لانتصاره الوحيد، فإنّه عرِفَ في تأمله للنّجومِ والقمر أنّ الرّحلة كلّها لم تكن لأجلِ السّمكة، وإنّما كي يصلَ إلى البيتِ ويحلم. ولربّما مثل هذه الحكاية التي تضعُ عجوزاً وبحراً، بشراً وأسماكَ قرش، فتى صغيراً وفكرة واحدة -يبصرُها العامّة نحساً، ويراها هو ملهمة- بصفتها رمزياتٍ متقابلة عميقة رغمَ بساطتها، تبدو شبيهة تماماً في سياقاتها ووقائعها بالبيئة التي عاشها شيوخُ التنوير الأوائلِ في البحرينِ والمنطقة، حيث النحسُ الذي يلقيه الناسُ على محاولاتِ عجوز هيمنغواي كان في عمقه يشبُه الاتّهامات المتلاحقة لهؤلاء الشّيوخ الذين جاروا روحَ العصرِ، وقرروا الإبحارَ بعيداً عن الموروث. أما الفتى (مانولين)، فقد تناسَخت ملامحه في أولئكَ الذين كانوا يبصرون الضّوء الأوّل للتّنوير، وسيرة الضّوءِ الذي أصرّ على تحريرِ العقلِ من الماضويّة المُحافِظة.
في كتابه الصادر في يناير (كانون الثاني) 2021، يعقد الباحث البحريني د. نادر كاظم موازنة جميلة بين كتابه الأخير «الشيخ والتنوير» و«الشيخ والبحر»، حيثُ يتأملُ نادر تكوينات الحكاية لكلّ منهما، ويكشفُ عن مقارباتٍ فكريّة بين الشّيوخ التنويريين الأوائل (الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، والشيخ ناصر الخيريّ، والشيخ محمد صالح خنجي). غير أنّه للوصولِ إلى هذه القراءة المتعمقة في النسيجِ الاجتماعي والثّقافي الذي يلفُّ هؤلاء الشيوخ الثلاثة، وفهمِ السّياقات التاريخيّة والوقائع، تبنّى د. نادر كاظم بصيرة مانويل (الفتى)، ومارسَ دورَ المنقّبِ الذي يسعى لتفكيكِ الطّبقاتِ التاريخيّة للثّقافة البحرينيّة، وحوّل انغماره في عالم الصّورِ والوثائقِ وما تبقّى من مكتباتٍ قديمة إلى حكاية أخرى، وهو ما منَح المفكّر القدرة على رؤية الأشياءِ بعمقها وتأويلاتها، لا بسطحِ الحكاية ومجرياتِ الأحداث، بل عبر اختبار الطّبقات الزّمنيّة لتكوّن فكرة التنوير بطريقة المنقّب الذي لا يكتفي بالدّليلِ الوحيد الذي يعثرُ عليه، وإنّما بالبحثِ المستمرِّ عن الدّلائل والتفسيرات، وبقراءة خرائطِ الوقتِ والمكانِ، وبزرعِ الشّخوصِ ضمن بيئات تشكيلِ وعيها ونموّه.
أطلق المؤرّخَ مبارك الخاطر على الحقبة الزّمنيّة بين 1875م و1925م اسم «عصر إبراهيم بن محمد الخليفة رائد الثّقافة الحديثة في البحرين». يُشيرُ إلى ذلكَ د. نادر كاظم، ثمّ يُعيدُ تفكيكَ المغالطات التاريخيّة بعد موازنتها ومقاربتها بتاريخِ صدور المجلّات الثّقافيّة، وبعد إعادة سردِ السّياقات التاريخيّة للأحداثِ ونشوءِ الأفكارِ، ليتوصّل القارئ إلى أنّ الفاصلَ التاريخي في سيرة الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة في الواقعِ هو موتُ أبيه الشيخ محمد بن خليفة (حاكم البحرين الرابع) في عام 1890م. لقد تحوّل الشيخ من الشّعرِ إلى التنويرِ، وتحرّرَ من الأبِ والشّعرِ معاً «فمع كلّ انقطاعٍ، ينعتقُ شيءٌ ما إيذاناً بولادة جديدة. وفي هذه اللّحظة تحديداً من الانعتاق، يُولَدُ (عصر إبراهيم بن محمد) بأفول (عصر محمد بن خليفة)، كما تبدأ أبوّة الشيخ إبراهيم لثقافة البحرين الحديثة بالانقطاعِ عن الشّعرِ الكلاسيكيّ»، ويواصل: «فإنّ التحرّر من الشّعرِ يعكسُ تحرّراً من هذا الماضي بكلّ ثقله، مع أساليبِ تفكيره وتعبيره، من أجلِ مجاراة روحِ العصرِ الحديث».
وفي حين كانَ الفقهاء ورجالُ الدّين يكرهون الكتب العصريّة، ويسمّون أصحابها مبتدعة، ويغالي بعضهم بتكفير من يقرأها وتفسيقه، كان الشيخ إبراهيم رجلاً عصرياً بامتيازٍ، إذ لم يكتفِ بالمطالعة والقراءة، بل شارَكَ الشباب وأبناء جيلِه هذه الاهتمامات بمجاراة روحِ العصرِ، وعرف النّاس مجلّتي «العروة الوثقى» و«المقتطف» من مجلسه في المحرّق، وذلكَ قبل «أن يأتي النصارى المبشرون إلى البحرين بسنواتٍ قليلة جداً»، كما يذكرُ الخاطر. وبلغ اهتمامه إلى حد عدم التفاته إلى ما يمكنُ أن ينجرّ عليه من اتّهامات، فكّلفَ التاجر النّجدي مقبل الذّكير باستيرادِ مجلّتي «المقتطَف» و«الهلال» في عام 1895م.
إلى جانبِ ذلك، فقد شكل مجلس الشيخ إبراهيم في منزله بالمحرّق، بعد عودته من مكة المكرمة في عام 1889م، منتدًى ثقافياً احتضنَ كثيراً من النقاشات ووجهات النظر، حتّى صارَ «نافذة مفتوحة على العالم».
ولقد قدم الشيخ إبراهيم بن محمد نموذجاً تنويرياً مغايراً، ليس من خلال ثقافته الشخصيّة فحسب، بل كذلك من خلال تنوير الآخرين عبر التعليم الحديث، حيث كرّسَ الشيخ إبراهيم شغفه لأمور المدرسة العصريّة الأولى في البحرين (مدرسة الهداية الخليفيّة)، إذ كان حريصاً على التعليم الحديث المُستنير، وقد تكوّنت لديه قناعة بأن الشّرط الضّروري اللّازم للتّنوير يتمثّل في كلمة واحدٍة، وهي التعليم، والتعليم المدني الحديث (العصريّ) تحديداً، لأنّ ما يجعل الإنسان عاجزاً عن استعمال عقله دون وصاية، وما يجعل هذا الإنسان المفطور على الحرّيّة ينساق مثل القطيع وراء أفكار واعتقادات وممارسات الآخرين، دون دراسة أو تعقّل، إنّما هو الجهل.
وبعكسِ الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، تبدو سيرة المثقّف التنويري «ناصر الخيريّ» مسيّجة بالألغازِ والاحتمالات، يصفها د. نادر كاظم بأنّها لغزٌ من الألغازِ في تاريخ الثّقافة الحديثة في البحرين. وخلافاً لسيرته الذّاتيّة، فإنّ سيرة أفكارِ ناصر الخيري هي التي خلّدته في تاريخ البحرين الثّقافي الحديث، إذ كان يمتلكُ من الجرأة وأدواتِ الكتابة ما جعله قادراً على التعبيرِ عن أفكارِه بوضوحٍ وصراحة كلّفته الكثير فيما بعد. وقد شكّلت أسئلة ناصر الخيري مرساة تاريخيّة لذاكرة هذا المثقّف التنويريّ، حيث يؤكّدُ د. نادر أنّ أوّل ظهورٍ لناصر على مسرح الحياة الثّقافيّة الحديثة كان على صفحات مجلّة «المقتطف» التي تعرّف عليها في منتدى الشيخ إبراهيم الثّقافيّ، ثمّ في مكتبة المبشّرين بعد ذلك، حيث كان يتساءلُ عمّا إذا كان بيعُ الرّقيقِ فضيلة أم رذيلة «فإن كان الأوّل، فلماذا يُصادره الغربيّون. وإن كان الثّاني، فلماذا لا يقولُ بتحريمِه رجالُ الدّين في الشّرقِ؟». ويبدو في هذا السّؤال تفتّح بصيرة الخيري على مفاهيم مثل الحُريّة والمساواة وإنهاء العبوديّة، خصوصاً أنه ينتمي إلى أسرة متواضعة، وكان سواد بشرته علامة بارزة تُذكّره بأصوله الإثنية ومكانته الاجتماعيّة. إلّا أنّ المحنة الأولى لم تكن في الأسئلة الأولى لـ«المقتطف»، بل في تلكَ اللّاحقة لمجلّة «المنار»، إذ يذكرُ د. نادر أنّ علاقة ناصر الخيري بهذه المجلّة استمرّت على ما يُرام في الأعوامِ بين 1911 و1913م، وكان يرى فيها مجلّة إسلاميّة مؤثّرة، يمكن أن يتوّسلَ بها لمآربَ إصلاحيّة نهضويّة، وظنّ أنّها مناسبة لتحقيقِ غرضين دفعة واحدة: الأوّل استصدار فتوى دينيّة، واستثمارِ هذه الفترة في انتقادِ ممارساتٍ اجتماعيّة ودينيّة يرى أنّها بحاجة إلى تصحيح.
يسردُ د. نادر كاظم تداعيات أسئلة الخيري الجريئة لمجلّة «المنار» في عام 1913م، فقد كشفت الأسئلة التوجّه السّلفي المتشدّد للمجلّة وصاحبها، كما كشفت هشاشة الدّعامات الإصلاحيّة التي كانت الفعاليّات الثّقافيّة في البحرين تقفُ عليها.
وعلى خلافِ ما يمكن أن يتوقّعه الخيري، جاءَ ردّ رشيد رضا متشدداً متزمتاً، بل كانَ كما يصفهُ د. نادر محاكمة للنّوايا، حيث أشارَ من خلاله رشيد رضا إلى أنّ كلام السائل «سرى إليه من شبهات النصارى والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثالِ هذا الكلام المبني على جهلِ قائليه من جهة، وسوء نيتهم في الغالبِ من جهة أخرى». ولم تنتهِ المحنة هنا، بل هدد الشيخ قاسم المهزع (قاضي القضاة آنذاك) بجدعِ أنفِ ناصر تعزيراً له، وإغلاق نادي إقبال أوال الليليّ.
أمّا المحنة الثّانية في حياة الخيريّ، فقد كانت الوطن، خصوصاً إثر التحوّلات السّياسيّة التي شهدتها البحرين عقب انتهاء الحربِ العالميّة الأولى، وإصدار قانون المُستَعمرات أو المرسوم الملكي البريطاني، حيثُ يُوضح د. نادر كاظم في قراءته للمشهدِ السياسي الاجتماعي المتكون آنذاك أن البحرين في الفترة (1919-1923م) قد أصبحت مسرحاً للانقسامات الحادة في المواقف السياسيّة الرسميّة والشعبيّة، ووجد ناصر الخيري نفسه في غمار هذه الانقسامات موزعاً بين المثقف المستنير الذي يؤمن بالحرية والدولة الحديثة والإنسان الذي لا يريد أن يخسر صداقاته مع شباب النادي الأدبي الذي تأسس في المحرق في عام 1920.
وبعد ذلك، يتعمق الباحث في سيرة الشيخ الثالث (الشيخ محمد صالح خنجي)؛ الشيخ الأزهري الذي انخرط في دراسته والأزهر في أوج صعوده الإصلاحيّ. وقد استفادَ من هذه المرحلة التي أسهمَت بعمقٍ في تشكيل وعيه الثقافي والتنويريّ، إلى جانبِ البيئة الخصِبَة التي هيمنت على مصر في تلكَ الحقبة، حيث كانت مقراً لنخبة الإصلاحيين العرب وكبار مثقفي النهضة، من أمثال فرح أنطون وشبلي الشّميل ويعقوب صروف وعبد الرّحمن الكواكبي، وحتّى رشيد رضا، وآخرين. وفورَ عودته من مصر في عام 1902م، انهمكَ الشيخ محمد صالح خنجي في سلسلة من الأنشطة الثقافيّة والتعليميّة، وأدارَ مدرسة أهليّة في مدينة المحرّق، ورأس نادي إقبال أوال. إلا أن الأهم كان سعي الشيخ في تأصيل التسامح الديني منذُ عام 1913م، التي يجدُها د. نادر محاولة فريدة مبكرة سابقة لأوانها في البحرين، فقد أبدى خنجي تفهماً ووعياً مبكراً للتسامحِ ورؤاه الكونيّة الإنسانيّة. وقد استدعى د. نادر كاظم محاضرة ألقاها الشيخ عن الأديان في عام 1913، مبيناً أنها قدمت تأصيلاً مبكراً شجاعاً للتسامح بين البشر. وقياساً مع أطروحات القراءات الحداثية للدين والنصّ الدينيّ، فقد توصل الشيخ محمد صالح إلى أهمية الحاجة إلى تقديم قراءة حداثيّة للدين والشريعة، بما يسمحُ بالتمييز بين ما هو جوهري في الدين وما هو تاريخي في الشريعة، وذلكَ قبل سنواتٍ طويلة من ظهورِ تلك الأطروحات، مؤكداً أنّ هذا الشيخ الأزهري قد اضطّلع بمهمة شجاعة لتفكيك العقل اللاهوتي المغلق، ومواجهة التعصب الديني الخطير.
* كاتبة وشاعرة ومهندسة معمارية - إدارة التراث الوطني بهيئة البحرين
للثقافة والآثار


مقالات ذات صلة

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

يوميات الشرق طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة.

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)

«فلمّا أفَلَت»... حين تدخل الرواية السعودية إلى فضاء السؤال الفكري

في مشهد ثقافي سعودي يتسع للأسئلة بقدر ما يحتفي بالحكايات، تبرز أعمال روائية لم تعد تكتفي برصد التحولات الاجتماعية، بل تمضي أبعد من ذلك، نحو مساءلة الفكر.

أسماء الغابري (جدة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة...

أسماء الغابري (جدة)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».


هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية
TT

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، الصادر عن «دار بيسان للنشر والتوزيع» (الطبعة الأولى، نوفمبر «تشرين الثاني» 2025)، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان، لتقدِّم عملاً أدبياً يستند إلى الذاكرة الشخصية والجماعية، ويعيد صياغة تجربة الحرب الأهلية بلغة وجدانية وتأملية بعيدة عن المباشرة والتقرير.

الكتاب ليس سرداً زمنياً للحرب، ولا توثيقاً صحافياً بالمعنى التقليدي؛ بل هو مجموعة نصوص مفتوحة تتداخل فيها السيرة الذاتية مع المشهد العام، ويتحوَّل فيها المكان إلى كائن حي، والمدينة إلى وتر مشدود على الألم والفقد والصمود.

تستعيد هدى سويد نصوصاً كُتبت في قلب الحدث أو على مقربة منه، وتعيد جمعها بعد سنوات طويلة، في محاولة لمواجهة الذاكرة؛ لا للهروب منها، ولتحويل ما تبقَّى من الرماد إلى كتابة. تتنقَّل نصوص الكتاب بين الوجداني والسردي، بين اليومي والرمزي، حاملة آثار القصف، والرحيل، والخوف، وأسماء الأمكنة التي تغيَّرت أو اختفت، وأصوات البشر الذين مرُّوا في الحياة ثم غابوا. وفي خلفية هذه النصوص، تبرز تجربة الكاتبة الصحافية التي عملت في الصحافة الاستقصائية والتحقيقات الميدانية والمقابلات الثقافية والسياسية، ما يضفي على اللغة حسّاً واقعياً لا يلغي بُعدها الشعري.

في مقدمة الكتاب، تكشف هدى سويد عن الصعوبة التقنية والنفسية التي رافقت جمع هذه النصوص، بدءاً من استعادتها من أرشيف صحافي قديم، وصولاً إلى الغوص مجدداً في زمن الحرب. تعترف بأن العودة إلى تلك المرحلة أعادتها إلى ليالي القصف ونهارات الخوف، إلى صور الموت والتهجير وسيارات الإسعاف، وأنها كثيراً ما توقفت أمام النصوص باكية، مثقلة بثقل الذاكرة. من هنا، يأتي الكتاب بوصفه فعل مواجهة، لا حنيناً، ومحاولة لفهم الماضي لا لتجميله.

تضم المجموعة عناوين تشكِّل معاً لوحة فسيفسائية لمدينة مجروحة، مثل: «حين يصغر المكان»، و«أضغاث وقت»، و«طريق الصحراء»، و«لكَ المدينة»، و«عزف رحيل على أوتار مدينة». وهي نصوص لا تَعِد القارئ بالفرح، ولكنها تفتح له باب التأمل فيما جرى، وفي أثره المستمر على الحاضر؛ خصوصاً لجيل لم يعش الحرب؛ لكنه يرث ظلالها.

شهادات نقدية

في مقدمة الكتاب، يرى الناقد والشاعر محمد فرحات أن هدى سويد تلتقط من الحرب «قبساً؛ لا المحرقة كاملة»، وتحوِّل التجربة إلى لغة تصف الواقع وتعيد نحته في آن. ويشير إلى أن الكتابة هنا ليست تحقيقاً صحافياً؛ بل هي أدب يعيد رسم الأمكنة والبشر في زمن الزلزال؛ حيث تتخذ اللغة شكلاً مفتوحاً، مرناً، قادراً على احتواء الفوضى الإنسانية للحرب الأهلية. أما الكاتب والصحافي أحمد أصفهاني، فيتوقف عند فعل «الانتقاء» الذي قامت به الكاتبة لنصوصها القديمة، معتبراً أن هذا الفعل يشبه نفض غبار العمر عن لحظات ولادة قاسية. ويؤكد أن سويد لم تفصل ذاتها عن الحدث؛ بل أخذت القارئ معها في رحلة إلى أمكنة وأزمنة ما زالت محفورة في الذاكرة؛ حيث تتقاطع المهنية الصحافية مع الحس الإنساني العميق.

من جهته، يرى الشاعر والناقد أنطوان أبو زيد أن «عزف على أوتار مدينة» يندرج ضمن أدب الذكرى والتأمل في الزمن المُر، ويشير إلى أن القارئ يواجه نوعين من النصوص: وجدانيات مشبعة بالخوف والفقد والوحشة، ونصوص تخييلية جميلة تنفتح على التحليل والتأمل. ويعتبر أن قوة الكتاب تكمن في قدرته على تحويل الألم إلى مادة أدبية، لا لتثبيته؛ بل لإعادة التفكير فيه.


«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة
TT

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

في كتابه «الخروج من الظل - قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يركز الناقد الراحل دكتور محمد سيد إسماعيل على نموذج الأنثى المتمردة، كما رسمت ملامحها عدد من الكاتبات اللواتي يمثلن تجارب ومنطلقات مختلفة مثل رضوى عاشور وهالة البدري وسلوى بكر، مشيراً إلى أن هذا التمرد غالباً ما يتجه إلى سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها تحت مبررات واهية.

عشق يصدم المجتمع

في قصة «رأيت النخل» لرضوى عاشور، تبدو الشخصية الرئيسية في مواجهة مجموعة من «التقاليد» المجتمعية الراسخة التي تقرر للمرأة بعض الأعمال وتستهجن قيامها بأعمال أخرى. لكن (فوزية) لا تقر هذا ولا تلتزم به وتؤكد «تمردها» الدائم عليه. هي مغرمة بالنبات، غراماً يجعلها تراه في أحلامها وتستحضر دائماً ما كان يرويه أبوها عن النخل الذي يشبه الإنسان في استقامة القد والجمال، وخلقه من ذكر وأنثى وكيف أن «جُماره» في رأسه كعقل الإنسان في رأسه إن أصابها سوء هلك؛ ولهذا فقد كانت تركض خلف نواه وتخبئه في جيبها العميق، وعندما ترجع إلى البيت تضعه في قطنة مبللة حتى يلين وينتفخ ثم تدفنه في الطين وتغمره بالماء.

تقول فوزية: «في عملي لا يفهمونني، وفي الحي أيضاً. سمعتهم بأذني يقولون فوزية المجنونة التي تلقي بنفسها على نوى تمر كأنه جنيهات الذهب». إن الاعتراض على هذا العمل يرجع في الأساس إلى النظر إليه بوصفه من أعمال الرجل؛ وأن الأنثى التي تمارسه إنما تخرج بذلك عن طبيعتها؛ وهي نظرة لا ترى في المرأة إلا كائناً ضعيفاً أو ينبغي أن يتصف بالرقة والجمال الحسي إلى آخر هذه المواصفات التقليدية الشائعة.

يظهر ذلك بوضوح في اعتراض إحدى زميلات (فوزية) على سلوكها: «في العمل أيضاً يتهامسون وراء ظهري. في مرة قالت لي زميلتي:

- انظري يا فوزية إلى يديك.

ففهمت أنها تشير إلى الخطوط السوداء تحت الأظافر فقلت

- هذه ليست وساخة، إنه طين متخلف من الزرع الذي أزرعه.

قالت وهي تربت على كتفي: «لا يليق لا يليق أبداً وأنت موظفة!».

تضفي المؤلفة بعض الصفات الضرورية على شخصية «فوزية» ومنها صفة «الإصرار» التي تظهر في أول مشاهد القصة حين تخرج بحثاً عن بعض أنواع «البراعم» في الشتاء القارس: «طال الشتاء فلم أعد قادرة على الانتظار، لبست معطفي القديم وربطت رأسي بمنديلي الصوفي ونزلت إلى الشوارع أقطعها وأتوقف عند الشجر، أنظر وأتحقق. وعندما تفشل عيناي في رؤية شيء على الفروع الجافة أمد يدي أحس وأتحسس».

ويبدو أن تمرد هذه الشخصية وإصرارها استطاعا «خلخلة» هذه التقاليد المجتمعية المضادة على نحو ما يظهر في نهاية القصة، حين تقول (فوزية): «اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع وقالت رأيت أصص الزرع في الشرفة، قالت إنها جميلة وسألتني على استحياء أن أعلمها فأريتها كيف، أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته ثم جلسنا وتحدثنا».

صرخة زوجة

وإذا كانت رضوى عاشور قدمت نموذج الشخصية المتمردة على التقاليد المجتمعية المستقرة، فإن هالة البدري في قصة «مرآة» تتمرد من خلال شخصية الساردة على وضعية «أسرية» خاطئة، لأنها تقوم على العطاء من جانب أو طرف واحد، وهو الزوجة التي ترعى زوجها وأبناءها دون مقابل معنوي، الأمر الذي جعلها تطرح تساؤلاً مريراً: «هل هناك ما يستحق أن أقتلع سنوات عمري لأصفّها أحجاراً لأساس أعلم أن نزوة ريح قادمة لا ريب لكي تدحرج كل منها في اتجاه».

ومن ثنايا هذا السؤال الاستنكاري يبدأ تمردها الذي ظل يتصاعد من مستوى إلى آخر، يبدأ المستوى الأول بكشف زيف الزوج: «الآن أستطيع أن أبتسم له وأنا في قمة يأسي من عدم فهمه لأي شيء» أو قولها تصويراً لسلبيته وأنانيته: «الآن عرفت أنك لا تسمع شيئاً، أنت تتلقى فحسب، كيف غاب عني هذا لسنوات، من المسئول؟ أنا بأوهامي عن أعبائك أم أنت».

وتصور عزوفه عن الحياة بأنه ليس زهداً «بل تركيب مرآه تعكس فحسب، ولا تشع».

يتصاعد هذا التمرد متحققاً على مستوى الأداء «الأسلوبي» فيتحول من أسلوب «التصوير» الفني القائم على عنصري «الاستعارة» و«التشبيه» إلى الأسلوب المباشر المتسم بالحدة والوضوح على نحو ما يظهر من وصفها الباتر لهذا الزوج: «أنت مخلوق هلامي لا يشعر، لا يتأوه».

ويصل التمرد إلى ذروته حين تكشف الزوجة عن تناقض رؤيتها للحياة مع رؤية زوجها قائلة: «أنت زاهد فيها وأنا أريدها بكل ما فيها من ألم ويأس وسعادة ونجاح، قمة التحقق أن تدمينا وتبكينا وتأخذ منا وتهبنا ونختطف منها ما نشاء، أن ننتشي بالحب والموت والميلاد، وأن نطمح للقمم والروابي، أن نطير فنمسك بالسحب، أن نسقط معها مطراً، أن تتمزق أجسادنا أشلاء فوق صخورها، وأن ندفن فننمو زهوراً يانعة من جديد».

تساؤلات طفلة

تبدو فكرة «الرجولة» أو مفهومها الحقيقي أحد الدلالات الأساسية في قصة «ابتسامة السكر» لسلوى بكر، واللافت حقاً أن طرح هذا «المفهوم» يتم من منظور طفلة تتخذ موقع الراوي الداخلي المشارك في الأحداث. تقوم الأم بتلقينها وصايا ومفاهيم حول الرجولة، كما أن المؤلفة لم تفرض على الطفلة وعياً يعلو على طبيعة إدراكها في مثل هذه السن المبكرة، كما لم تفرض عليها لغة لا تتناسب مع المفردات المتداولة في مثل تلك المرحلة.

ومن خلال تأمل الراوية الطفلة لأوصاف أبيها الراحل التي ترد على لسان الأم، تطرح مفهومها الخاص للرجولة والذي يتمرد على المفهوم السائد، فهي ترفض بداية أن يكون «طويلاً عريضاً يسد الأبواب» وكأننا أمام ترميز خفي يقوم على رفض الرجولة التي تقف حائلاً أمام رغبات الآخرين كما يبدو من سؤال الطفلة البريء: «لو كان هناك أي شخص يرغب في المرور، هل من الأدب أن يسد أبي الباب ويمنعه من ذلك؟».

وهكذا، تجد أنفسنا أمام تفكيك لمفهوم الرجولة ينزع عنها فكرة الاحتكام إلى «الهيئة» أو «المظهر»، فحين تقارن هذه الطفلة بين شقيقها الذي ينهرها دائماً وأختها (أسماء)، تقول: «أسماء أكبر منه وأطيب منه، تساعد أمي في الطبخ وغسل الصحون، ولا تجعلها تعد لها الشاي أثناء المذاكرة كما يفعل هو، لكن أمي لا تقول عنها إنها سوف تكون رجل البيت».