مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين

نادر كاظم يفكك المغالطات التاريخية في كتابه الجديد «الشيخ والتنوير»

مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين
TT

مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين

مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين

في حين كان الصيادُ العجوز في رواية «الشيخ والبحر» لإرنست هيمنغواي يدركُ أن خوضَ البحرِ عميقاً لن يجعلَ الهزيمة تطاله، فإن أحداً لم يؤمن بذلكَ سوى الفتى مانولين الذي يرى في الشيخ المنسي (سانتياغو) إصراراً على عدمِ الاستسلامِ أمامَ الهزائمِ، والذي رغمَ التهامِ أسماكِ القرشِ لانتصاره الوحيد، فإنّه عرِفَ في تأمله للنّجومِ والقمر أنّ الرّحلة كلّها لم تكن لأجلِ السّمكة، وإنّما كي يصلَ إلى البيتِ ويحلم. ولربّما مثل هذه الحكاية التي تضعُ عجوزاً وبحراً، بشراً وأسماكَ قرش، فتى صغيراً وفكرة واحدة -يبصرُها العامّة نحساً، ويراها هو ملهمة- بصفتها رمزياتٍ متقابلة عميقة رغمَ بساطتها، تبدو شبيهة تماماً في سياقاتها ووقائعها بالبيئة التي عاشها شيوخُ التنوير الأوائلِ في البحرينِ والمنطقة، حيث النحسُ الذي يلقيه الناسُ على محاولاتِ عجوز هيمنغواي كان في عمقه يشبُه الاتّهامات المتلاحقة لهؤلاء الشّيوخ الذين جاروا روحَ العصرِ، وقرروا الإبحارَ بعيداً عن الموروث. أما الفتى (مانولين)، فقد تناسَخت ملامحه في أولئكَ الذين كانوا يبصرون الضّوء الأوّل للتّنوير، وسيرة الضّوءِ الذي أصرّ على تحريرِ العقلِ من الماضويّة المُحافِظة.
في كتابه الصادر في يناير (كانون الثاني) 2021، يعقد الباحث البحريني د. نادر كاظم موازنة جميلة بين كتابه الأخير «الشيخ والتنوير» و«الشيخ والبحر»، حيثُ يتأملُ نادر تكوينات الحكاية لكلّ منهما، ويكشفُ عن مقارباتٍ فكريّة بين الشّيوخ التنويريين الأوائل (الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، والشيخ ناصر الخيريّ، والشيخ محمد صالح خنجي). غير أنّه للوصولِ إلى هذه القراءة المتعمقة في النسيجِ الاجتماعي والثّقافي الذي يلفُّ هؤلاء الشيوخ الثلاثة، وفهمِ السّياقات التاريخيّة والوقائع، تبنّى د. نادر كاظم بصيرة مانويل (الفتى)، ومارسَ دورَ المنقّبِ الذي يسعى لتفكيكِ الطّبقاتِ التاريخيّة للثّقافة البحرينيّة، وحوّل انغماره في عالم الصّورِ والوثائقِ وما تبقّى من مكتباتٍ قديمة إلى حكاية أخرى، وهو ما منَح المفكّر القدرة على رؤية الأشياءِ بعمقها وتأويلاتها، لا بسطحِ الحكاية ومجرياتِ الأحداث، بل عبر اختبار الطّبقات الزّمنيّة لتكوّن فكرة التنوير بطريقة المنقّب الذي لا يكتفي بالدّليلِ الوحيد الذي يعثرُ عليه، وإنّما بالبحثِ المستمرِّ عن الدّلائل والتفسيرات، وبقراءة خرائطِ الوقتِ والمكانِ، وبزرعِ الشّخوصِ ضمن بيئات تشكيلِ وعيها ونموّه.
أطلق المؤرّخَ مبارك الخاطر على الحقبة الزّمنيّة بين 1875م و1925م اسم «عصر إبراهيم بن محمد الخليفة رائد الثّقافة الحديثة في البحرين». يُشيرُ إلى ذلكَ د. نادر كاظم، ثمّ يُعيدُ تفكيكَ المغالطات التاريخيّة بعد موازنتها ومقاربتها بتاريخِ صدور المجلّات الثّقافيّة، وبعد إعادة سردِ السّياقات التاريخيّة للأحداثِ ونشوءِ الأفكارِ، ليتوصّل القارئ إلى أنّ الفاصلَ التاريخي في سيرة الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة في الواقعِ هو موتُ أبيه الشيخ محمد بن خليفة (حاكم البحرين الرابع) في عام 1890م. لقد تحوّل الشيخ من الشّعرِ إلى التنويرِ، وتحرّرَ من الأبِ والشّعرِ معاً «فمع كلّ انقطاعٍ، ينعتقُ شيءٌ ما إيذاناً بولادة جديدة. وفي هذه اللّحظة تحديداً من الانعتاق، يُولَدُ (عصر إبراهيم بن محمد) بأفول (عصر محمد بن خليفة)، كما تبدأ أبوّة الشيخ إبراهيم لثقافة البحرين الحديثة بالانقطاعِ عن الشّعرِ الكلاسيكيّ»، ويواصل: «فإنّ التحرّر من الشّعرِ يعكسُ تحرّراً من هذا الماضي بكلّ ثقله، مع أساليبِ تفكيره وتعبيره، من أجلِ مجاراة روحِ العصرِ الحديث».
وفي حين كانَ الفقهاء ورجالُ الدّين يكرهون الكتب العصريّة، ويسمّون أصحابها مبتدعة، ويغالي بعضهم بتكفير من يقرأها وتفسيقه، كان الشيخ إبراهيم رجلاً عصرياً بامتيازٍ، إذ لم يكتفِ بالمطالعة والقراءة، بل شارَكَ الشباب وأبناء جيلِه هذه الاهتمامات بمجاراة روحِ العصرِ، وعرف النّاس مجلّتي «العروة الوثقى» و«المقتطف» من مجلسه في المحرّق، وذلكَ قبل «أن يأتي النصارى المبشرون إلى البحرين بسنواتٍ قليلة جداً»، كما يذكرُ الخاطر. وبلغ اهتمامه إلى حد عدم التفاته إلى ما يمكنُ أن ينجرّ عليه من اتّهامات، فكّلفَ التاجر النّجدي مقبل الذّكير باستيرادِ مجلّتي «المقتطَف» و«الهلال» في عام 1895م.
إلى جانبِ ذلك، فقد شكل مجلس الشيخ إبراهيم في منزله بالمحرّق، بعد عودته من مكة المكرمة في عام 1889م، منتدًى ثقافياً احتضنَ كثيراً من النقاشات ووجهات النظر، حتّى صارَ «نافذة مفتوحة على العالم».
ولقد قدم الشيخ إبراهيم بن محمد نموذجاً تنويرياً مغايراً، ليس من خلال ثقافته الشخصيّة فحسب، بل كذلك من خلال تنوير الآخرين عبر التعليم الحديث، حيث كرّسَ الشيخ إبراهيم شغفه لأمور المدرسة العصريّة الأولى في البحرين (مدرسة الهداية الخليفيّة)، إذ كان حريصاً على التعليم الحديث المُستنير، وقد تكوّنت لديه قناعة بأن الشّرط الضّروري اللّازم للتّنوير يتمثّل في كلمة واحدٍة، وهي التعليم، والتعليم المدني الحديث (العصريّ) تحديداً، لأنّ ما يجعل الإنسان عاجزاً عن استعمال عقله دون وصاية، وما يجعل هذا الإنسان المفطور على الحرّيّة ينساق مثل القطيع وراء أفكار واعتقادات وممارسات الآخرين، دون دراسة أو تعقّل، إنّما هو الجهل.
وبعكسِ الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، تبدو سيرة المثقّف التنويري «ناصر الخيريّ» مسيّجة بالألغازِ والاحتمالات، يصفها د. نادر كاظم بأنّها لغزٌ من الألغازِ في تاريخ الثّقافة الحديثة في البحرين. وخلافاً لسيرته الذّاتيّة، فإنّ سيرة أفكارِ ناصر الخيري هي التي خلّدته في تاريخ البحرين الثّقافي الحديث، إذ كان يمتلكُ من الجرأة وأدواتِ الكتابة ما جعله قادراً على التعبيرِ عن أفكارِه بوضوحٍ وصراحة كلّفته الكثير فيما بعد. وقد شكّلت أسئلة ناصر الخيري مرساة تاريخيّة لذاكرة هذا المثقّف التنويريّ، حيث يؤكّدُ د. نادر أنّ أوّل ظهورٍ لناصر على مسرح الحياة الثّقافيّة الحديثة كان على صفحات مجلّة «المقتطف» التي تعرّف عليها في منتدى الشيخ إبراهيم الثّقافيّ، ثمّ في مكتبة المبشّرين بعد ذلك، حيث كان يتساءلُ عمّا إذا كان بيعُ الرّقيقِ فضيلة أم رذيلة «فإن كان الأوّل، فلماذا يُصادره الغربيّون. وإن كان الثّاني، فلماذا لا يقولُ بتحريمِه رجالُ الدّين في الشّرقِ؟». ويبدو في هذا السّؤال تفتّح بصيرة الخيري على مفاهيم مثل الحُريّة والمساواة وإنهاء العبوديّة، خصوصاً أنه ينتمي إلى أسرة متواضعة، وكان سواد بشرته علامة بارزة تُذكّره بأصوله الإثنية ومكانته الاجتماعيّة. إلّا أنّ المحنة الأولى لم تكن في الأسئلة الأولى لـ«المقتطف»، بل في تلكَ اللّاحقة لمجلّة «المنار»، إذ يذكرُ د. نادر أنّ علاقة ناصر الخيري بهذه المجلّة استمرّت على ما يُرام في الأعوامِ بين 1911 و1913م، وكان يرى فيها مجلّة إسلاميّة مؤثّرة، يمكن أن يتوّسلَ بها لمآربَ إصلاحيّة نهضويّة، وظنّ أنّها مناسبة لتحقيقِ غرضين دفعة واحدة: الأوّل استصدار فتوى دينيّة، واستثمارِ هذه الفترة في انتقادِ ممارساتٍ اجتماعيّة ودينيّة يرى أنّها بحاجة إلى تصحيح.
يسردُ د. نادر كاظم تداعيات أسئلة الخيري الجريئة لمجلّة «المنار» في عام 1913م، فقد كشفت الأسئلة التوجّه السّلفي المتشدّد للمجلّة وصاحبها، كما كشفت هشاشة الدّعامات الإصلاحيّة التي كانت الفعاليّات الثّقافيّة في البحرين تقفُ عليها.
وعلى خلافِ ما يمكن أن يتوقّعه الخيري، جاءَ ردّ رشيد رضا متشدداً متزمتاً، بل كانَ كما يصفهُ د. نادر محاكمة للنّوايا، حيث أشارَ من خلاله رشيد رضا إلى أنّ كلام السائل «سرى إليه من شبهات النصارى والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثالِ هذا الكلام المبني على جهلِ قائليه من جهة، وسوء نيتهم في الغالبِ من جهة أخرى». ولم تنتهِ المحنة هنا، بل هدد الشيخ قاسم المهزع (قاضي القضاة آنذاك) بجدعِ أنفِ ناصر تعزيراً له، وإغلاق نادي إقبال أوال الليليّ.
أمّا المحنة الثّانية في حياة الخيريّ، فقد كانت الوطن، خصوصاً إثر التحوّلات السّياسيّة التي شهدتها البحرين عقب انتهاء الحربِ العالميّة الأولى، وإصدار قانون المُستَعمرات أو المرسوم الملكي البريطاني، حيثُ يُوضح د. نادر كاظم في قراءته للمشهدِ السياسي الاجتماعي المتكون آنذاك أن البحرين في الفترة (1919-1923م) قد أصبحت مسرحاً للانقسامات الحادة في المواقف السياسيّة الرسميّة والشعبيّة، ووجد ناصر الخيري نفسه في غمار هذه الانقسامات موزعاً بين المثقف المستنير الذي يؤمن بالحرية والدولة الحديثة والإنسان الذي لا يريد أن يخسر صداقاته مع شباب النادي الأدبي الذي تأسس في المحرق في عام 1920.
وبعد ذلك، يتعمق الباحث في سيرة الشيخ الثالث (الشيخ محمد صالح خنجي)؛ الشيخ الأزهري الذي انخرط في دراسته والأزهر في أوج صعوده الإصلاحيّ. وقد استفادَ من هذه المرحلة التي أسهمَت بعمقٍ في تشكيل وعيه الثقافي والتنويريّ، إلى جانبِ البيئة الخصِبَة التي هيمنت على مصر في تلكَ الحقبة، حيث كانت مقراً لنخبة الإصلاحيين العرب وكبار مثقفي النهضة، من أمثال فرح أنطون وشبلي الشّميل ويعقوب صروف وعبد الرّحمن الكواكبي، وحتّى رشيد رضا، وآخرين. وفورَ عودته من مصر في عام 1902م، انهمكَ الشيخ محمد صالح خنجي في سلسلة من الأنشطة الثقافيّة والتعليميّة، وأدارَ مدرسة أهليّة في مدينة المحرّق، ورأس نادي إقبال أوال. إلا أن الأهم كان سعي الشيخ في تأصيل التسامح الديني منذُ عام 1913م، التي يجدُها د. نادر محاولة فريدة مبكرة سابقة لأوانها في البحرين، فقد أبدى خنجي تفهماً ووعياً مبكراً للتسامحِ ورؤاه الكونيّة الإنسانيّة. وقد استدعى د. نادر كاظم محاضرة ألقاها الشيخ عن الأديان في عام 1913، مبيناً أنها قدمت تأصيلاً مبكراً شجاعاً للتسامح بين البشر. وقياساً مع أطروحات القراءات الحداثية للدين والنصّ الدينيّ، فقد توصل الشيخ محمد صالح إلى أهمية الحاجة إلى تقديم قراءة حداثيّة للدين والشريعة، بما يسمحُ بالتمييز بين ما هو جوهري في الدين وما هو تاريخي في الشريعة، وذلكَ قبل سنواتٍ طويلة من ظهورِ تلك الأطروحات، مؤكداً أنّ هذا الشيخ الأزهري قد اضطّلع بمهمة شجاعة لتفكيك العقل اللاهوتي المغلق، ومواجهة التعصب الديني الخطير.
* كاتبة وشاعرة ومهندسة معمارية - إدارة التراث الوطني بهيئة البحرين
للثقافة والآثار


مقالات ذات صلة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
يوميات الشرق زينة صالح كيالي تسلط الضوء على موسيقيات من لبنان (المؤلفة)

زينة صالح كيالي لـ«الشرق الأوسط»: الجمهور اللبناني لا يعترف بموسيقييه الكلاسيكيين

هجرتُها إلى فرنسا عام 1987 وفَّرت لها اكتشاف أهمية الموسيقى في تكوين شخصية الناس. وهناك اطّلعت من كثب على الهوية الوطنية للتراث الموسيقي اللبناني...

فيفيان حداد (بيروت)

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
TT

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب، خصوصاً مع اعتماد هاشتاغ «بوك_توك»، فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة، لا يوافقون بالضرورة على هذا الرأي. وهم ينظرون إلى المنصات الاجتماعية على أنها متكاملة، وكل منها توصل المؤثر إلى فئة مختلفة تتناسب وتوجهاته.

المؤثرة المصرية نضال أدهم، التي أطلقت قناتها حول الكتب على «يوتيوب» قبل تسع سنوات، وكانت لا تزال في الثامنة عشرة من عمرها، لها اليوم أكثر من 400 ألف متابع. ولها صفحتها على «إنستغرام» التي يتابعها 186 ألف شخص، وعلى «تيك توك» 320 ألفاً، وبعض منشوراتها تنال سبعة آلاف مشاهدة، لكنها تحنّ إلى انطلاقتها الأولى، وهناك تجد نفسها في المكان الذي يريحها وتلتقي فيه بأريحية مع متابعيها.

المؤثر السعودي خالد الحربي

لا تنكر أنها حققت قفزة خلال فترة الوباء، وكانت على مختلف وسائل التواصل. «لكن (يوتيوب) هو بيتي، وفيه أجد راحتي. وكل تسجيل عليه هو بالنسبة لي مشروع، أما على باقي الوسائل فأنا أتكلم عفوياً، من دون حسابات واعتبارات».

خالد الحربي، المؤثر السعودي المعروف بصفحاته التي تحمل اسم «يوميات قارئ»، له رأي آخر، إذ يجد نفسه على «إكس» حيث يتابعه نحو 355 ألف شخص، وبعض منشوراته يتجاوز عدد مشاهديها سبعة آلاف. له متابعوه على «إنستغرام» و«تيك توك» و«سناب شات»، لكن «إكس» بالنسبة له هي الأساس. «من هذه المنصة بدأت، ولا أزال أراها الأهم».

الخوارزميات تفرض منطقها

«تيك توك» كان بالنسبة إلى خالد صادماً. «فهمت حين دخلته أن عليك ألا تتفلسف، قل لنا بسرعة عن ماذا يتحدث الكتاب. المتابع هناك يريد الزبدة وكفى».

هذا مع أن خالد حاصل على جائزة أفضل متحدث عن الكتب على منصة «تيك توك» عام 2024، لكنه مع ذلك، لا يراها مفضلته. «ليس طموحي أن أكون الأفضل، ولا أحب تضييع وقتي. القراءة بالنسبة لي متعة. يقال إن الشخص لا يستطيع أن يقرأ أكثر من ثلاثة آلاف كتاب في حياته، لهذا لا أريد أن أغرق في الترَّهات. أخذت عهداً على نفسي ألا أقرأ أو أتحدث إلا عمّا يعجبني».

قد يعود اختلاف المؤثرين حول الوسيلة الفضلى لإيصال رسالتهم، إلى مدى انسجامهم مع طبيعة الخوارزميات التي تحكم عمل كل منصة. «حين تنشر على (إنستغرام)، لا بد أن تفهم طريقة عمل خوارزميات التطبيق. لا يمكنك الكلام هناك كأنك في صحيفة». يقول الكاتب السعودي رائد العيد: «أنا متابع لموضوع المؤثرين منذ نحو عشر سنوات، وأرى أن لكل وسيلة أبجدياتها. مثلاً، على (تيك توك) يجب أن يكون محتواك قصيراً ومكثفاً ومحفزاً، من دون تسطيح، وهذا موجود، مع أن آخرين يدخلونه من باب البحث عن الانتفاع أو كسب الشهرة والانتشار».

لهذا وجد خالد ضالته على «إكس»: «لا أحب أن أضيع وقتي في التصوير والمونتاج، والبحث عن المؤثرات على (تيك توك) أو الوسائط المصورة، كلها أمور مجهدة، وبعدها قد لا تجد المادة المنشورة رواجاً. أفضّل الكتابة على (إكس)، وأجدها وسيلة ناجعة وممتعة. التفاعل كبير، ولم أكن أتوقع ذلك. حين بدأت لاحظت أن الكثير من الأطروحات كانت صعبة، فركزت على تسهيل المادة. التفاعل والصدى اللذان وجدتهما كانا بالنسبة لي فاتحة الأبواب».

دور النشر تبحث عن دربها

رائد العيد، متخصص في ظواهر القراءة والكتابة ومرشد في هذا المجال، وله مؤلفات منها «دروب القراءة» و«درب الكتابة»، كما أنه أسس منذ سنوات «مجتمع الكتابة»، ويعتقد جازماً أن المنصة الأشهر الآن هي «تيك توك»، أما «إنستغرام» فقد سجّل صعوداً جيداً، لكنه بدأ يضعف أمام «تيك توك». وفي الخليج يوجد حضور بارز للكتب على «سناب شات»، لكنه يخفت، وكذلك الأمر مع منصة «إكس» التي فقدت وهجها منذ سنتين بعد أن تم تغيير خوارزمياتها.

الناشرة اللبنانية رنا الصيفي تعترف بأن الدور العريقة التي لها عشرات السنين من التاريخ في السوق، لسوء الحظ لا تزال تتردد طويلاً قبل التعاطي مع المؤثرين، وهذا خطأ. فالمنافسة كبيرة، والمواكبة مهمة، مع ذلك، هي دون المطلوب. في حين أن هناك دوراً بالغت في الاعتماد على وسائل التواصل: «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر التي أعمل بها عمرها 50 سنة، ليس من السهل أن تتعامل مع هكذا مستجدات بسهولة». لكنها منذ أصبحت مديرة للنشر بدأت تتعاون مع مؤثرين: «بعضهم يتصلون بنا، ومنهم من نلتقيهم في المعارض، أو نبادر نحن بالاتصال بهم، لأن لهم قاعدة من المتابعين، ولا نغفل أيضاً نوادي الكتب التي هم أحياناً يديرونها أو على صلة معها». تشرح الصيفي: «أتعامل مع أربعة مؤثرين فقط لهم وزن. الفكرة ليست بالعدد بل بالنوعية. لا تهمني الكمية والكثرة، ما يهمني هي الطريقة التي يقدم بها الكتاب، ومستوى من يتحدث أو يكتب عنه. والمؤثرون باتوا يؤثرون فعلياً في قرار الشراء».

الكاتب رائد العيد

كثير من الكتب... قليل من الوقت

ويخبرنا العيد أنه شخصياً بدأ اهتمامه بالقراءة تحت تأثير وسائل التواصل، فدورها ليس تحفيزياً فحسب، ولكنها أيضاً لها أهمية في الإرشاد، والتوجيه نحو نوعية الاختيارات، حيث يبني القراء، خصوصاً المبتدئين، على ما يسمعونه من المؤثرين».

يذهب العيد أبعد من ذلك حين يقول: «في دورات الكتابة التي ننظمها، نقول للمتدرب: عليك أن تتعاون مع هؤلاء المؤثرين، لا أن تخسرهم، لأن صدودك عنهم قد يقتل الكتاب أو يقلل من فرصه».

دور النشر تفهم هذا الدور، بعضها يغدق على المؤثرين من إصداراتهم، ويحاولون اجتذابهم وإغراءهم للتحدث عن كتبهم. لكنَّ هذا يتحول إلى عبء على مؤثرين كثر، تنزل عليهم الكتب بكميات، تفوق قدرتهم على القراءة. «بينها كثير مما لا يتناسب وذوقي، ولا أرغب في أن أحتفظ به»، تقول نضال.

مؤثرون يطلبون الحرية

خالد يوافقها الرأي: «لست آلة، ولا أريد أن ألتزم، وكثيراً ما أُحرج. لو أخذت الكتب من الناشرين بالمجان أشعر بالتزام نحوهم، رغم أنهم لا يطلبون ذلك بشكل مباشر. أفضِّل الكتب التي أشتريها وأختارها بنفسي. أريد أن يتركوني على راحتي. القراءة بالنسبة لي متعة، ولا أحب أن أُجبَر على قراءة ما لا أريد. كما أنني أحب أن أكتب بهدوء ومن دون رقيب». يفهم خالد أن الناشر في النهاية تاجر، وهو لا يريد أن يدخل في هذه الدوامة.

لكن نضال تؤكد أنها تتحدث بحرية عن الكتب التي تصل إليها. «تسع سنوات في صحبة الكتب على وسائل التواصل، لم أعمل دعايةً لكتاب». لكنها في الوقت نفسه ترى أن دور النشر لا بد أن تخصّ المؤثرين بمبالغ مادية من خلال عقد محترم ينظم العلاقة بين الطرفين. هذا يحدث في الغرب. وهي مدفوعات يجب ألا تكون مشروطة.

المؤثرة المصرية نضال أدهم

مهنة أم هواية؟

درست نضال (27 سنة) طب الأسنان، لكنها لم تمارس هذه المهنة، ونالت ماجستير في العلوم السياسية وتعمل في مجال البحث، كي يتكامل هذا مع اهتمامها بالقراء. لذلك تعتقد أن الجهد الذي تقوم بها يستغرق وقتاً، ويحتاج إلى مكافأة كي تتمكن من الاستمرار. إنما كيف للمؤثر أن يبقى مستقلاً وهو يتقاضى أجراً؟ «ليتعاملوا مع المؤثر على أنه ناقد، له رأيه الذي قد يكون سلبياً أو إيجابياً». تقول نضال: «وفي كل الأحوال يجب أن يرحبوا بالنقد، ويعملوا على تحسين أنفسهم. إن كانوا لا يريدون سوى المديح، فهم الخاسرون في النهاية».

هناك من يتقاضون مقابلاً، كما يخبرنا العيد، وهذا يظهر في الترويج لكتب ضعيفة، أو التركيز على دار نشر واحدة. هناك دور نشر تتعاقد مع مؤثر على مدى شهر مثلاً للترويج لكتبها، أو يطلَب من المؤثر أن يتحدث عن كاتب موجود في معرض للكتاب، أو أي مناسبة أخرى.

ويضيف العيد: «المؤثرون في الغالب لا يحبِّذون هذا، لأنهم يخافون من فقدان المصداقية، خصوصاً أن العائد قليل، ولا يستحق أن يقيِّد المؤثر حريته في سبيله، ويفقد ولاء وثقة متابعيه».

فقدان المصداقية... أزمة الأزمات

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر، هي المشكلة الكبرى، حسبما قال كل الذين تحدثنا معهم.

خالد يتألم وهو يتجول في المعارض من كثرة الغثّ. «ثمة كتب كثيرة لا ذوق ولا طعم ولا رائحة. كانت أسماء المؤلفين والمترجمين معروفة، اليوم كثرت النتاجات، وعمَّت الفوضى». بالنتيجة تقول نضال: «بات القارئ يفضل أن يقرأ الكتب المترجمة أو القديمة، لأن الكتب الرائجة بحجة أنها (تراندي)، كثيراً ما تصيب بعد شرائها بالإحباط. وهذا يسيء إلى الكتاب الموهوبين، ويعطي انطباعاً أن الكاتب العربي الجيد غير موجود». ويوافق خالد معتبراً أن القارئ ذكي، وأن المؤثر حين يحاول أن يروج لنتاج رديء فإنما يجعل المتابعين ينفضّون عنه سريعاً، ولا يثقون به، وبنصائحه.

تعي الناشرة رنا الصيفي عُمق الأزمة. لهذا لا تحب التعامل مع مؤثرين لا يقرأون، ويتحدثون عمَّا لا يعرفون. «ما يهمني أن ينتشر فكر المؤلف ونتاجه، وليس فقط بيع الكتاب. وكذلك التعريف بكتاب موهوبين جدد»، ولا تنكر أن هؤلاء بات لهم دور وتأثير كبيرين بشرط تحليهم بالمصداقية. فإذا رأى المنشور 500 شخص، فهذا يكفي.

بعض القراء، حسب العيد، يرون أن نصائح المؤثرين أشبه بوصاية تمارَس عليهم، والإصغاء إلى هذا النوع من التوجيه يحدّ من حريتهم. لكنَّ المؤثر المتمكن يقدم مقترحات بناءً على تجربة، وللقارئ الحرية في النهاية.

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر هي المشكلة الكبرى

الخلطة الناجحة

«أعتقد أن الخلطة الأساسية الناجحة على وسائل التواصل هي في مهارة الجمع بين الجدية في الطرح، والتوافق مع المؤثرات الخاصة بهذه التطبيقات»، يقول العيد.

«نسبة كبيرة من المراجعات الجادة لا تلقى رواجاً. نجد نقاداً كباراً لا ينجحون لأنهم يتعاملون مع المنصات كأنهم في مجلة ثقافية أو في محفل أدبي، كأن يتحدث أحدهم عن البنيوية في الرواية والتفكيكية. هذا لا يتناسب مع وسائل التواصل التي تحتاج إلى أسلوب جاذب يتناسب معها».

كلما ازددت توغلاً في فهم ما يحدث حول الكتب على وسائل التواصل، تشعر بأن المشهد يزداد ضبابية. فالقارئ الخليجي، كالمؤثر، له ظروف مختلفة، والجمهور لا يعاني أزمات كبرى. في لبنان، القارئ غائب تقريباً لكنّ الناشر حاضر بقوة، وفي مصر وضع آخر. وإذا كانت الفئة العمرية الناشئة تدمن «تيك توك» و«إنستغرام»، فإن قراء أعمارهم فوق الخمسين قد لا تكون لهم صفحات على «فيسبوك» أو «إكس».