مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين

نادر كاظم يفكك المغالطات التاريخية في كتابه الجديد «الشيخ والتنوير»

مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين
TT

مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين

مقاربات فكرية بين الشيوخ التنويريين الأوائل في البحرين

في حين كان الصيادُ العجوز في رواية «الشيخ والبحر» لإرنست هيمنغواي يدركُ أن خوضَ البحرِ عميقاً لن يجعلَ الهزيمة تطاله، فإن أحداً لم يؤمن بذلكَ سوى الفتى مانولين الذي يرى في الشيخ المنسي (سانتياغو) إصراراً على عدمِ الاستسلامِ أمامَ الهزائمِ، والذي رغمَ التهامِ أسماكِ القرشِ لانتصاره الوحيد، فإنّه عرِفَ في تأمله للنّجومِ والقمر أنّ الرّحلة كلّها لم تكن لأجلِ السّمكة، وإنّما كي يصلَ إلى البيتِ ويحلم. ولربّما مثل هذه الحكاية التي تضعُ عجوزاً وبحراً، بشراً وأسماكَ قرش، فتى صغيراً وفكرة واحدة -يبصرُها العامّة نحساً، ويراها هو ملهمة- بصفتها رمزياتٍ متقابلة عميقة رغمَ بساطتها، تبدو شبيهة تماماً في سياقاتها ووقائعها بالبيئة التي عاشها شيوخُ التنوير الأوائلِ في البحرينِ والمنطقة، حيث النحسُ الذي يلقيه الناسُ على محاولاتِ عجوز هيمنغواي كان في عمقه يشبُه الاتّهامات المتلاحقة لهؤلاء الشّيوخ الذين جاروا روحَ العصرِ، وقرروا الإبحارَ بعيداً عن الموروث. أما الفتى (مانولين)، فقد تناسَخت ملامحه في أولئكَ الذين كانوا يبصرون الضّوء الأوّل للتّنوير، وسيرة الضّوءِ الذي أصرّ على تحريرِ العقلِ من الماضويّة المُحافِظة.
في كتابه الصادر في يناير (كانون الثاني) 2021، يعقد الباحث البحريني د. نادر كاظم موازنة جميلة بين كتابه الأخير «الشيخ والتنوير» و«الشيخ والبحر»، حيثُ يتأملُ نادر تكوينات الحكاية لكلّ منهما، ويكشفُ عن مقارباتٍ فكريّة بين الشّيوخ التنويريين الأوائل (الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، والشيخ ناصر الخيريّ، والشيخ محمد صالح خنجي). غير أنّه للوصولِ إلى هذه القراءة المتعمقة في النسيجِ الاجتماعي والثّقافي الذي يلفُّ هؤلاء الشيوخ الثلاثة، وفهمِ السّياقات التاريخيّة والوقائع، تبنّى د. نادر كاظم بصيرة مانويل (الفتى)، ومارسَ دورَ المنقّبِ الذي يسعى لتفكيكِ الطّبقاتِ التاريخيّة للثّقافة البحرينيّة، وحوّل انغماره في عالم الصّورِ والوثائقِ وما تبقّى من مكتباتٍ قديمة إلى حكاية أخرى، وهو ما منَح المفكّر القدرة على رؤية الأشياءِ بعمقها وتأويلاتها، لا بسطحِ الحكاية ومجرياتِ الأحداث، بل عبر اختبار الطّبقات الزّمنيّة لتكوّن فكرة التنوير بطريقة المنقّب الذي لا يكتفي بالدّليلِ الوحيد الذي يعثرُ عليه، وإنّما بالبحثِ المستمرِّ عن الدّلائل والتفسيرات، وبقراءة خرائطِ الوقتِ والمكانِ، وبزرعِ الشّخوصِ ضمن بيئات تشكيلِ وعيها ونموّه.
أطلق المؤرّخَ مبارك الخاطر على الحقبة الزّمنيّة بين 1875م و1925م اسم «عصر إبراهيم بن محمد الخليفة رائد الثّقافة الحديثة في البحرين». يُشيرُ إلى ذلكَ د. نادر كاظم، ثمّ يُعيدُ تفكيكَ المغالطات التاريخيّة بعد موازنتها ومقاربتها بتاريخِ صدور المجلّات الثّقافيّة، وبعد إعادة سردِ السّياقات التاريخيّة للأحداثِ ونشوءِ الأفكارِ، ليتوصّل القارئ إلى أنّ الفاصلَ التاريخي في سيرة الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة في الواقعِ هو موتُ أبيه الشيخ محمد بن خليفة (حاكم البحرين الرابع) في عام 1890م. لقد تحوّل الشيخ من الشّعرِ إلى التنويرِ، وتحرّرَ من الأبِ والشّعرِ معاً «فمع كلّ انقطاعٍ، ينعتقُ شيءٌ ما إيذاناً بولادة جديدة. وفي هذه اللّحظة تحديداً من الانعتاق، يُولَدُ (عصر إبراهيم بن محمد) بأفول (عصر محمد بن خليفة)، كما تبدأ أبوّة الشيخ إبراهيم لثقافة البحرين الحديثة بالانقطاعِ عن الشّعرِ الكلاسيكيّ»، ويواصل: «فإنّ التحرّر من الشّعرِ يعكسُ تحرّراً من هذا الماضي بكلّ ثقله، مع أساليبِ تفكيره وتعبيره، من أجلِ مجاراة روحِ العصرِ الحديث».
وفي حين كانَ الفقهاء ورجالُ الدّين يكرهون الكتب العصريّة، ويسمّون أصحابها مبتدعة، ويغالي بعضهم بتكفير من يقرأها وتفسيقه، كان الشيخ إبراهيم رجلاً عصرياً بامتيازٍ، إذ لم يكتفِ بالمطالعة والقراءة، بل شارَكَ الشباب وأبناء جيلِه هذه الاهتمامات بمجاراة روحِ العصرِ، وعرف النّاس مجلّتي «العروة الوثقى» و«المقتطف» من مجلسه في المحرّق، وذلكَ قبل «أن يأتي النصارى المبشرون إلى البحرين بسنواتٍ قليلة جداً»، كما يذكرُ الخاطر. وبلغ اهتمامه إلى حد عدم التفاته إلى ما يمكنُ أن ينجرّ عليه من اتّهامات، فكّلفَ التاجر النّجدي مقبل الذّكير باستيرادِ مجلّتي «المقتطَف» و«الهلال» في عام 1895م.
إلى جانبِ ذلك، فقد شكل مجلس الشيخ إبراهيم في منزله بالمحرّق، بعد عودته من مكة المكرمة في عام 1889م، منتدًى ثقافياً احتضنَ كثيراً من النقاشات ووجهات النظر، حتّى صارَ «نافذة مفتوحة على العالم».
ولقد قدم الشيخ إبراهيم بن محمد نموذجاً تنويرياً مغايراً، ليس من خلال ثقافته الشخصيّة فحسب، بل كذلك من خلال تنوير الآخرين عبر التعليم الحديث، حيث كرّسَ الشيخ إبراهيم شغفه لأمور المدرسة العصريّة الأولى في البحرين (مدرسة الهداية الخليفيّة)، إذ كان حريصاً على التعليم الحديث المُستنير، وقد تكوّنت لديه قناعة بأن الشّرط الضّروري اللّازم للتّنوير يتمثّل في كلمة واحدٍة، وهي التعليم، والتعليم المدني الحديث (العصريّ) تحديداً، لأنّ ما يجعل الإنسان عاجزاً عن استعمال عقله دون وصاية، وما يجعل هذا الإنسان المفطور على الحرّيّة ينساق مثل القطيع وراء أفكار واعتقادات وممارسات الآخرين، دون دراسة أو تعقّل، إنّما هو الجهل.
وبعكسِ الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، تبدو سيرة المثقّف التنويري «ناصر الخيريّ» مسيّجة بالألغازِ والاحتمالات، يصفها د. نادر كاظم بأنّها لغزٌ من الألغازِ في تاريخ الثّقافة الحديثة في البحرين. وخلافاً لسيرته الذّاتيّة، فإنّ سيرة أفكارِ ناصر الخيري هي التي خلّدته في تاريخ البحرين الثّقافي الحديث، إذ كان يمتلكُ من الجرأة وأدواتِ الكتابة ما جعله قادراً على التعبيرِ عن أفكارِه بوضوحٍ وصراحة كلّفته الكثير فيما بعد. وقد شكّلت أسئلة ناصر الخيري مرساة تاريخيّة لذاكرة هذا المثقّف التنويريّ، حيث يؤكّدُ د. نادر أنّ أوّل ظهورٍ لناصر على مسرح الحياة الثّقافيّة الحديثة كان على صفحات مجلّة «المقتطف» التي تعرّف عليها في منتدى الشيخ إبراهيم الثّقافيّ، ثمّ في مكتبة المبشّرين بعد ذلك، حيث كان يتساءلُ عمّا إذا كان بيعُ الرّقيقِ فضيلة أم رذيلة «فإن كان الأوّل، فلماذا يُصادره الغربيّون. وإن كان الثّاني، فلماذا لا يقولُ بتحريمِه رجالُ الدّين في الشّرقِ؟». ويبدو في هذا السّؤال تفتّح بصيرة الخيري على مفاهيم مثل الحُريّة والمساواة وإنهاء العبوديّة، خصوصاً أنه ينتمي إلى أسرة متواضعة، وكان سواد بشرته علامة بارزة تُذكّره بأصوله الإثنية ومكانته الاجتماعيّة. إلّا أنّ المحنة الأولى لم تكن في الأسئلة الأولى لـ«المقتطف»، بل في تلكَ اللّاحقة لمجلّة «المنار»، إذ يذكرُ د. نادر أنّ علاقة ناصر الخيري بهذه المجلّة استمرّت على ما يُرام في الأعوامِ بين 1911 و1913م، وكان يرى فيها مجلّة إسلاميّة مؤثّرة، يمكن أن يتوّسلَ بها لمآربَ إصلاحيّة نهضويّة، وظنّ أنّها مناسبة لتحقيقِ غرضين دفعة واحدة: الأوّل استصدار فتوى دينيّة، واستثمارِ هذه الفترة في انتقادِ ممارساتٍ اجتماعيّة ودينيّة يرى أنّها بحاجة إلى تصحيح.
يسردُ د. نادر كاظم تداعيات أسئلة الخيري الجريئة لمجلّة «المنار» في عام 1913م، فقد كشفت الأسئلة التوجّه السّلفي المتشدّد للمجلّة وصاحبها، كما كشفت هشاشة الدّعامات الإصلاحيّة التي كانت الفعاليّات الثّقافيّة في البحرين تقفُ عليها.
وعلى خلافِ ما يمكن أن يتوقّعه الخيري، جاءَ ردّ رشيد رضا متشدداً متزمتاً، بل كانَ كما يصفهُ د. نادر محاكمة للنّوايا، حيث أشارَ من خلاله رشيد رضا إلى أنّ كلام السائل «سرى إليه من شبهات النصارى والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثالِ هذا الكلام المبني على جهلِ قائليه من جهة، وسوء نيتهم في الغالبِ من جهة أخرى». ولم تنتهِ المحنة هنا، بل هدد الشيخ قاسم المهزع (قاضي القضاة آنذاك) بجدعِ أنفِ ناصر تعزيراً له، وإغلاق نادي إقبال أوال الليليّ.
أمّا المحنة الثّانية في حياة الخيريّ، فقد كانت الوطن، خصوصاً إثر التحوّلات السّياسيّة التي شهدتها البحرين عقب انتهاء الحربِ العالميّة الأولى، وإصدار قانون المُستَعمرات أو المرسوم الملكي البريطاني، حيثُ يُوضح د. نادر كاظم في قراءته للمشهدِ السياسي الاجتماعي المتكون آنذاك أن البحرين في الفترة (1919-1923م) قد أصبحت مسرحاً للانقسامات الحادة في المواقف السياسيّة الرسميّة والشعبيّة، ووجد ناصر الخيري نفسه في غمار هذه الانقسامات موزعاً بين المثقف المستنير الذي يؤمن بالحرية والدولة الحديثة والإنسان الذي لا يريد أن يخسر صداقاته مع شباب النادي الأدبي الذي تأسس في المحرق في عام 1920.
وبعد ذلك، يتعمق الباحث في سيرة الشيخ الثالث (الشيخ محمد صالح خنجي)؛ الشيخ الأزهري الذي انخرط في دراسته والأزهر في أوج صعوده الإصلاحيّ. وقد استفادَ من هذه المرحلة التي أسهمَت بعمقٍ في تشكيل وعيه الثقافي والتنويريّ، إلى جانبِ البيئة الخصِبَة التي هيمنت على مصر في تلكَ الحقبة، حيث كانت مقراً لنخبة الإصلاحيين العرب وكبار مثقفي النهضة، من أمثال فرح أنطون وشبلي الشّميل ويعقوب صروف وعبد الرّحمن الكواكبي، وحتّى رشيد رضا، وآخرين. وفورَ عودته من مصر في عام 1902م، انهمكَ الشيخ محمد صالح خنجي في سلسلة من الأنشطة الثقافيّة والتعليميّة، وأدارَ مدرسة أهليّة في مدينة المحرّق، ورأس نادي إقبال أوال. إلا أن الأهم كان سعي الشيخ في تأصيل التسامح الديني منذُ عام 1913م، التي يجدُها د. نادر محاولة فريدة مبكرة سابقة لأوانها في البحرين، فقد أبدى خنجي تفهماً ووعياً مبكراً للتسامحِ ورؤاه الكونيّة الإنسانيّة. وقد استدعى د. نادر كاظم محاضرة ألقاها الشيخ عن الأديان في عام 1913، مبيناً أنها قدمت تأصيلاً مبكراً شجاعاً للتسامح بين البشر. وقياساً مع أطروحات القراءات الحداثية للدين والنصّ الدينيّ، فقد توصل الشيخ محمد صالح إلى أهمية الحاجة إلى تقديم قراءة حداثيّة للدين والشريعة، بما يسمحُ بالتمييز بين ما هو جوهري في الدين وما هو تاريخي في الشريعة، وذلكَ قبل سنواتٍ طويلة من ظهورِ تلك الأطروحات، مؤكداً أنّ هذا الشيخ الأزهري قد اضطّلع بمهمة شجاعة لتفكيك العقل اللاهوتي المغلق، ومواجهة التعصب الديني الخطير.
* كاتبة وشاعرة ومهندسة معمارية - إدارة التراث الوطني بهيئة البحرين
للثقافة والآثار


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة