ضباط المرور يُعيدون البهجة إلى روما

ضابط المرور بيرلويغي ماركيوني يوجّه حركة المرور في ميدان البندقية بروما (نيويورك تايمز)
ضابط المرور بيرلويغي ماركيوني يوجّه حركة المرور في ميدان البندقية بروما (نيويورك تايمز)
TT

ضباط المرور يُعيدون البهجة إلى روما

ضابط المرور بيرلويغي ماركيوني يوجّه حركة المرور في ميدان البندقية بروما (نيويورك تايمز)
ضابط المرور بيرلويغي ماركيوني يوجّه حركة المرور في ميدان البندقية بروما (نيويورك تايمز)

لو أنه، كما يُقال، كل الطرق تؤدي إلى روما، فإنّها بالتأكيد تتقاطع مع «بياتسا فينتسيا» (ميدان البندقية)، الذي يعتبر قلب العاصمة الإيطالية، والذي يتولى ضابط مرور يقف على قاعدة مرتفعة العمل على ضمان انسياب حركة المرور به.
من وجهة نظر الكثير من أبناء روما والسياح على حد سواء، يعتبر ضباط المرور بمثابة رمز لروما التي تشتهر باسم «المدينة الخالدة»، تماماً مثل الكولوسيوم أو البانثيون.
وربما يفسر هذا السبب وراء إثارة عودة ضباط المرور الذين يقفون على قواعد مرتفعة عن الأرض إلى «بياتسا فينتسيا» بعد غياب دام عاماً جرت خلاله إعادة رصف الميدان، موجة اهتمام محموم عبر مختلف وسائل الإعلام، رغم أنّه لا يوجد في الميدان فعلياً حركة مرور تُذكر بالنظر إلى حالة الإغلاق واسعة النطاق التي بدأت في المدينة الأسبوع الماضي في محاولة لاحتواء ارتفاع أعداد الإصابات بفيروس «كورونا» المستجد.
في هذا السياق، أعرب فابيو غريلو، 53 سنة، أحد كبار أعضاء فريق مؤلف من أربعة أو خمسة ضباط محليين يتولون توجيه حركة المرور في «بياتسا فينتسيا» من فوق قاعدة مرتفعة، عن اعتقاده بأنّه: «في ظل هذه الفترة الصعبة، أعتقد أنّه نُظر للأمر باعتباره مؤشراً على عودة شيء ما إلى وضعه الطبيعي».
تحت الأمطار أو في الصقيع، أو خلال أيام الصيف القاسي في روما، يتولى منذ أمد بعيد عدد من الضباط توجيه حركة المرور من فوق قاعدة مرتفعة في «بياتسا فينتسيا» بالقرب من مدخل فيا ديل كورسو، أحد الشوارع الرئيسية في روما. ويتعين على جميع قائدي المركبات الإيطاليين تذكر معاني الحركات التي يؤديها هؤلاء الضباط بأيديهم والتي تميزها قفازات بيضاء أثناء اختبارات القيادة.
في هذا السياق، قال غريلو: «قارن البعض بين هذا الأمر وقيادة أوركسترا».
من ناحية أخرى وبعيداً عن حركة المرور العادية، يقع «بياتسا فينتسيا» كذلك عند مفترق طرق تؤدي إلى مجلس المدينة والبرلمان والقصر الرئاسي، إضافة إلى نصب تذكاري وطني عادة ما يزوره رؤساء الدول الذين يأتون لزيارة البلاد، الأمر الذي يسهم في خلق حالة من الفوضى في نقطة المركز.
عن ذلك، قال أنغيلو غاليتشيو، 62 سنة، الذي يتولى إدارة كشك لبيع الصحف في الميدان منذ عام 1979: «هذه البياتسا تعد بمثابة قلب البلاد. ويتعين على أي شخصية رفيعة تفد إلى روما المرور عبرها. هذا أمر لا يمكنك تجنبه».
وعلى امتداد سنوات طويلة، وُجّه أفراد شرطة المرور في الميدان على يد ماريو بوفاني، الذي ظل يعمل من فوق قاعدة المرور المرتفعة في الميدان طوال ثلاثة عقود، الأمر الذي جعله من أشهر الشخصيات في العاصمة. والمثير أنّه خُلّد في كتاب تناول حياته. وقد تقاعد عن العمل عام 2007 وقال غريلو عنه: «إنه كان بمثابة أيقونة لنا».
من جهته، أكد غيسيبي باتيستي، 47 سنة، الذي يعمل على تنظيم المرور من فوق القاعدة المرتفعة في الميدان منذ 12 سنة، أنّ كل المطلوب للاضطلاع بهذا العمل على النحو المناسب، هو الشعور بالشغف تجاهه و«قليل من الكياسة». وأشار إلى أنّه رغم أنّ إشارات المرور متضمنة في ميثاق شرف السائقين، «فإنّ كل ضابط مرور يجسدها».
وربما الكياسة والتأنق اللذين يتميز بهما بيرلويغي ماركيوني أثناء وقوفه لمباشرة عمله من فوق القاعدة المرتفعة بالميدان، واللذين دفعا أحد المارين من أمامه، الخميس، للصياح بصوت مرتفع «إنه جميل! رائع!»، هما ما جذبا أنظار وودي ألين عندما كان يتفحص مواقع من أجل فيلمه «إلى روما مع حبي» عام 2012. وبعدما شاهد ماركيوني أثناء عمله، شعر بإعجاب بالغ تجاه ضابط المرور لدرجة دفعته لإعادة كتابة سيناريو الفيلم من جديد لتوفير الفرصة لظهور ماركيوني بالفيلم، حسبما ذكر الأخير.
وأضاف ماركيوني، 45 سنة، الذي خاض دورة تدريبية في التمثيل في «أمترز استوديو» بنيويورك، في الوقت الذي استمر بتوجيه المرور من وقت لآخر من فوق القاعدة المرتفعة بالميدان: «رآني ألين، ثم أجرينا اختباراً أمام الشاشة، لكن يبدو أنه قد اختارني بالفعل للدور». إضافة لذلك، يتولى ماركيوني منصب مدير الشؤون الفنية لدى شركة إنتاج تتولى تنظيم المهرجان الإيطالي للأفلام تحت اسم بيير ماركيوني.
وقال ماركيوني إنّ العمل في فيلم وودي ألين «كان تجربة فريدة».
اللافت أنّ الإيطاليين بوجه عام يبدون وداً بالغاً تجاه أي شخص يتقاضى راتباً من أجل معاقبة أصحاب التجاوزات المرورية، التي تنتشر في المدينة.
حتى السبعينات، حرص الإيطاليون في يوم 6 يناير (كانون الثاني)، الذي يوافق عيد الغطاس، على التعبير عن امتنانهم لضباط المرور من خلال تغطية القواعد المرتفعة التي يقفون عليها بالهدايا. وقال غريلو إنّ تلك الهدايا كان يجري التبرع بها لجمعيات خيرية.
وربما كانت هذه العواطف غير المتوقعة على صلة كبيرة بألبرتو سوردي، الممثل الذي اضطلع كثيراً بدور ضابط المرور في الأفلام، وأبرزها فيلم «فيغيلي 2» عام 1960.
جدير بالذكر أنّ سوردي، الذي توفي عام 2003 جرى تنصيبه كضابط مرور شرفي. العام الماضي، عُرضت الملابس الرسمية والمواد المتعلقة بهذه الأفلام في متحف افتُتح داخل منزل الممثل في روما، لكنّه أغلق أبوابه في الوقت الحالي بسبب جائحة «كورونا».
وفي هذا الصدد، قال غريلو، الذي يستطيع سرد مشاهد كاملة من أفلام سوردي كلمة كلمة، إنه بفضل سوردي، أصبحت الصورة العامة لضباط المرور أكثر لطفاً وأصبحوا «رمزاً لروما».
وحسب السرد التاريخي عن قوات الشرطة المحلية المنشور على الموقع الإلكتروني لواحدة من النقابات الوطنية، فإنّ جذور هذه القوة تعود إلى حراس معبد روماني في القرن الخامس قبل الميلاد. ومع هذا، فإنّ فيلماً تثقيفياً أنتجه «معهد لوتشي» مطلع خمسينات القرن الماضي يوعز جذور القوة إلى القرن الأول قبل الميلاد، أثناء حكم الإمبراطوري أوغسطين.
واليوم، يضمّ «بياتسا فينتسيا» قاعدة تنظيم المرور الوحيدة المتبقية في المدينة. وعن هذا، قال غاليتشيو، مالك الكشك، إنّ هذه القاعدة أصبحت «جزءاً من عمارة الميدان». في بادئ الأمر، كانت هذه القواعد المرتفعة تصنع من الخشب، وكان ضباط المرور يحملونها إلى تقاطعات الشوارع.
وفي فترة ما، جرى التحول إلى القواعد الإسمنتية الثابتة في «بياتسا فينتسيا»، التي كانت تُضاء من مبنى مجاور أثناء الليل عندما لا يوجد ضابط في الخدمة، حسبما قال غاليتشيو.
وأضاف أنّ الإضاءة لم تجد نفعاً، ذلك أنّ «سائقي السيارات استمروا في الارتطام بالقاعدة». وعليه، استبدلت عام 2006 بقاعدة ميكانيكية ترتفع عن الأرض.
الآن، وبعد انتهاء أعمال تجديد «بياتسا فينتسيا»، أكد الضباط أنّهم متحمسون للعودة إلى العمل الذي يعشقونه على أمل أن يصبحوا من جديد محور اهتمام كاميرات السائحين بعد انتهاء الجائحة. وعن هذا، قال باتيستي مبتسماً: «ربما لم نكن بمثل شهرة نافورة تريفي، لكن تبقى الحقيقة أنّنا كنا بمثابة عنصر جذب سياحي. وأراهن أنّ هناك صوراً لنا حتى في كوريا الشمالية».
* خدمة «نيويورك تايمز»



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».