العاصمة السعودية تترقب غداً رحلة ضياء بـ«نور الرياض»

عمل للفنانة السعودية مها ملوح
عمل للفنانة السعودية مها ملوح
TT

العاصمة السعودية تترقب غداً رحلة ضياء بـ«نور الرياض»

عمل للفنانة السعودية مها ملوح
عمل للفنانة السعودية مها ملوح

تسطع الفنون في سماء الرياض غداً، في احتفالية «نور الرياض» التي تُنظّم لأول مرة، تحت شعار «تحت سماء واحدة»، وهذا الحدث هو باكورة برامج «الرياض آرت»، الذي يسعى إلى تعزيز التفاعل المجتمعي، وإشاعة مظاهر الفن والجمال في العاصمة، وإثراء الحياة اليومية لسكانها وزوارها، من خلال تعزيز الفن في الأماكن العامة، والارتقاء بالحركة الفنية المحلية، والتشجيع على مزيد من الإبداع والابتكار.
وبالعودة إلى حقبة الستينات من القرن الماضي وحتى اليوم، يقام ضمن هذا الحدث معرض «نور على نور»، الذي يُعدّ أكبر معرض فني جماعي يرصد الحركة الفنية في فنون الإضاءة على مدى أكثر من ستة عقود.
وينقسم المعرض إلى أربعة أجنحة، هي: إدراك الضوء، وتجربة الضوء، وانعكاس الضوء، وبيئة الضوء. حيث يتنقل الزائر داخل المعرض وسط أشعة من الضوء تفصل بين أعمال مجموعة من الفنانين من مناطق متعددة حول العالم خلال مراحل زمنية مختلفة.
يقول القائمون على هذه الاحتفالية، إنّها «ستسهم في منح المشهد الفني في الرياض المزيد من الحيوية والتفاعل، وستُعزز من ارتباطه بمختلف فئات مجتمع المدينة عبر إيجاد حوار فني ثري بين الفن والفنانين السعوديين مع نظرائهم المشاركين في الاحتفالية من مختلف أنحاء العالم». ويوضحون لـ«الشرق الأوسط» أنّها تهدف لاستقطاب الفنانين والمبدعين من السعودية ومن جميع أنحاء العالم لتكون مقصداً لعرض أحدث ابتكاراتهم في مجال الفنون الضوئية، وتستضيف هذا العام 60 فناناً من 20 دولة؛ 26 منهم سعوديون، من بينهم أحمد ماطر، ولولوة الحمود، وأيمن زيداني، وراشد الشعشعي، ومها ملوح. ومن الفنانين العالميين: دانيال بورين، وكارستن هولر، وإيليا كاباكوف، وإميليا كاباكوف، ويايوي كوسوما، ودان فلافين.
ويمتاز هذا الحدث بالتنوع والتعددية الفنية، إذ يشمل أعمالاّ فنية تضم جميع أشكال فنون الضوء، من بينها أعمال تاريخية وهندسية وضوئية، ومنحوتات، وعروض للإضاءة، وعروض تفاعلية، وقطع حركية، وتركيبات وأعمال خارجية، وغيرها من الفنون التي سيُتاح لسكان وزوار الرياض الاستمتاع بها عن قرب في مختلف أرجاء المدينة، مع تخصيص مركزين رئيسيين للاحتفالية في كلٍّ من مركز الملك عبد الله المالي، ومركز الملك عبد العزيز التاريخي بالمربع.
ويراهن القائمون على «نور الرياض» بأنّ هذه الاحتفالية ستترك أثراً إيجابياً عميقاً ببرامجها المتنوعة المنتشرة في مواقع متعددة في المدينة. كما ستتيح أيضاً إمكانية المشاركة في أكثر من 270 نشاطاً بشكل افتراضي عبر الإنترنت. وستضيف بُعداً فنياً جديداً لسكان الرياض والمملكة والوسط الفني السعودي.
ويأتي اختيار شعار «تحت سماء واحدة» لاحتفالية «نور الرياض» هذا العام، ليكون بمثابة رسالة تحفيزية لجمهور الفنانين من داخل المملكة وخارجها، لتحقيق مزيد من التفاعل مع الحدث الذي يتمحور حول القيم الإنسانية المشتركة، وينسجم في أبعاده مع الدافع الفطري لدى الإنسان في تتبع الضوء، والنظر إلى النجوم. ويصاحب الاحتفالية عدد من ورش العمل، وجلسات النقاش، والجولات، والعروض، وبرامج التطوع، والفعاليات السينمائية والموسيقية، والأنشطة الترويحية والتوعوية المناسبة لأفراد الأسرة كافة.
جدير بالذكر أنّ هذه الاحتفالية تعد أولى فعاليات برنامج «الرياض آرت»، أحد مشروعات الرياض الأربعة الكبرى، التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في العام الماضي، بمبادرة من الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس إدارة الهيئة الملكية لمدينة الرياض، بهدف تحويل المدينة إلى معرض فني مفتوح يمزج بين الأصالة والمعاصرة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)