ريتشارد نيفيو... «مهندس» العقوبات و«شفرة» الضغوط القصوى على إيران

انضمامه لإدارة بايدن قد يؤشر لتشدّد أميركي في الملف النووي

ريتشارد نيفيو... «مهندس» العقوبات و«شفرة» الضغوط القصوى على إيران
TT

ريتشارد نيفيو... «مهندس» العقوبات و«شفرة» الضغوط القصوى على إيران

ريتشارد نيفيو... «مهندس» العقوبات و«شفرة» الضغوط القصوى على إيران

عندما طُرح اسم روبرت مالي لشغل منصب المبعوث الرئاسي الأميركي لشؤون إيران، قوبل اختياره بترحيب إيراني وانتقادات في واشنطن ومخاوف من تساهله وسياساته المهادنة. ولكن خلال الأسبوع الماضي أعلن الرئيس جو بايدن تعيين ريتشارد نيفيو في منصب نائب المبعوث الخاص في وزارة الخارجية الأميركية، وهذه المرة حدث العكس؛ إذ قوبل تعيينه بترحيب واسع في أوساط السياسيين وبصفة خاصة الجمهوريون، واستياء وانتقادات لاذعة في الجانب الإيراني. أما السبب، فهو أن سجل نيفيو الحافل في قيادة سياسة العقوبات الأميركية دقّ أجراس الإنذار في إيران بشكل واسع. ولقد وصف أحمد ناردي، عضو البرلمان الإيراني، هذه التعيين بأنه «دليل على حقد إدارة بايدن»، ووصف نيفيو بأنه «مهندس العقوبات القمعية ضد إيران» و«محامي الشيطان».
الانتقادات الأميركية لخطوة تسليم قيادة ملف العلاقات مع إيران لروبرت مالي جاءت تخوفاُ من مسار متساهل تقوده إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية لإحياء الدبلوماسية مع إيران، إلا أن الترحيب بتعيين نيفيو، الخبير المخضرم في العقوبات، جاء ليطمئن المتخوّفين إلى أن الإدارة لن تغير موقفها بسهولة تجاه إيران. بل يرى كثيرون، أنه تعيين لا يبشر بالخير لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؛ لأن ضم نيفيو إلى فريق بايدن يتزامن مع وضع طهران مسألة رفع العقوبات على قمة أولوياتها وربطت إعادة أحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة» (أي الاتفاق النووي) برفع العقوبات الأميركية عن طهران. والرجل الذي أتقن «فن هندسة العقوبات» لن يشارك على الأرجح في العمل على رفعها.
في هذه الأثناء، يقول مسؤولون في الخارجية الأميركية، إن وزير الخارجية أنتوني بلينكن يحاول أن يدفع بكل من مالي ونيفيو في المفاوضات حول الاتفاق النووي ليشكلا معاً تنوعاً في وجهات النظر، وتنفيذ سياسة «شد وجذب» وفقاً للمتغيرات، وإحداث نوع من التوازن في التعامل الأميركي مع الملف؛ لكونهما يملكان خبرة طويلة في التعامل مع إيران، ولقد تعلما من التجارب السابقة في التفاوض مع ساستها
- من هو نيفيو؟
يصف عارفو ريتشارد نيفيو، بأنه شخص حاد، الذي لا يهادن ولا يجامل، وهو خبير مرموق في الشؤون الأمنية، وبالأخص، في مجال الأسلحة النووية. ولقد عمل مديراً في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولمبيا العريقة في مدينة نيويورك، وكذلك شغل منصب كبير الباحثين في كلية الشؤون الدولية بكولمبيا. وهو يحمل درجتي البكالوريوس في العلاقات الدولية والماجستير في السياسات الأمنية من جامعة جورج واشنطن في العاصمة واشنطن.
انضم نيفيو إلى فريق إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في منصب مدير شؤون إيران ضمن مجلس الأمن القومي بين 2011 و2013، وفي ذلك الوقت أشرف على عمليات توسيع العقوبات على إيران قبل إبرام الاتفاق النووي عام 2015. وكذلك شارك في رسم العقوبات على كلٍ من روسيا وكوريا الشمالية. بعدها، شغل منصب نائب المنسق الرئيسي لسياسة العقوبات في وزارة الخارجية من 2013 إلى 2015، ومن ثم انضم إلى معهد بروكينغز زميلاً غير مقيم في مبادرة الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي. ولقد برز اسمه بعد تأليفه «فن العقوبات» الذي نشر عام 2017، وهو يحدد طريقة وأسلوب تفكيره ومنهجه في استخدام العقوبات كأداة للسياسة الخارجية.
نيفيو يعتبر أن العقوبات تحقق أقصى قدر من الفاعلية حين تعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية، هي: أولاً وضوح الهدف المحدد المرجو تحقيقه. وثانياً فهم واضح لهدف العقوبات بمعنى معرفة نقاط الضعف ونقاط القوة، وأفضل طريقة لاستنزاف الهدف. وثالثاً توفير قصة مقنعة حول السبب وراء فرض العقوبات والحصول على دعم دولي لها، وتحديد الوقت المناسب لرفع العقوبات بعد أن تكون قد حققت أهدافها. وهو يرى أن اعتماد هذا الأسلوب أسهم في «إنجاح المفاوضات» مع الجانب الإيراني ووضع «خطة العمل المشتركة الشاملة» (الاتفاق النووي) إبان عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما.
وهو يقول في كتابه، إن الدول تتجه بشكل متزايد إلى العقوبات كأداة للسياسة الخارجية، لكن هذه الأداة العقابية تفقد كفاءتها وهدفها في تغيير سلوك الكيان المستهدف إذا ما استخدمت من دون استراتيجية واضحة. ومن ثم، يصف أسلوب فرض العقوبات بأنه «فن يحتاج إلى نوع خاص من الإبداع لدى صناع القرار، ويحتاج إلى لاعب ماهر، مثل لاعبي كرة القدم، يجيد المناورة والتلاعب في استخدام الأدوات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كأدوات للعقوبات».
- عقوبات إدارة أوباما
الفكرة الأساسية في العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما على إيران هي أن تتسبب في «إيلام» طهران، لكن في الوقت نفسه لا ينبغي للعقوبات أن تسبب الألم أو الضرر فحسب، بل أن تركز أيضاً على تعزيز أهداف وغايات السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وهنا يأتي هدف إجبار إيران على إنهاء برنامجها النووي.
في المقابل، يقول فريق من المحللين، إن استراتيجية العقوبات الأميركية ضد إيران فشلت. إذ إنه بينما فرضت العقوبات على قطاع البتروكيماويات الإيراني، بدأ الإيرانيون في ترشيد استهلاك الوقود؛ ما أدى إلى انخفاض الاستهلاك. كذلك زادوا إنتاج الوقود، وتحديداً البنزين والديزل، في المصافي... وبهذه الطريقة نجحوا في الالتفاف على استراتيجية مقاطعة عقوبات البتروكيماويات والغاز. ومن ثم، لجأوا إلى تطوير القطاعات غير النفطية، كما حاول النظام الإيراني بيع المنتجات بأساليب غير شرعية وغير قانونية.
على هذا يرد ريتشارد نيفيو، مشدداً على عامل «الحرب النفسية» في العقوبات وتأثيرها الذي يتجاوز تطبيع العقوبات وإنفاذها. ويؤكد أن الحرب النفسية على إيران لعبت دوراً أساسياً في دفع النظام الإيراني إلى اتخاذ قرارات خاطئة ووقوع الصدام بين رجال الدولة، إضافة إلى خلق حالة اليأس والإحباط لدى الشعب الإيراني.
ثم إنه يقول بأنه لا بد من فهم واضح لهدف العقوبات ودوافعها، ومراعاة العوامل النفسية مثل القدرة على مقاومة العقوبات، ومراقبة وتقيين العقوبات باستمرار، وكذلك امتلاك فكرة واضحة عن الشروط والأحكام لرفع العقوبات والقدرة على نقل الرؤية إلى الهدف. ويحذر، بالتالي، من أنه ما لم تتحقق هذه المبادئ، فقد ينتهي الأمر بالعقوبات إلى المبالغة أو التقليل... ما يدل في كلتا الحالتين على قلة نجاعتها.
- انتقاده عقوبات ترمب
بعد انسحاب الرئيس السابق دونالد ترمب من الاتفاق النووي عام 2018، خرج ريتشارد نيفيو بانتقادات للعقوبات التي فرضتها إدارة ترمب على الجانب الإيراني. وأشار في حوارات عدة إلى أن ترمب اتبع نهج العقوبات، لكنه لم يستطع الاستفادة منها. وتابع «المشكلة الأكبر لسياسة عقوبات ترمب كانت في افتقارها للدعم الدولي والعلاقة الإيجابية اللازمة لكي تكون العقوبات فعالة. ثم إنها كانت مفرطة في التوجّه وغير قابلة للتكيّف بشكل كافٍ مع الشواغل الدولية والبيئة الدولية». وأردف «إن ممارسة ضغط بغية تحقيق هدف ما، تعني تحاشي التحرك ببطء، وكذلك تجنب التحرك بسرعة».
وفي ندوة عقدها نيفيو في «مركز أبحاث الأمن العلمي» (CGSR)، خلال العام الماضي، أشار إلى أن التوترات تصاعدت الولايات المتحدة وإيران بعد قرار ترمب الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» واستئناف حملة العقوبات. وأضاف، أن مستشاري ترمب الذين ساندوا هذا القرار كانوا يتوقعون بالتأكيد هذا التوتر من جانب إيران، وكانت لديهم خطة للتعامل مع الطريقة التي ستتعامل معها إيران مع الضغط العسكري والاقتصادي. ومن ثم، خلص إلى وصف سياسة ترمب بأنها كانت «فاشلة... إذ إن حملة العقوبات القصوى لم تكن حملة ضغط قصوى، ولم ينجم عنها تغيير في سلوك إيران، ولم تدفع إيران لمفاوضات لاتفاق جديد كما كانت ترغب إدارة ترمب».
وبعد هذه استطرد موضحاً، أنه يوافق على العقوبات، لكنه يختلف في أسلوب فرضها وكيفية الحصول على الأهداف المرجوة منها، وقال «أنا متوافق مع فكرة الضغط القصوى، وهي تتوافق مع ما قمنا به منذ إدارة جورج بوش الابن، وإدارة أوباما. ولذا؛ أنا لا أختلف في فكرة فرض العقوبات؛ ففي رأيي أن العقوبات كانت وسيلة فعالة لدفع إيران لتغيير سياساتها النووية، لكن الفارق بين عقوبات (بوش أوباما) وعقوبات ترمب أن الأولى كانت عقوبات ارتبطت بوسائل ضغط على الإيرانيين. كانت خليطاً من العقوبات أعطت إدارة أوباما نوعاً من المزايا على الإيرانيين للتفاوض حينما جاءوا إلى الطاولة، وكنا في المقابل مستعدين لإعطائهم عرضاً جعل الاستراتيجية التي اتبعها بوش وأوباما في العقوبات تنجح».
- نصف استراتيجية فقط
وفي سياق انتقاده سياسات ترمب، ادعى أن الرئيس السابق «استخدم فقط نصف الاستراتيجية، وفرض العقوبات دون أن يكون لديه مساندة دولية، وهو أمر مهم في التواصل وفرض العزلة الاقتصادية». وذكر أن الرسالة التي كان يجب أن تصل إلى إيران هي أنها معزولة دولياً؛ ولذا عليها تغيير سلوكها. وهنا واضح أنه يشير إلى أهمية المساندة الدولية لفرض العقوبات، وبالذات من الدول التي لها ثقل وتواصل مع إيران، وتستطيع أن تضغط عليها وإفهامها بضرورة تغيير سلوكها، والقصد هي الدول التي لها علاقات تجارية مع إيران مثل الهند والصين وروسيا.
هنا، يشدد نيفيو على أن إيران تهتم كثيراً بتوجهات المجتمع الدولي، وتريد منه الاعتراف بها كدولة مستقلة لها دور على الساحة الدولية، ولقد تألمت حينما أوقف الأوروبيون الصفقات الاقتصادية معها، وكذلك حينما أوقفت الهند استيراد النفط منها في عامي 2010 و2011. وهو في كل هذا، يلوم إدارة ترمب على «التصرف بشكل أحادي من دون العمل مع الحلفاء والشركاء في فرض عقوبات من خلال مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة». ويتابع «عندما نتكلم مع حكومات أوروبا وآسيا ونطالبهم بمساندتنا، فإنهم يتعاملون بجدّية مع قرارات مجلس الأمن التي لها ثقل قانوني وسياسي، وليس فقط لأن أميركا تريد منهم القيام بذلك».
وفي سياق انتقاد عقوبات ترمب، يزعم نيفيو أن تنفيذ العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب «كان متذبذباً وغير منسق ويشوبه الكثير من الغموض». ويقول إنه عندما فرض ترمب عقوبات ضد شركات الشحن الصيني، أدى ذلك إلى إشكاليات كبيرة تتعلق بزيادة أسعار الشحن، ورفع أسعار النفط، وإقدام شركات عديدة على إلغاء العقود... ما أثر على الاقتصادين الأميركي والاقتصاد الصيني معاً.
ثم، مع أن نيفيو يتقبل أن حملة الضغط القصوى التي فرضتها إدارة ترمب أدت إلى تأزم الاقتصاد الإيراني ومعاناته من ارتفاع في التضخم ومستويات البطالة وتراجع معدلات النمو، فهو يذكّر بأن الاقتصاد الإيراني تأقلم مع الأزمات منذ عقود، والتأزم الاقتصادي لا يعني الانهيار السياسي. ثم يقول، إنه رغم نفي إدارة ترمب نيتها تغيير النظام في إيران، فإن أفعالها كانت تشير إلى ذلك. ولقد راهنت إدارة ترمب – حسب زعم نيفيو – على غضب شعبي على السلطة من جراء الضغوط الاقتصادية والعقوبات، «لكن الإيرانيين كانوا ينظرون إلى ما حدث في سوريا وليبيا ولا يريدون أن يعانوا معاناة شعوب تلك الدول، ولا يريدون تغييراً سياسياً يقود إلى مصير مثل مصير سوريا وليبيا... كما كان النظام الإيراني مستعداً تماماً لاستخدام القوة من أجل الحفاظ على السلطة». ويتابع «إن سياسة العقوبات الأميركية إلى فرضتها إدارة ترمب انطوت على شكوك دولية حول نيات الولايات المتحدة ومصداقيتها، وشكوك حول فاعلية العقوبات ومدى تأثيرها. ولذا، فهو يرى أن سياسات ترمب أعادت الولايات المتحدة إلى ما كانت عليه المواقف في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013».
في أي حال، ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فكل رجالات الرئيس أوباما الذين انخرطوا في المفاوضات مع الفريق الإيراني ها هم يعودون إلى الخطوط الأمامية. وبجانب ريتشارد نيفيو، هناك مالي وويندي شيرمان ومعهم الفريق المكلف شؤون إيران من البنتاغون والخارجية والخزانة، وأمامهم جميعاً تحديات جديدة في المنطقة، وتغييرات جيوسياسية متشابكة تتطلب منهم تفكير جديدة واستراتيجية أكثر حنكة لوضع إيران على مسار الصحيح. فهل ستنجح السياسات المهادنة أم لا بد من الإجراءات العقابية؟



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.