ارتدى المهندس المصري أحمد أبو السعود معطف الأطباء الأبيض، وعلى طاولة معدنية أمسك بذيل أحد العقارب بملقط معدني، مسلطاً موجة كهربائية عليه ليفرز قطرة من السم داخل أنبوب صغير... إنها «مملكة العقرب» المصرية.
على بعد نحو 800 كيلومتر جنوب غربي القاهرة وعلى طريق أسفلتية تَسَع سيارتين، تنتشر على جانبيها مزارع النخيل وترتفع من ورائها على بعد الكثبان الرملية والجبال في صحراء محافظة الوادي الجديد، تقود لافتة معدنية زرقاء إلى المشروع.
ويظهر بناء أبيض مكون من طبقتين، محاطاً برقعة زراعية خضراء تلطف من حر الظهيرة في صحراء الواحات الداخلة، حيث يجمع أبو السعود العقارب التي تعتبر رأسمال مشروعه ومصدر ثروته.
وداخل المبنى يوجد المعمل المكون من غرفتين، تضم إحداهما عشرات الرفوف التي تحمل علباً وصناديق ملونة تمكث داخلها العقارب بعد وضع الرمال فيها، والأخرى يُجري فيها فريق «مملكة العقرب» عمليات استخلاص السموم.
ويقول لوكالة الصحافة الفرنسية: «أنا من أهالي الوادي وهنا كل بيت لديه قصة مع لدغات العقارب سواء العامل في الحقل أو الأطفال الصغار في البيوت... إنها مشكلة كبيرة جداً».
وأضاف: «كنت أتصفح الإنترنت مصادفة ووجدت أن سم العقرب من أغلى أنواع السموم وقلت لِمَ لا نستغل هذه البيئة الصحراوية فيكون العقرب شيئاً نافعاً لا آفة ضارة»، وخصوصاً أن الوادي الجديد يمثل نحو 44 في المائة من مساحة البلاد.
ويوضح أبو السعود أن العقرب الواحد ينتج نصف ملليغرام من السم والغرام الكامل يحتاج بين 3 آلاف و3500 عقرب تقريباً «والأهم هو درجة النقاء والجودة».
ويُنقل السم السائل المستخلص في حافظات باردة إلى العاصمة لإجراء عمليتي التجفيف والتعبئة.
وإلى جانب أبو السعود تعمل في معمل استخلاص سم العقرب صيدلانية وطبيبة بيطرية من أبناء الوادي الجديد.
وتقول الصيدلانية نهلة عبد الحميد التي تعمل أيضاً في وزارة الصحة المصرية لوكالة الصحافة الفرنسية: «كصيادلة... درسنا فوائد سم العقرب وإمكان استخدامه في تركيب بعض الأدوية».
وتضيف: «هذا ما شجعني للعمل في مملكة العقرب... أولاً حمايتنا وثانياً العمل بمركز معتمد بشهادة رسمية يقوم باستخلاص سم العقرب وإمكان تصديره إلى الخارج».
أما عضو غرفة صناعة الدواء في مصر محيي حافظ فيقول إن «سم العقارب والثعابين يدخل في استخراج الأمصال المضادة».
وأوضح حافظ لوكالة الصحافة الفرنسية أنه لا دواء حتى الآن يعتمد بشكل مباشر على سم العقرب أو الثعبان، «ولكن ثمة محاولات بحثية في هذا الصدد».
وأفاد تقرير نشرته مجلة «بيوميديسينز» العلمية في مايو (أيار) الماضي أنه «ثبت أن عشرات الجزيئات النشطة بيولوجياً المشتقة من العقرب تمتلك خصائص دوائية واعدة».
وأضاف التقرير أن «المعامل تدرس الآن آثارها المحتملة المضادة للميكروبات والسرطان، آملة في استخدامها في تصنيع الأدوية».
وتنتشر في الوادي الجديد 4 أو 5 فصائل من العقارب، حسب ما يقول أبو السعود، مشيراً إلى أن أكثر الأنواع إتاحة هو «لورياس».
ويحتوي سم هذا النوع من العقارب على أكثر من 45 عنصراً ويتراوح سعر الغرام منه بين 6500 دولار إلى 7500 دولار، حسب ما يقول أبو السعود.
وتقول الصيدلانية إنهم يحاولون «قدر الإمكان عدم الإخلال بالتوازن البيئي، وخصوصاً أن اصطياد العقارب يتم من مناطق سكنية وحيوية وليس من بيئات بعيدة».
ويوضح أبو السعود أن المشروع يعتمد على أهالي القرى القريبة لعملية الصيد.
ويقول: «نختار من كل قرية عاملاً أو اثنين ثم ندرّب الجميع ونزوّدهم الأدوات الواقية لإتمام هذه العملية».
ويُعطى المزارعون قفازات وملاقط معدنية وأحذية طويلة وسترات فسفورية وأمصالاً لتنفيذ عملية الصيد وفي المساء، تُستَخدَم نظارات الرؤية الليلية.
وضع أبو السعود قفازاته الواقية وأمسك بملقط معدني وراح يبحث بجوار المبنى عن عقرب إلى أن وجد واحداً تحت حجر فالتقطه وأدخله إلى المعمل.
وتوضح نهلة عبد الحميد (25 عاماً) التي تلقت مع زميلتها البيطرية تدريباً على أيدي أساتذة في هذا المجال، أن دورها يبدأ عندما يُحضر إليها الصيادون العقارب، وتشرح: «أقوم بتصنيفها بحسب المنطقة التي تم اصطيادها منها والفصيلة ثم الحجم».
ويتم استخلاص سم العقرب، بحسب عبد الحميد، على الأقل كل 20 إلى 30 يوماً للحصول على أعلى جودة.
وتقول الطبيبة البيطرية العشرينية إيمان عبد المالك إن العقرب يستطيع البقاء فترة طويلة من دون طعام «لكننا نحاول توفير بيئة ملائمة للعقارب وعلى تزويدها بالغذاء والبروتين لزيادة إفراز السم».
وتشير إيمان عبد المالك إلى أن العقرب يتم إطعامه كل 15 يوماً في الصيف، على أن يقل المعدل في فصل الشتاء بسبب دخول العقارب في البيات الشتوي.
وداخل صناديق العقارب بالمعمل تضع إيمان عبد المالك الصراصير والديدان، وبعض قطرات الماء في إناء صغير للغاية، كطعام للعقارب.
وتقول: «نخطط لاستكثار العقارب في المستقبل بدلاً من الاعتماد على الصيد».
درس أبو السعود البالغ من العمر 44 عاماً هندسة السيارات وعمل في مجال البترول لمدة 18 عاماً إلى أن قرر في 2018 أن يترك مجاله وأن ينفذ مشروعه الخاص باستخلاص سم العقارب وبيعه إلى شركات الأدوية.
وفي مطلع 2018 قدّم أبو السعود وشريك له طلباً إلى المحافظة لتخصيص قطعة أرض بعيدة من التجمعات السكانية لبناء مزرعة ومعمل من أجل إنتاج سم العقارب، فقوبل طلبهما بالترحيب وحصلا على 200 فدان لإقامة المشروع.
ويهدف أبو السعود إلى أن تكون مملكة العقرب «أكبر مركز على مستوى مصر والشرق الأوسط وأن يصل إلى دول مثل ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة».
ويقول علاء سبع، الشريك الثاني في مملكة العقرب إنه ما جُمع حتى الآن هو نحو عشرين ألف عقرب، البعض في المعمل والبعض الآخر في المزرعة، مشيراً إلى أن طاقة المشروع تستوعب حتى ثمانين ألفاً.
ويضيف لوكالة الصحافة الفرنسية: «باكورة إنتاج المشروع بلغت 3 غرامات من السم».
وأشار سبع إلى أن المشروع الذي كان تمويله ذاتياً: «بلغت تكلفته حتى الآن نحو خمسة ملايين جنيه (نحو 320 ألف دولار)»، وقد دعمت الحكومة المشروع عبر موافقة المحافظة على تخصيص أرض المشروع بإيجار سنوي محدد.
ولا يقتصر المشروع، بحسب سبع، على استخلاص سم العقرب فقط، بل يشمل إنتاج سم النحل إلى جانب الاستثمار الزراعي في الخضراوات والقمح والنباتات العطرية.
ويقول أبو السعود إن مجال السموم في مصر ليس وليد اللحظة وإنما له تاريخ كبير، مشيراً إلى أن «الأزمة تكمن في تشويه البعض صورة مصر في هذا الشأن نظراً لعملهم بطريقة غير رسمية أو بسبب خلط السموم أحياناً لزيادة الكمية».
ويضيف: «نحن نحاول أن نظهر بصورة لائقة من خلال منتج عالي الجودة تحت رعاية علمية في إطار قانوني ولنا الحق في التصدير».
مهندس يترك مجاله للبحث عن سم العقارب في صحراء مصر الكبرى
مهندس يترك مجاله للبحث عن سم العقارب في صحراء مصر الكبرى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة