باريس تحتفل بمطربات الشرق من أم كلثوم إلى داليدا

معرض يراهن على استعادة الحياة الثقافية بعد الجائحة

أسمهان و«غرام وانتقام»
أسمهان و«غرام وانتقام»
TT

باريس تحتفل بمطربات الشرق من أم كلثوم إلى داليدا

أسمهان و«غرام وانتقام»
أسمهان و«غرام وانتقام»

إنه المعرض المناسب في الوقت المناسب، هذا الذي يعلن عنه معهد العالم العربي في باريس حال فتح المراكز الثقافية بعد إغلاق استطال تفادياً لعدوى فيروس «كوفيد» ومشتقاته. عنوان المعرض Divas، وهي مفردة إيطالية توصف بها النجمات من مغنيات الأوبرا، لكنها انتقلت إلى اللغات الأخرى لتعني المطربات الكبيرات منزلة. هل يبالغ منظمو المعرض في التفاؤل حين يحددون الثالث من مارس (آذار) المقبل موعداً للافتتاح واستقبال الجمهور؟ كل شيء بأوانه. ويكفي أن نطلع على الدليل وعلى الصور الملونة الجميلة المبرمجة للعرض.
يمتد المعرض على مساحة ألف متر مربع، في طابقين، ويحمل عنوان «من أم كلثوم إلى داليدا». ولا بأس من ضم المغنية الفرنسية داليدا إلى باقة مطربات الشرق طالما أنها مولودة في حي شبرا القاهري، عام 1933، وقد غنت بالعربية وظهرت في فيلم «اليوم السادس» للمخرج المصري يوسف شاهين. وإلى جانب كوكب الشرق، نجمة المعرض، هناك مواطنتها المخرجة والمنتجة والممثلة بهيجة حافظ، والسورية أسمهان، واللبنانية فيروز، وغيرهن ممن بلغن الصف الأول في ميدانهن وحققن سطوة على جمهور متعطش للأصوات الجميلة وللطرب والتسامي.
تمر السنوات وتصبح الصور تاريخاً. وفي المعرض مجموعة من ملصقات الأفلام وأغلفة الأسطوانات وإعلانات الحفلات التي كانت تقام ما بين القاهرة أم الدنيا، وبيروت ابنتها الصغرى، وباريس ملهمتها على الجرف الشمالي للمتوسط. وجاء في الإعلان عنه «إنه تكريم فريد لكبريات فنانات الموسيقى والغناء والسينما العربية في القرن العشرين، العصر الذهبي للأغنية العربية». كما أن المعرض يستعرض تاريخ كل واحدة منهن ويحتفي بالتركة المعاصرة لها.
من المؤكد أن أبناء الجيل الحالي من الفرنسيين والعرب المهاجرين لم يشاهدوا غلاف أسطوانات لأم كلثوم مثل «سلوا قلبي» و«حبنا الكبير». وهم قد سمعوا أغنية فيروز «بياع الخواتم» من دون أن تتاح لهم فرصة تأمل ملصق الفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين وأدت فيه تلك الأغنية التي يحمل عنوانها. كما يمكن للزائر أن يشاهد مقاطع من أفلام أولئك المطربات، مثل فيلم «غرام وانتقام» الذي رحلت أسمهان في حادث أليم، عام 1944، قبل إنهاء مشاهده الأخيرة.
وفي المعرض صور توثيقية لم يعرض بعضها من قبل، وأزياء ارتدتها الفنانات، ومقتنياتهن الخاصة، وقصاصات من صحف تضمنت مقابلات معهن، ومعلومات وافية عن مسيرة كل واحدة من المحتفى بهن. ولعل من تابع نجاحات المغنية داليدا وتألقها في باريس يود أن يتعرف على بداياتها في مصر، عام 1961، وعلى عودتها للقاهرة لكي ترتدي طرحة الفلاحات وتنطق بالعربية في «اليوم السادس».
لا ينسى المعرض أسماء أخرى لا تقل رنيناً عما سبق، مثل ليلى مراد، ووردة، وصباح، وهند رستم، والراقصة سامية جمال، وزميلتها تحية كاريوكا، والممثلة سعاد حسني. ويسعى المنظمون إلى تأكيد الدور الذي لعبته كل واحدة منهن في تغيير المفاهيم والنظرة الاجتماعية للفنانة. فقد كان لهن ملايين المعجبين، وهن قد قدمن، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، صورة جديدة للمرأة العربية، وقبلها في فترة النهضة الوطنية منذ عشرينات القرن الماضي. وبهذا المعنى، فإن المعرض، من خلال سير نجمات الفن، يلقي الضوء على التاريخ الاجتماعي للعربيات بشكل عام، ودورهن في المعارك الوطنية والنضال ضد الاستعمار.
الجزء الأخير من المعرض مخصص لنظرة عدد من فناني اليوم إلى أولئك المغنيات اللواتي كان إرثهن مصدر إلهام عميق لجيل جديد بالكامل. ومن هؤلاء المصورة اللبنانية رندا ميرزا التي تهتم بموسيقى «الهيب هوب»، والملحن وائل قديح، والفنانين لمياء زيادة، وشيرين نشأت، ويوسف نبيل، ونبيل بطرس. كما تقام حول المعرض ندوات وحفلات موسيقية وعروض تنسجم مع موضوعه.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».