بايدن يتفرغ لأجندته السياسية والإصلاحية

يحتفظ ببعض سياسات ترمب الخارجية ويتخلى عن بعضها داخلياً

يعتزم بايدن الاحتفاظ بـ«قانون الخطوة الأولى» الذي يخفف من العقوبات على جرائم المخدرات (أ.ب)
يعتزم بايدن الاحتفاظ بـ«قانون الخطوة الأولى» الذي يخفف من العقوبات على جرائم المخدرات (أ.ب)
TT

بايدن يتفرغ لأجندته السياسية والإصلاحية

يعتزم بايدن الاحتفاظ بـ«قانون الخطوة الأولى» الذي يخفف من العقوبات على جرائم المخدرات (أ.ب)
يعتزم بايدن الاحتفاظ بـ«قانون الخطوة الأولى» الذي يخفف من العقوبات على جرائم المخدرات (أ.ب)

بعد انتهاء المواجهة السياسية التي خاضها الحزب الديمقراطي مع الرئيس السابق دونالد ترمب، يتجه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى التفرغ لتنفيذ أجندته السياسية والإصلاحية، بهدف التخلص مما يعده بعضهم أجندة ترمب الثقيلة. ومن المعروف أن بايدن يسعى إلى إحداث تغييرات سريعة، سواء في السياسات الداخلية أو الخارجية التي اعتمدها سلفه، لكن أوساط البيت الأبيض تتحدث أيضاً عن احتفاظ الرئيس بكثير من سياسات ترمب أيضاً.
وعلى المستوى الداخلي، يتهم ترمب بأن بعض قراراته كانت مدفوعة بوعود انتخابية، وأنها أثارت انقساماً داخلياً غير مسبوق، وقد حاول على الدوام تصوير أي اتفاق بين الحزبين على أنه إنجاز له، كما حصل في قضية تشكيل قوة الفضاء الأميركية. إلا أن بايدن يعتزم الاحتفاظ بهذه القوة التي تأسست بصفتها فرعاً سادساً في الجيش الأميركي، بالإضافة إلى برنامج رحلات الفضاء «أرتميس». وقد أكدت جين ساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، الأسبوع الماضي، هذا القرار.
وحقق ترمب كذلك بعض الإنجازات التشريعية، من بينها قانون يدعى «قانون الخطوة الأولى» يخفف من العقوبات على جرائم المخدرات، ويعتزم بايدن الاحتفاظ به. وقد حظي هذا القانون أيضاً بدعم من الحزبين، وهو يتيح إطلاق سراح عدد من المسجونين في وقت مبكر.
ويرى معلقون أن الاحتفاظ بهذا القانون لا يعني أن بايدن لن يغير في تشريعات مرتبطة بقضية العدالة، حيث عمد إلى مراجعة سياسات وزير العدل السابق جيف سيشنز التي سمحت عام 2017 بإقامة سجون خاصة، وبتشجيع أقصى العقوبات. وكان بايدن قد أعرب عن أسفه لدعمه مشروع قانون الجرائم لعام 1994 في أثناء حملته الانتخابية، واصفاً إياه بـ«الخطأ الكبير»، وتعهد بإصلاح العدالة الجنائية بنفسه.
وفي حين وجهت لترمب انتقادات بسبب تأثره بضغوط من بعض المشاهير، ومن سياسيين أجانب أو محليين، وحتى التحايل على توصيات وزارة العدل لمنح العفو بشكل عشوائي، دعي الرئيس بايدن إلى وضع تصور لتحسين شروط عملية اختيار من هم المستحقين. وتعرض ترمب لانتقادات كبيرة بسبب قرارات العفو التي اتخذها في الأيام الأخيرة من ولايته، عندما أصدر عفواً عن عدد من كبار مساعديه السابقين، مثل مايكل فلين وروجر ستون وغيرهما.
وعلى الرغم من تعهد بايدن بالتراجع الجزئي عن التخفيضات الضريبية التي مررها ترمب، خصوصاً على الأغنياء، فإنه لم يتخذ حتى الآن أي خطوات ملموسة. كما أنه لم يجر الإعلان عن التصورات المتعلقة بتلك المراجعات الضريبية، وهي قضية حساسة داخل الحزب الديمقراطي، في ظل وجهتي نظر مختلفتين بين الوسطيين واليساريين، ومع الجمهوريين أيضاً.
وفي القضايا الخارجية، لن يعود بايدن عن الاتفاق التجاري الذي وقع مع كندا والمكسيك، وتحول إلى قانون في بداية العام الماضي بدعم من الحزبين أيضاً، وحل محل اتفاق كان قد دعمه بنفسه عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ في تسعينيات القرن الماضي، خلال ولاية الرئيس بيل كلينتون.
وأشاد مسؤولو إدارة بايدن كذلك باتفاقات إبراهيم التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، مؤكدين في الوقت ذاته على عدم العودة عن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، من دون التطرق إلى اعتبار المدينة عاصمة لإسرائيل.
وأعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أيضاً أن الوضع القانوني لمرتفعات الجولان يختلف عن الحاجة الأمنية الراهنة لإسرائيل، تاركاً المجال مفتوحاً أمام احتمال العودة عن قرار إدارة ترمب الاعتراف بضمها إلى إسرائيل.
وفي حين نقل عن أوساط في إدارة بايدن أن التعريفات الجمركية المفروضة، سواء على بعض الدول الأوروبية أو الصين، ستبقى في هذه المرحلة، تجري مراجعة بعض تلك القرارات التي اتخذت بشكل انتقامي أو لخلافات سياسية معها، كما حصل مع ألمانيا.
وسعى بايدن إلى التراجع بسرعة عن كثير من السياسات والقوانين التي أقرت في عهد ترمب، من قوانين الهجرة وتنظيم وتعزيز قبول اللاجئين إلى المناخ وتوقيع قرار تنفيذي بالعودة إلى اتفاقية باريس، ووقف بناء خط أنابيب «كي ستون إكس إل» مع كندا، والعودة إلى عضوية منظمة الصحة العالمية.
ويشدد بايدن على أهمية التحالفات والشراكات مع أصدقاء أميركا وحلفائها، خصوصاً في ملف التعامل مع الصين، ومعالجة تغير المناخ، ومواجهة تداعيات فيروس كورونا. ورغم ذلك، يتمسك بايدن -مثل ترمب- بموقف متشدد من الصين، مع تركيزه على المنافسة، والابتعاد عن سياسات التصادم معها. وتجري إدارته مراجعة شاملة بطيئة لقرارات السياسة الخارجية والاقتصادية، بما في ذلك مراجعة «المرحلة الأولى» من صفقة التجارة التي تم التفاوض عليها بين الولايات المتحدة والصين، والتعريفات المتبقية المطبقة على البضائع الصينية. ويسود اعتقاد بأنه سيقوم برفعها في نهاية المطاف، وكذلك الرسوم المفروضة على الأوروبيين.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟