«كلوب هاوس» يكتسح ويعيد بريق الصوت

تطبيق «كلوب هاوس» يعيد هيبة الصوت (أ.ب)
تطبيق «كلوب هاوس» يعيد هيبة الصوت (أ.ب)
TT

«كلوب هاوس» يكتسح ويعيد بريق الصوت

تطبيق «كلوب هاوس» يعيد هيبة الصوت (أ.ب)
تطبيق «كلوب هاوس» يعيد هيبة الصوت (أ.ب)

دعوة تلحقها دعوة، وأعداد ضخمة في قوائم الانتظار تنتظر من يسمح لها بالولوج إلى عالم جديد، عالم من التواصل الاجتماعي الذي لا يعد جديداً في شكله العام، عدا الاختلافات في تفاصيل بسيطة، تجعل هذه المنصة الجديدة جاذبة لمختلف شرائح الجماهير، من قادة رأي ورؤساء تنفيذيين وإعلاميين ونجوم تواصل اجتماعي، وغيرهم الكثير.
يمكن وصف هذه المنصة بأنها مشابهة للبودكاست، ولكن الاختلاف بينهما، أنها مباشرة ولا شيء يحفظ بها من دردشات صوتية، وهو ما يجعل المشاركين بها ينطلقون بأحاديثهم بأكثر أريحية، مقارنة بالمنصات الأخرى، التي تحفظ ما يُقال بها.
هذه المنصة بدأت في عام 2020. وزاد وهجها في مطلع العام الحالي، حيث بدأ في الأيام القليلة الماضية، ينتشر وبشكل لافت برنامج «كلوب هاوس» (Clubhouse) الذي يعد منصة للدردشة الصوتية عبر غرف مختلفة ينشئها أشخاص مختلفون وتُغلق بعد نهاية الحديث، ويمكن للمشرف على الغرفة أن يتيح فرصة المشاركة الصوتية لأشخاص مختلفين معه أو من الجمهور في الغرفة.
لكل غرفة طابع مختلف عن الأخرى، فمنها من يتحدث عن القضايا السياسية وآخر حول المال والاستثمار وغيرها الكثير من التخصصات والمجالات، والبعض لا يرغب في التخصصية والجدية في الحديث، فيكون الحديث عن الأمور الترفيهية، فلا يوجد ضوابط تحدد كيفية اختيار الموضوع، ولا يوجد محاور وإعداد سابق للغرفة، بل تكون في غالبها محاولات مشاركة اهتمامات وسعي لجذب الجمهور للحديث حولها معهم.
في هذه المنصة يمكن التواصل الصوتي باتجاهين بين قادة الرأي والمثقفين والإعلاميين والفنانين وأيضاً نجوم التواصل الاجتماعي، وبين الجماهير العامة، حيث يمكن للجميع تبادل الأحاديث صوتياً مع مختلف الأشخاص، وهو ما عزز حضور المنصة، كون أن بعض الجماهير تسعى لفرصة نقاش مع بعض الأشخاص حول أفكار أو توجهات معينة.
ويقول فهد الشرفي، الباحث في الإعلام والنشر، أن التحديات حول تطبيق كلوب هاوس، عديدة، وهي أكبر من مزايا استمرار بريقه، ويضيف: «جمهوره نوعي جداً هم محبو النقاشات والحوارات وزوار المنتديات المكانية التي غابت منذ عام ونصف بسبب تحديات كورونا».
ويشير الشرفي في حديث مع «الشرق الأوسط» حول الجاذبية الكبرى، خاصة في السعودية لهذا التطبيق الجديد، أنه شيء جاذب للمتشابهين ويعزز التلاقي لأصحاب الفكرة الواحدة، وجاذب معرفي لأصحاب النقاشات الواسعة، وسيكون مع تقادم الأيام بمحتوى التسويق الشخصي للمستخدمين.
ويرى الباحث الشرفي، أن الصوت هو منتج في الإعلام بدأ من الإذاعة، لكن العالم بأسره اليوم منجذب للصورة والتدوين المباشر الكتابي بسبب سرعة وصولهما، ويبقى تطبيق كلوب هاوس في مرحلة البدايات، وحتماً سيستمر كونه التطبيق الوحيد الذي ينقل الناس للتشاركية والإدارة والإذاعة أمام الناس، إضافة إلى التجربة الجديدة المركزة لا المزدوجة «مع توقعي أن التطبيقات الأخرى مثل (فيسبوك) و(تويتر) و(سناب شات)، ستفعل وتستفيد من أسلوب (كلوب هاوس)».
ويضيف فهد الشرفي، أن المنتجات الصوتية بديل دائم للتطبيقات التي تعتمد على الصورة، حيث إن ظروف الحياة اليومية تحتم على الأشخاص التنقل والعمل، والتطبيق الذي يمكن له أن يكون حاضراً في كل الأوقات هو كل منتج يعتمد على الصوت، ويشير: «كلوب هاوس، سينافس البودكاست فقط، ويتلخص ضعفه أنه تطبيق آني في التوقيت، حيث سيفوّت على من لا يجد وقتاً للدخول في غرف الحوارات المنشودة فرصة المشاركة والاطلاع، بينما البودكاست، منتج دائم البروز على رفوف المنتجات وفي كل وقت».
«كلوب هاوس» ليس جديداً في فكرة المحادثات الصوتية، ولكن الجديد أنه لا يمكن للشخص الولوج له باسم منتحل، بل يجب أن يكون عبر دعوة من أسماء معرفة، وهذا ما يجعل فرص نشوء المحتوى السلبي أقل، بعكس المنصات الأخرى التي يمكن التسجيل بها دون معرفة تفاصيل الشخص.
جميع ذلك، أدى إلى أن هذه المنصة قد تشكل خطراً على البرامج التلفزيونية الترفيهية والسياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، لكون هذه المنصة جمعت المختصين من جميع المجالات، وبإمكانية الحديث حول مختلف المواضيع دون قيود تفرضها القناة أو الوقت.
وليس البرامج التلفزيونية فقط هي من سيقلقها هذا البرنامج، بل وأيضاً بعض منصات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» التي تدرس حالياً إنشاء منتجات منافسة، وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز».
يذكر أن هذا التطبيق (Clubhouse) أطلقته شركة Alpha Exploration Co، في أوائل العام 2020، وتضاعف عدد مستخدميها خلال شهور قليلة، لتصل اليوم إلى ما يزيد عن مليوني مستخدم نشط، وفقاً لمصادر مختلفة، رغم صعوبة الحصول على دعوات والتسجيل به.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)