محاكمة ترمب تهدد بالقضاء على طموحه السياسي

الأميركيون يتساءلون عن جدوى محاكمة الرؤساء إذا كان التحزب لا الدستور هو الذي يحميهم من المحاسبة

محاكمة ترمب تهدد بالقضاء على طموحه السياسي
TT

محاكمة ترمب تهدد بالقضاء على طموحه السياسي

محاكمة ترمب تهدد بالقضاء على طموحه السياسي

ما لم يتنبه إليه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب هو أن محاولة عزله الأولى تركت وقعاً كبيراً، حتى على قواعده الشعبية. ترمب كان واثقاً من فوزه في الانتخابات التي أُجريت يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وكذلك الحزب الجمهوري، الذي كان «استسلم» لقبضة رئيسه بأمل الفوز الموعود، عندما اطلع الأميركيون على حقيقة ابتزازه للرئيس الأوكراني لتلفيق «أوساخ» لمنافسه جو بايدن، مقابل المساعدات العسكرية. لكن نتائج الانتخابات الكارثية، ثم خسارة الجمهوريين مقعدي مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا، أكثر الولايات ولاء لهم، كانت تطورات صادمة. ذلك أن ما جرى في انتخابات الإعادة التي نظمت في تلك الولاية الجنوبية بعد شهرين من خسارة الجمهوريين معركتي الرئاسة ومجلس النواب، اختصر المشهد السياسي الذي صوت عليه الأميركيون في 3 نوفمبر، بما هو تصويت على شرعية ترمب السياسية.

بعيداً عن الوصف الكلاسيكي لـ«تاريخية» محاكمات الرؤساء الأميركيين، لا شك في أن محاكمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب للمرة الثانية بهدف عزله - فضلاً عن كونها الأولى لمسؤول غادر السلطة - تأتي محاولة لنزع الشرعية السياسية عبر «عزله» لحرمانه مستقبلاً، ليس فقط من لعب دور سياسي، بل ومن الانقلاب على المنظومة السياسية التي تحميها «مؤسسة» سلطة عماد وجودها وعلتها هو ضمان التداول السلمي والديمقراطي للسلطة.
ورغم محاولة الحزب الجمهوري وفريق المدافعين عن ترمب، تصوير ما حدث ويحدث بـ«مسرحية المحاكمة السياسية»، فهذا الاتهام لا ينتقص من شرعيتها في نهاية المطاف. فمحاكمة رؤساء الدول، مهما كانت الدوافع والأسباب التي تقف وراءها، لا بد أن تتحول إلى محاكمة سياسية لعهودهم وسياساتهم وأحزابهم وتياراتهم.

- «كوفيد - 19»... وسوابق محاولات العزل
لا شك أن تداعيات جائحة «كوفيد - 19» الكارثية الصحية والاقتصادية لعبت دوراً مهماً في هزيمة ترمب. إلا أن فشل إدارته في إعداد خطة وطنية لمواجهة الجائحة، كشف أيضاً عن قصور سياسي على رأس أكبر وأغنى دولة في العالم. إذ نجح الديمقراطيون ومعهم «مؤسسة» السلطة في واشنطن، بتحويل أحداث 6 يناير (كانون الثاني) عندما اقتحام أنصار ترمب مبنى «الكابيتول» (مقر مجلسي الكونغرس)، إلى معركة سياسية عنوانها «عزل رئيس خرج من السلطة» لإنهاء حيثيته السياسية، وهذا بمعزل عن نتائج التصويت التي لا تزال تشير إلى تعذّر الحصول على 67 صوتاً من أعضاء مجلس الشيوخ لإدانته.
في المقابل، فتحت محاكمة ترمب الثانية نقاشاً سياسياً وحزبياً ودستورياً عن تاريخية محاكمة رئيس «مذنب» وجدواها. فإذا كانت تجارب العزل التي شهدتها الولايات المتحدة في تاريخها لم تؤد إلى إقالة أي رئيس من منصبه بسبب تمتعه بحماية حزبه، فما الجدوى من تكرار هذه التجارب؟ وما الذي يمكن تحقيقه في محاكمة ترمب الثانية أكثر من إظهار أن التحزب هو الذي يعمل وليس الدستور؟
قبل ترمب كانت هناك أربع محاولات عزل رئاسية منذ التوقيع على الدستور الأميركي عام 1787. ولم تؤد أي منها إلى الإقالة، ولكن في المقابل كان لكل منها نتائج سياسية كبيرة. فبعد فشل محاولة إقالة الرئيس أندرو جونسون عام 1868، فإنه أخفق في الترشح والحصول على ولاية رئاسية الثانية. وفي عام 1974 لم يُقل الرئيس ريتشارد نيكسون لكنه استقال تحت وطـأة فضيحة «ووترغيت» الهائلة. وفي عام 1998، أخفق الجمهوريون في إزاحة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، وبدلاً من ذلك، استقال خصمه الأكبر في ذلك الوقت رئيس مجلس النواب الجمهوري نيوت غينغريتش، وكذلك خلفه بوب ليفينغستون الذي اعترف بعلاقة غرامية خارج نطاق الزواج! ثم إن إدارة كلينتون كانت أول إدارة تفوز بمقاعد أكثر في الكونغرس في السنة السادسة من ولايته منذ إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية. وأخيراً، في عام 2020 فشلت عملية إقالة ترمب لكنه خسر الرئاسة، وفقد حزبه السيطرة على مجلس الشيوخ.
مع هذا، فإن النقاش الذي لا يزال مستمراً داخل أروقة مجلس الشيوخ، لا يقتصر فقط على «دستورية» محاكمة رئيس خرج من السلطة، وهي القضية التي حُسمت بتصويت المجلس على صحتها، مع انضمام 6 شيوخ جمهوريين إلى 50 ديمقراطياً. بل طُرح تساؤل آخر عما إذا كان اتهام الرئيس باقترافه «جرماً»، هو العلة الوحيدة التي تجيز محاكمته وعزله؟ أم أن سوء استخدامه للسلطة هو سبب آخر وأساسي كافٍ لعزله؟
لقد رفع محامو ترمب في دفاعهم عنه حجة تقول إن إدانته وحرمانه من تولي أي منصب في المستقبل من شأنه أن ينتهك حقوقه في التعديل الدستوري الأول، الذي يرقى إلى معاقبته على حرية إبداء رأيه. وقال محاميه ديفيد شوين، إن إدانة ترمب «تعرّض للخطر أي متحدث سياسي، وهو ما يتعارض مع كل ما نؤمن به في هذا البلد». غير أن هذا الادعاء قد يكون خاطئاً، بحسب العديد من القانونيين، الذين يجادلون بأنه حتى لو كان «التعديل الأول» (من الدستور الأميركي) يحمي ترمب من المسؤولية الجنائية والتقصيرية عن خطابه في 6 يناير (كانون الثاني) الماضي للحشد الذي اقتحم مبنى «الكابيتول» لاحقاً، فإن ليس له أي تأثير على ما إذا كان بإمكان الكونغرس إدانة واستبعاد الرئيس لسوء السلوك... الذي يقوم جزئياً على خطاب تحريضي، أدى بسرعة وبشكل متوقع، إلى أعمال عنف مميتة.

- النزاهة والمساءلة... والتبعات
واضعو الدستور الأميركي صمموا إجراءات الإقالة كطرق لعزل المسؤولين الفيدراليين الفاسدين. غير أنه استعيض عنها ليحل محلها ما يسمى «عمليات قانون النزاهة العامة الفيدرالي» الذي تفرضه وزارة العدل. وفي كل شهر تعلن وزارة العدل عن إجراءات في نحو عشرين حالة، بحسب إحصاءات رسمية، وشملت أخيراً على سبيل المثال عمدة سابقاً في إقليم غوام الفيدرالي (غرب المحيط الهادئ)، الذي قام بتغييرات وظيفية، عبر ابتزاز ضابط حدود سابق بتهم رشوة. ولكن، مع ذلك بقيت قضية المساءلة وطرقها التي صاغها الدستور حجة قوية تحرك دعاوى إقالة الرؤساء الأميركيين.
غير أن ما يمكن أن تفعله إجراءات العزل في العصر الحديث هو إرسال إشارة قوية إلى الجمهور حول خطورة بعض القضايا. فعندما يقدم مجلس النواب على إقالة الرئيس من منصبه، فإنه يعلن الخروج من ممارسة السياسة العادية إلى التعامل مع حالة طوارئ حقيقية. إنه يرفع سوء استخدام الرئيس المزعوم لسلطته فوق جميع سلطات الكونغرس الأخرى. وفرض مجلس النواب مساءلة الرئيس على مجلس الشيوخ بهدف إقالته يغير التقويم السياسي، ويركز على القضايا التي حرّكت طلب الإقالة وتوضيحها، ويجبر أعضاء مجلس الشيوخ على اتخاذ موقف، إما إدانة الرئيس أو تبرئته.
ولأن الاتهام عمل غير عادي، فقد تنعكس آثاره سلباً أو إيجاباً ليس فقط على مؤيدي الرئيس، بل وعلى الأميركيين عموماً، كما حصل بعد محاكمة كلينتون. إذ رفضت غالبية كبيرة من الشعب الأميركي - يومذاك - القضية التي رفعها الجمهوريون لعزله. وبعد موافقة مجلس النواب الذي كانوا يسيطرون عليه على بنود الإقالة، ارتفعت شعبية كلينتون إلى مستوى بلغ 73 في المائة، خلال استطلاع مشترك لمحطة «سي إن إن» و«يو إس إيه توداي» و«غالوب»، مقابل انخفاض نسبة تأييد الجمهوريين إلى 31 في المائة.

- بين الجريمة وتجاوز السلطة
على النقيض من ذلك، كانت محاكمة ترمب الأولى مدعومة بغالبية ثابتة، وإن كانت ضيقة، إذ أدان غالبية الأميركيين محاولة ابتزاز الحكومة الأوكرانية للمساعدة في إعادة انتخابه، بينما كان ترمب وأنصاره يأملون - بل، ويثقون - في أن المساءلة ستأتي بنتائج عكسية في عام 2020، كما جرى عام 1998. لكن آمالهم خابت، وانتهت العملية بتصويت معظم الأميركيين على أن ترمب ارتكب جرائم تستوجب عزله من منصبه، ليس فقط في محاكمته الأولى، بل وفي محاكمته الثانية المستمرة فصولها، التي حوَّلته إلى أول رئيس أميركي يتعرّض مرتين للمساءلة والمحاكمة في التاريخ.
للعلم، كلينتون لم يقترف في حينه «جرماً» ولم يستغل سلطته لحسابات سياسية، كما أن الرئيس الأسبق رونالد ريغان لم يُعزل على خلفية فضيحة «إيران كونترا»، ولم يتعرض الرئيس الأسبق جورج بوش الابن للمساءلة بسبب «الحرب على الإرهاب» و«حرب العراق» التي أدت إلى خسارة الجمهوريين مجلسي النواب والشيوخ عام 2006. أيضاً لم يتعرض الرئيس الأسبق باراك أوباما للمساءلة رغم حماسة جمهوريي «حفلة الشاي» اليمينيين المتشددين إثر خسارة الديمقراطيين مجلس النواب عام 2010 ومجلس الشيوخ عام 2014، على خلفية ملفات المهاجرين والانسحاب من العراق وظهور تنظيم «داعش».
غير أن ما فعله ترمب، هذا العام، حسب الادعاء، هو تحريض حشود من أنصاره على مهاجمة مقر الكونغرس، على أمل قلب هزيمته في الانتخابات الرئاسية. واستخدم المدّعون في مجلس النواب دلائل بالصوت والصورة، عن ترمب حين قال: «إذا لم تقاتل مثل الجحيم، فلن يكون لديك بلد بعد الآن»، لإثبات دوره في المسؤولية عن مهاجمة مبنى «الكابيتول»، والتسبُّب في مقتل 5 أشخاص. كذلك قدّموا دليلاً قاطعاً عن محاولاته الضغط على مسؤولي الانتخابات في الولايات الجمهورية «لإيجاد» أصوات لعكس نتائج الانتخابات لمصلحته.
رغم ذلك قد لا تشكل هذه الأدلة سبباً كافياً لحض مجلس الشيوخ، أو على الأقل لحض أعضائه الجمهوريين، على إدانة ترمب، مثلما امتنعوا عن إدانته في محاكمته الأولى. لكنها كانت كافية لإظهار أن انتخابات 2020 في جورجيا جاءت استفتاءً على مخالفات ترمب قبل كل شيء، وليس على ما حاول الجمهوريون تصويره على أنه نتيجة الفشل في مواجهة تداعيات «كوفيد - 19». ذلك أن تبرئته الأولى أدت فقط إلى تأجيل محاسبته السياسية وليس تجنبها. وهو، على أي حال، ما دفع حتى أشد المدافعين عن ترمب إلى الاعتراف بهذه الحقيقة. إذ كتب مارك هامنغواي في موقع «رييل كلير بوليتكس» قائلاً: «بلغة الأرقام، فإن جو بايدن هو رئيس الولايات المتحدة لأنه فاز بولايات أريزونا وجورجيا وويسكونسن بإجمالي 43 ألف صوت. لكنه يدين أيضاً بفوزه إلى الأساس الذي وضعه الديمقراطيون وحلفاؤهم الإعلاميون قبل سنة واحدة، خلال أول محاكمة لعزل ترمب بسبب مطلبه المزعوم المرتبط بشروط أن تقوم الحكومة الأوكرانية بالتحقيق في فساد مزعوم يتعلق بنجله هنتر بايدن».
في محاكمته الأولى عام 2020، اعتمد ترمب على دعم غالبية الجمهوريين في مجلس الشيوخ، وربما يحصل على تبرئته الثانية هذا العام أيضاً. لكن هناك من يقول إن الضرر عليه وعلى الحزب الجمهوري ربما يكون قد وقع. فإذا كان هدفه الأول هو العودة إلى الرئاسة عام 2024. فإن الملفات المفتوحة ضده قد تجعل من شبه المستحيل حصوله على إجماع، ليس فقط من الأميركيين عموماً الذين صوتوا ضده بأكثر من 7 ملايين صوت، بل ومن حزبه الجمهوري أيضاً. فترمب، لم يواجه فقط انشقاق 6 من الشيوخ الجمهوريين في تأييد محاكمته وفي تأكيد دستوريتها، بل وتراجع تأييده بين الجمهوريين إلى 36 في المائة من الذين لا يزالون يقولون إن «ترمب لم يرتكب أي خطأ»، بعدما كانت نسبتهم 56 في المائة في محاكمته الأولى بحسب الاستطلاعات.
أضف إلى ذلك أن الضرر قد أصاب أيضا قدرته على إثبات أنه هو القوة الرئيسية المهيمنة على الحزب، حين أدان كبير الجمهوريين السيناتور ميتش ماكونيل وغيره من قيادات الحزب سلوكه، وادعاءاته عن تزوير الانتخابات. وبجانب ذلك، رفض نواب الحزب الجمهوري إقالة النائبة ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس السابق ديك تشيني، من موقعها كثالث أكبر مسؤول جمهوري في مجلس النواب بسبب تصويتها على عزله. وأخيراً، حتى قدرة ترمب على مواصلة إبعاد الملاحقات القضائية عنه، باتت أمراً مشكوكا به في ظل استعداد عدد من محاكم الولايات لرفع دعاوى مالية وتجارية وضريبية ضده.
ما ستثبته المحاكمة الثانية لترمب، أن الجمهوريين ليسوا مستعدين للاتحاد ضده، لكنهم غير متحدين على تبرئته أيضاً. وهذا ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل الحزب خلال انتخابات عامي 2022 و2024 أيضاً.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.