ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

الاقتصادي والمصرفي الناجح الذي أنقذ اليورو

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة
TT

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

منذ عشر سنوات عندما كان ماريو دراغي رئيساً للبنك المركزي الأوروبي في أحرج مراحل الأزمة المالية العالمية، لمع اسمه كمنقذ للعملة الأوروبية الموحّدة عندما تفوّه بتلك الكلمات السحرية الثلاث «مهما اقتضى الأمر» Whatever it takes. وبفضل هذا الموقف تشتّت المضاربون الذين كانوا يعدّون لنهش اليورو، الرازح يومها تحت وطأة مستويات قياسية من الدين العام وترنّح القطاع المصرفي والآفاق الاقتصادية المسدودة أمام عشرات العاطلين عن العمل في بلدان الاتحاد الأوروبي.
تلك كانت المحطة الأصعب في مسيرة دراغي اللامعة حتى مساء الأربعاء الفائت عندما قرّر خوض معركة إنقاذ إيطاليا الغارقة دوماً في أزماتها السياسية والتي يتهالك اقتصادها الصناعي باستمرار منذ عشرين سنة. وجاء قبول دراغي بهذه المهمة شبه المستحيلة تجاوباً مع طلب رئيس الجمهورية سيرجيو ماتّاريلّا بعد فشل محاولاته لتعويم رئيس الوزراء السابق جيوزيبي كونتي لتشكيل حكومة جديدة إثر استقالة حكومته الثانية. وكانت القاعدة لتلك الحكومة قد انحسرت البرلمانية، خاصة في مجلس الشيوخ، إثر انسحاب كتلة «إيطاليا الحيّة» التي يقودها ماتّيو رينزي رئيس الوزراء الأسبق المنشقّ عن الحزب الديمقراطي (يسار الوسط) والعدو اللدود لكونتي.

عاش ماريو دراغي، المولود في العاصمة الإيطالية روما عام 1947، يتيم الأبوين منذ سن العشرين. وكان والده موظفاً في البنك المركزي الإيطالي الذي التحق هو به بعد تخرجه في الجامعة وتدرّج فيه ليتولّى منصب الحاكم من مطلع عام 2006 وحتى نهاية عام 2011 عندما عُيِّن رئيساً للبنك المركزي الأوروبي.
يقول عنه زميله على مقاعد الدراسة لوكا دي مونتيتزيمولو، الرئيس السابق لشركتي «فيات» و«فيرّاري»، «كان الألمع بيننا في كل المواد الأكاديمية والرياضة والعلاقات الشخصية». ومع أن أساتذته نصحوه بمتابعة دراسة الفلسفة والعلوم الاجتماعية، فإنه فضّل الالتحاق بكليّة الاقتصاد بجامعة روما «لا سابيينزا» العريقة التي تخرّج فيها في المرتبة الأولى بين دفعته. وبعد التخرّج تابع دراغي دراساته العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (الإم آي تي) الشهير في الولايات المتحدة، حيث حصل على الدكتوراه، وكان عنوان أطروحته للدكتوراه «دراسات في النظرية الاقتصادية». وهي تتعامل مع صعوبة تطبيق سياسات الاستقرار القصيرة الأجل ومواكبتها بإصلاحات على المدى الطويل، أي ما يشكّل اليوم التحدي الأكبر الذي يقف أمامه كرئيس للحكومة الإيطالية. وما يُذكر أنه كان بين زملائه في «الإم آي تي» خلال تلك الفترة بن برنانكه الذي أصبح لاحقاً رئيساً لـ«الاحتياط الفيدرالي» (البنك المركزي الأميركي) وأستاذ الاقتصاد الشهير أوليفيه بلانشار الذي كان كبير خبراء صندوق النقد الدولي طيلة 12 سنة.

- المصرفي الناجح
بعد التخرج، انضمّ ماريو دراغي إلى فريق مستشاري البنك المركزي ووزارة المال في إيطاليا، حيث لعب دوراً بارزاً في وضع خطط الانضمام إلى «منطقة اليورو». ثم انتقل بعد ذلك لفترة سنتين ليتولّى منصب نائب رئيس مصرف «غولدمان ساكس» للاستثمار. ولكن رغم تجربته في ذلك المصرف خلال الفترة التي كان غولدمان ساكس مكلّفاً مراجعة حسابات اليونان - ورغم جنسيته الإيطالية التي تثير تلقائياً التحفظات في بلدان أوروبا الشمالية وبخاصة في ألمانيا - أجمع قادة الاتحاد الأوروبي على تعيينه رئيساً للبنك المركزي الأوروبي خلفاً للفرنسي جان كلود تريشيه، الذي يجمع المراقبون على أنه أخطأ في نهاية ولايته عندما قرّر رفع أسعار الفائدة ورفض اتخاذ تدابير استثنائية لمواجهة الأزمة المالية التي كانت تهدد اليورو.
إلا أنه بعد ساعات قليلة من تسلّم دراغي مهامه رئيساً للبنك المركزي الأوروبي، قرّر خفض أسعار الفائدة وضخّ كميّات غير مسبوقة من السيولة في السوق المالية. وبعد ذلك أقنع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بضرورة الخروج عن التشدد في قواعد الانضباط المالي التي اشتهرت بها ألمانيا وشراء الدين العام. ثم أطلق عبارته الشهيرة «مهما اقتضى الأمر» التي أنقذت اليورو من الكارثة.
ثم، كدليل على حزمه وإقدامه على اتخاذ القرارات الصعبة، كانت مبادرته في صيف العام 2011 عندما كان حاكماً للمصرف المركزي الإيطالي بالضغط على تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي (حينذاك)، لتوجيه إنذار إلى سيلفيو برلوسكوني رئيس الحكومة الإيطالية في تلك الفترة، وإجباره على إجراء إصلاحات صعبة كان يرفض القيام بها خوفاً على شعبيته وسقوط حكومته اليمينية. ثم عندما تولّى رئاسة البنك المركزي الأوروبي في ذروة الأزمة المالية، مارس ضغوطاً كبيرة أجبرت العديد من الحكومات الأوروبية على طلب كفالات كانت ترفضها لما تستدعيه من خفض جذري في مستويات الإنفاق العام على الخدمات الأساسية. وما زالت إلى اليوم تتردد العبارة الشهيرة التي وصف بها يانيس فاروفاكيس، وزير المال اليوناني، دراغي... عندما قال إنه «طاغية مأساوي» بعد الشروط القاسية التي فرضها على اليونان للخروج من الأزمة.

- معالجة آثار «كوفيد ـ 19»
عندما غادر دراغي رئاسة البنك المركزي الأوروبي وعاد إلى روما في خريف عام 2019، كانت الأزمة المالية الكبرى قد بلغت خواتيمها. ويجمع المراقبون على أنه أظهر مهارة تقنيّة متميزة، وكشف عن موهبة استثنائية في التواصل، وحاسّة سياسية مرهفة أعادت إلى الذاكرة «كبار المدرسة الإيطالية» من التشيدي دي غاسبيري إلى جوليو آندريوتي.
أزمة اليورو كانت هي التي حملت دراغي إلى فرانكفورت لتولّي رئاسة البنك المركزي الأوروبي. واليوم، إلى رئاسة الحكومة الإيطالية تحمله محنة «كوفيد - 19» التي أمضاها معتكفاً في منزله الريفي بمقاطعة أومبريا الجبلية الصغيرة (وسط إيطاليا)، حيث كان يتواصل منذ أيام مع رئيس الجمهورية سرجيو ماتّاريلّا، ورئيس الوزراء الأسبق ماتّيو رينزي، والمستشار الأقرب إلى سيلفيو برلوسكوني جيانّي ليتّا.
وبعد بضع ساعات من إعلان دراغي تجاوبه مع طلب رئيس الجمهورية تشكيل الحكومة الجديدة، سجّلت البورصة الإيطالية أعلى ارتفاع بين البورصات الأوروبية في حين كانت فوائد خدمة الدين العام الإيطالي تتراجع إلى مستويات لم تشهدها منذ 15 سنة. مع هذا، يدرك دراغي جيداً أن مهمته محفوفة بالعراقيل والمخاطر. ولن يكون من السهل عليه أن يوفّق بين الأحزاب السياسية المتناحرة بشراسة غير معهودة ليؤمّن الدعم الكافي في البرلمان لحكومته، التي يرجّح أن تكون تكنوقراطية مطعّمة ببعض الأسماء السياسية التي تستقطب تأييداً واسعاً في البرلمان.

- قطع الطريق على اليمين المتطرف
لم يحدّد رئيس الجمهورية مهلة أمام ماريو دراغي لتشكيل الحكومة خشية من انتكاسة أخرى تفتح الباب مباشرة على الانتخابات المسبقة التي يطالب بها اليمين المتطرف وتتحاشاها بقية الأحزاب. وهو بعد اجتماعه مطولاً مع ماتّاريلّا خرج ليعلن أمام وسائل الإعلام «إنها مرحلة صعبة، تقتضي استجابة على مستوى التحديات الكبيرة أمامنا. وعلى هذا الأساس تجاوبت مع دعوة الرئيس لتشكيل الحكومة التي ستركّز نشاطها على دحر الجائحة واستكمال حملة التطعيم وإنهاض البلاد في وجه التحديات التي تنتظرنا. أمامنا فرصة تاريخية مع الموارد الاستثنائية التي سنحصل عليها من الاتحاد الأوروبي لإجراء الإصلاحات التي تحتاج إليها البلاد، والتركيز على الشباب، وتعزيز التلاحم الاجتماعي». وليس معروفاً بعد كيف ستكون التشكيلة الحكومية التي سيقدمها دراغي إلى البرلمان، خاصة أنه لم يتموضع أبداً في خانة سياسية معيّنة، بل حرص دائماً على النأي بتعليقاته النادرة حول الوضع السياسي في البلاد عن الخوض في النقاش العام المحتدم بين الأحزاب والبقاء على مسافة واحدة من الجميع. وهو يبدو في ذلك وكأنه كان يستعدّ منذ سنوات لهذا التكليف الذي جاءه بعد أن تكرر اسمه مرات عديدة في السابق لتشكيل «حكومة «إنقاذ».
المهم، الخطوة التالية، لتقديم دراغي تشكيلته الحكومية إلى رئيس الجمهورية، المثول أمام البرلمان طلباً للثقة في جلسة قد تمتدّ حتى منتصف هذا الشهر، حيث ينتظر أن يصبح الرئيس السادس للحكومة الذي لم ينتخبه الشعب منذ عام 2008. لعله، بذا يؤكد مرة أخرى عجز النظام السياسي الإيطالي عن طرح الحلول التي تستدعيها المراحل والأزمات الصعبة، كما يثبت فشل الطبقة والأحزاب السياسية في الارتقاء إلى مستوى التحديات الكبرى. ولعلّ كونتي هو المثال الأوضح على هذا الفشل، حيث لم تعد الأحزاب الكبرى مهتمة حتى بأن يتولّى أحد قادتها رئاسة الحكومة، بل وتفضّل تكليف شخصيات مستقلة من خارج المشهد السياسي.
من ناحية ثانية، اللافت أن أوّل الذين أعلنوا تأييدهم تكليف دراغي كان رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلوسكوني الذي يجهد للحفاظ على تماسك حزبه «إلى الأمام يا إيطاليا» (فورتسا إيطاليا» الذي يصمد بصعوبة ضمن التحالف مع القوى اليمينية المتطرفة الصاعدة بقوة منذ سنوات في إيطاليا. وفي المقابل، يعتمد دراغي أيضاً على دعم ماتّيو رينزي الذي كان السبب في الأزمة الحكومية عندما قرّر سحب وزرائه منها أولاً، ثم بقطعه الطريق لاحقاً على محاولات إعادة تشكيل أغلبية جديدة لتكليف كونتي تأليف حكومة ثالثة. ومن المرجّح أيضاً أن ينال دراغي تأييد الحزب الديمقراطي (اليساري المعتدل) الذي يتراجع تأثيره في المشهد السياسي الإيطالي بعدما تولّى ثلاثة من زعمائه رئاسة الحكومة خلال السنوات العشر الماضية.

- مصاعب «النجوم الخمس» و«الرابطة» جدية
«حركة النجوم الخمس»، التي تملك أكبر كتلة في مجلسي النواب والشيوخ، والتي تواجه خطراً محدقاً بالانقسام والتشرذم إذا ما خرجت من الحكومة، أو عند أول استحقاق انتخابات عامة، فهي تصرّ على ربط تأييدها دراغي بحكومة سياسية يعود فيها الرئيس المستقيل جيوزيبي كونتي إلى الواجهة. وكان كونتي قد دعا في كلمته الوداعية التي أعرب فيها عن تأييده تكليف دراغي إلى تشكيل حكومة سياسية على أوسع قاعدة برلمانية ممكنة. أما الحزب الوحيد الذي أعلن صراحة اعتراضه علـى تكليف دراغي، والتصويت ضد تشكيلته في جلسة الثقة، فهو حزب «إخوان إيطاليا» الذي يقوم على فلول الفاشيين، ويطالب بالذهاب إلى انتخابات مسبقة ترجّح كل الاستطلاعات أنه سيكون الفائز الأكبر فيها.
وللعلم، ثمة من يتوقع انضمام حزب «الرابطة» اليميني المتطرف الذي يتزعمه قائد تحالف اليمين ماتّيو سالفيني - الذي يطالب أيضاً بإجراء انتخابات مسبقة - إلى قافلة المؤيدين لحكومة دراغي خشية تصدّعه داخلياً بعدما لمح بعض قادته عن استعدادهم لتأييد الحكومة الجديدة حتى نهاية ولاية البرلمان في العام 2023، وأيضاً لأن الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى تقدّم «إخوان إيطاليا» على حساب «الرابطة». وما يذكر أن «الرابطة» ما زالت أسيرة التنازع الداخلي بين الجناح المتطرف المناهض للمشروع الأوروبي والجناح التقليدي الذي تربطه علاقات وطيدة بالقطاع الصناعي، وبالتالي، يدعو إلى الاعتدال، وتحاشي التهوّر وركوب المغامرات، وإتاحة الفرصة أمام الحكومة الجديدة لإخراج البلاد من الأزمة.
في أي حال يعرف دراغي أنه سيحصل على الغالبية البرلمانية اللازمة لمشروعه الحكومي، وأن الأحزاب السياسية ليست في وضع يسمح لها بفرض شروط تعجيزية على حكومة إنقاذ فشلت في تشكيلها رغم الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد. وهو يعرف أيضاً أنه سيحظى بـ«فترة السماح» المعهودة التي تعطى للحكومات - وبخاصة التكنوقراطية - خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، لكن لا يخفى عليه أن طبائع الأحزاب الإيطالية ستغلب على تطبّعها... وستعود إلى شدّ الحبال في اتجاه مصالحها الضيّقة.
أخيراً، الميزة الأساسية التي يتمتّع بها ماريو دراغي بالمقارنة مع «حكومات الإنقاذ» السابقة التي رأسها التكنوقراط، هي أنه ليس مضطراً إلى اتخاذ إجراءات قاسية والقيام بإصلاحات مؤلمة. بل أمامه 229 مليار يورو من صندوق الانعاش الأوروبي لإنفاقها على برنامج واسع من الاستثمارات التي من شأنها أن تغّير وجه إيطاليا، بيد أن أنفاق هذه الأموال مشروط أيضا بإجراء إصلاحات أظهرت إيطاليا عجزاً مرضيّا عن إجرائها منذ عقود. هذا هو التحدي الأكبر أمام دراغي الذي يعرف أنه إذا نجح في مواجهته لن يكون هناك أي حاجز أمام وصوله إلى رئاسة الجمهورية التي تبقى هدفه الأسمى.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.