في قصر الأمم المتحدة بمدينة جنيف، وقف الشيخ محمد البرغوثي، رئيس المجلس الاجتماعي لقبائل ورفلّة، وأحد المشاركين في «ملتقى الحوار السياسي الليبي»، موجهاً حديثه عبر تقنية الفيديو إلى رئيس الحكومة الجديدة عبد الحميد دبيبة، قائلاً له «الشعب الليبي لا يطلب منكم الآن مشاريع عملاقة، أو تعاقدات دولية، إنما يريد الغذاء والأمن والدواء». ولقد عكست كلمة البرغوثي البسيطة، التي أدلى بها عقب الإعلان عن السلطة التنفيذية المؤقتة، وتداولها الليبيون على نطاق واسع عبر مقطع فيديو، رغبة ملايين المواطنين في سرعة تأمين متطلبات حياتية محددة بعيداً عن الأمنيات والأحلام العريضة التي تنتهي عادة بانكسارات مؤلمة. ولكن، قبل أن تقطع السلطة الجديدة أولى خطواتها باتجاه نيل الثقة من البرلمان أبدت أطراف ليبية خشيتها من محاولة قطع الطريق عليها وعرقلتها بقصد «تفخيخ» الاتفاق الوليد. ومن ثم، العودة ثانية للاحتكام إلى آلة الحرب، وهو الخيار الذي بات يكرهه جل الليبيين.
أما مبعث هذه المخاوف فهو أن «تيار الخاسرين» في عملية الترشح، والمحسوبين على السلطة القائمة، أخذوا في التعاطي مع هذا الاتفاق، بل الترحيب المُبالغ به وكأن شيئاً لم يكن. وهو ما أثار قلق بعض المتابعين «من تحركات قد تجرى في الخفاء لوضع العثرات بطريق الحكومة، بعضها يتمثل في الاعتراض على تشكيلها، والتباطؤ في منحها الثقة من البرلمان (المنقسم)، أو يكون للميليشيات المسلحة بالعاصمة طرابلس رأي آخر».
لعل من أسباب الاندهاش التي صاحبت الإعلان عن اختيار السلطة المؤقتة الجديدة في ليبيا، أنها أتت بشخصيات لم يكن الرهان مُنعقداً عليها بشكل واضح، أو حتى تحظى بشهرة في الأوساط السياسية كمنافسيهم «الثقال» الذين أخفقوا في السباق. إذ شهدت جلسات الملتقى في جنيف «ترتيبات» و«تكتلات»، وحرص المصوّتون، بحسب أحدهم في حديث إلى «الشرق الأوسط» على اختيار «أقل الشخصيات إثارة للجدل وبُعداً عن التورّط في حرب طرابلس؛ ولذا جرى التغاضي عن الأسماء ذات الوزن الثقيل، مع مراعاتنا التوازن الجغرافي بين الأقاليم الثالثة».
لقد حل على رأس هذه السلطة الجديدة الدكتور محمد يونس المنفي، المنتخَب رئيساً للمجلس الرئاسي، مع عضوية موسى الكوني وعبد الله اللافي، بينما يترأس عبد الحميد دبيبة الحكومة. والمنفي، الذي ينتمي إلى قبيلة المنفه بمدينة طبرق (في شرق ليبيا)، حاصل على الدكتوراه من جامعة لوهافر في فرنسا، وعُيّن من قبل «المجلس الرئاسي» بقيادة فائز السراج سفيراً لبلاده في اليونان، لكنه طُرد على خلفية توقيع اتفاقية «ترسيم الحدود البحرية» بين سلطات طرابلس وتركيا نهاية 2019.
وفي أعقاب ما تردد حول أن المنفي على صلة بتنظيم «الإخوان» في ليبيا، استبعد جمال شلوف، رئيس مؤسسة «سلفيوم للدراسات والأبحاث»، قائلاً «بحكم معرفتي بالدكتور المنفي، فإنه لا ينتمي إلى (الإخوان)، لا فكراً ولا توجهاً، وإنما لا يؤمن بإقصائهم». وذكر شلوف، أن المنفي إبان عمله سفيراً في اليونان ساعد في علاج جرحى قوات «الجيش الوطني الليبي» هناك، وكان «يتواصل مع القوات المسلحة كما يفعل الشيء ذاته مع بقية الأطراف، وعلى علاقة طيبة بالجميع».
أما دبيبة، الذي تولى رئاسة الحكومة، فهو رجل أعمال ينحدر من أسرة ثرية في مدينة مصراتة، (غرب البلاد)، فضلاً عن أنه مقرّب من تركيا، وفسّر بعض السياسيين اختياره متغلباً على فتحي باشاغا، وزير الداخلية في «حكومة الوفاق»، بأنه دليل على قدرة رأس المال على تجاوز التناحر والاختلاف السياسي. ولكن ثمة من يرى أن قائمته التي حسمت التنافس بحصولها على 39 صوتاً من مجموع 75 صوتاً، جاءت نتاج تحالف بين المصوّتين على ترجيح كفة دبيبة مقابل التصويت للمنفي، فضلاً عن دعم نشط قدّمته كل من أنقرة وموسكو له.
هذا، وصوّت المشاركون في المباحثات، التي رعتها الأمم المتحدة في سويسرا يوم 5 فبراير (شباط) الحالي، لاختيار سلطة مؤقتة تشرف على فترة ما قبل إجراء انتخابات نيابية ورئاسية مقررة في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، قبل أن يتخلوا عن مناصبهم للرئاسة الجديدة. وأصدر المرشحون الخاسرون في التصويت، ومن بينهم عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب بشرق ليبيا، ووزير الدفاع في «حكومة الوفاق» صلاح النمروش، بالإضافة إلى باشاغا، بيانات تأييد للحكومة الجديدة، علماً بأنه سيتحتم على هؤلاء مغادرة مناصبهم لإفساح المجال للسلطة الجديدة، فضلاً عن أن قيادة البرلمان في طبرق ستؤول إلى إقليم فزان (جنوب ليبيا) وفقاً للاتفاق السياسي، ومن هنا يُعتقد أن الخلافات ستطفو على سطح المشهد السياسي عما قريب.
- عراقيل التسليم والتسلم
الضجيج السياسي المواكب للإعلان عن السلطة الجديدة، لم يتمكن من إخفاء المخاوف المتوقعة لجهة وضع العراقيل في طريق تسليم السلطة إلى حكومة دبيبة. فبينما يرى معظم الليبيين أنهم عند مفترق طرق، فإنهم ينظرون إلى هذه الحكومة كطوق نجاة سينتشلهم من بين أمواج الفقر والعوز والارتهان للفوضى الأمنية. في المقابل، قلل السفير عاشور أبو راشد، مندوب ليبيا السابق لدى جامعة الدول العربية، من هذه المخاوف، وقال في حديث إلى «الشرق الأوسط»، «هناك معرقلون لبناء الدولة وكل له دوافعه، وهذا طبيعي، إلا أن المجموعات المؤدلجة أو المسلحة (خارج السلطة) لن تؤثر على هذا المسار، فالمناخ الوطني العام بعد معاناة قاسية بات يتطلع للخروج من هذه المرحلة مدعوماً بالتوافق الدولي».
جانب من هذه العراقيل كان محور المناقشات الهاتفية التي أجراها يان كوبيش، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لدى ليبيا رئيس بعثة الأممية الجديد للدعم في ليبيا، مع المنفي ودبيبة منتصف الأسبوع الماضي، وتركزت في مجملها على كيفية الانتقال السلس للسلطة من المجلس الرئاسي القديم بقيادة السراج، إلى السلطة التي أنتجها «ملتقى» جنيف. وعن هذه التحركات الدولية أبدى أبو راشد، تفاؤله «بقرب انتهاء المرحلة الانتقالية التي طالت وانعكست سلباً أمنياً واقتصادياً على بلاده»، مضيفاً «هذا التطور في اعتقادي يعود إلى التوافق الدولي لحل الأزمة سياسياً، وهو الأمر الذي لم يكن محل توافق في السابق». قبل أن يستطرد «تشكيل حكومة موحدة وتحديد موعد حتمي للانتخابات أمر بالغ الأهمية. ولم يتبق إلا ما قد ينتج من اجتماعات اللجنة الدستورية الليبية في مدينة الغردقة المصرية، بخصوص صياغة توافقية لمسودة الدستور»، مع أن مباحثات الأفرقاء هناك انتهت إلى صعوبة الاستفتاء على مشروع الدستور قبل الانتخابات.
- المصالحة أولاً
بحسب الآلية التي أعدتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، التي تسيّر «ملتقى الحوار السياسي»، ينتظر أن يشكل دبيّبة حكومته في موعد أقصاه 26 فبراير الحالي، لعرضها على مجلس النواب لنيل الثقة. وفي حال فشل البرلمان في ذلك، سيحال الأمر ثانية لأعضاء «الملتقى». ويعوّل كثيرون على انخراط هذه الحكومة بالعمل على المصالحة الوطنية بين الليبيين، من بينهم الشيخ محمد المُبشر، رئيس «مجلس أعيان ليبيا للمصالحة»، الذي كثّف رؤيته للاتفاق السياسي الجديدة، في «أهمية وقف الحرب وإنهائها، والعمل على تبني مشروع مصالحة وطنية بين الجميع». وقال لـ«الشرق الأوسط»، إن «أي اتفاق تنجزه الأمم المتحدة، أو أي وسيط آخر، طالما أنه سيعود بالنفع على بلادي ويجنبها الحرب، فأنا معه وأؤيده... شريطة أن يتضمن مشروعاً للمصالحة الوطنية واقعياً ومُدركاً لكل التفاصيل ويراعي جميع أطياف الليبيين». ورفض المبشر الكلام عن أي سلبيات تتعلق بعملية اختيار هذه السلطة المؤقتة، من منطلق «أن التوافق والمصالحة بين الليبيين هو الأهم لعبور هذه المرحلة، التي نبني فيها وطننا على أساس من العدل، ثم نتوجه نحو الانتخابات مع نهاية العام الحالي».
- بدائل البرلمان المنقسم
من ناحية أخرى، كثيرون من الليبيين يرون أن التحدي الحقيقي الذي تواجهه السلطة الجديدة ليس في مجلسها الرئاسي أو تكليف رئيس للحكومة، بل في كيفية عمل وتفعيل هذه المؤسسات على أرض الواقع، وتعاطيها مع الميليشيات في طرابلس، فضلاً عن رد هذه المجموعات المسلحة التي ظلت ترفض كل ما يخرج عن الملتقى السياسي. وعليه، ذهب السياسي الليبي سليمان البيوضي، إلى أن «هناك من يسعى جاهداً لتدمير التوافق وبناء السلام وسرقة كل التفاؤل ببداية مرحلة جديدة». وأردف، أن «تيار الخاسرين يسعى لتفتيت الكيان الوطني وإفشال مخرجات جنيف، وإن نجحوا في مشروعهم فإن صوت المدافع سيرتفع بديلاً عن صوت السلام».
غير أن أشرف بودوارة، رئيس «اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني لتفعيل دستور الاستقلال وعودة الملكية»، رأى أن نجاح أداء الحكومة والمجلس الرئاسي يتوقف على امتناع مجلسي النواب و«الأعلى للدولة» عن التدخل في شؤونهما. وأضاف، أن «المجلسين تسببا في إفشال عمل الحكومات السابقة وعرقلا عملها... والقبلية والجهوية والمحاصصة والجهل لن تبني دولة؛ فالليبيون يبحثون عن الهوية الوطنية والاستقرار والأمن والحياة الكريمة والتمتع بثرواتهم... امنحوهم الثقة ودعوهم يعملون، وموعدنا معهم نهاية العام».
في أي حال، تتمثل العقبة الأهم أمام منح الحكومة الثقة في كيفية التئام البرلمان المنقسم، بين شرق ليبيا وغربها منذ الحرب على طرابلس في أبريل (نيسان) 2019. فبينما طالب فيه أكثر من 105 نواب بعقد جلسة موحدة لجميع نوابه في مدينة صبراتة (80 كيلومتراً غرب العاصمة) لمناقشة منح الثقة لحكومة دبيبة، دعا عقيلة صالح، رئيس المجلس، إلى عقد جلسة في طبرق بأقصى شرق البلاد. وهنا اعتبر النائب محمد الرعيض، في تصريح صحافي، أن «ما يفعله صالح لن يجدي نفعاً. وهذه ليست المرة الأولى التي يدعو فيها إلى جلسة ولا يتمكن من جمع الأعضاء؛ إذ سبق أن اجتمع في غدامس (بجنوب غربي البلاد) 127 نائباً، لجمع شتات المجلس المنقسم، بينما عقد صالح اجتماعا نُقِل على التلفزيون بـ14 نائباً فقط، وأنا أتحداه أن يستطيع جمع أكثر من 15 نائب هذه المرة».
وتابع الرعيض، أن «النصاب القانوني لعقد جلسة برلمانية صحيحة هو 96 عضواً، من إجمالي 188 نائباً، ولدينا 105 مستعدون للحضور، وسيصبحون 120 خلال أيام، ونحن متفائلون بمنح الثقة للحكومة». إلا أن نائبي رئيس البرلمان، فوزي النويري وحميد حومة، دعيا إلى جلسة كاملة النصاب في مدينة تختارها اللجنة العسكرية المشتركة «5+5». ويُتوقع أن يُقدم النواب - إذا اجتمعوا في صبراتة بعد اكتمال النصاب القانوني - على عزل صالح من منصبه، تمهيداً لتسليم قيادة البرلمان إلى إقليم فزّان وفقا لمخرجات «الملتقى».
- عودة السفارات وحديث السيسي
على صعيد ثانٍ، منذ الإعلان عن اختيار السلطة الليبية، جرت مياه كثيرة في النهر، تمثل بعضها في توجه بعض الدول من بينها العراق ومصر لإعادة فتح سفاراتها بالعاصمة؛ وهو ما يؤشر إلى دخول البلاد مرحلة من الاستقرار. وتحدث سامح شكري، وزير الخارجية المصري، خلال لقائه بنظيره الليبي في «حكومة الوفاق» محمد طاهر سيالة، على هامش الاجتماع الوزاري الطارئ لجامعة الدول العربية، بالقاهرة الأسبوع الماضي، عن قرب افتتاح سفارة بلاده في طرابلس «لتسهم في تفعيل آليات التعاون الثنائي، والدفع قدماً بالعلاقات بين البلدين». كذلك، كشفت وزارة الخارجية العراقية، عن إمكانية إعادة فتح سفارتها في طرابلس؛ إذ ذكرت أن «الوزير فؤاد حسين، بحث الأمر مع نظيره الليبي سيالة».
ولمزيد من الأجواء الإيجابية، أجرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اتصالين هاتفيين بالمنفي ودبيبة وهنأهما على توليهما رئاسة المجلس الرئاسي والحكومة الجديدين. وبعدما أكد على مواصلة مصر دعمها لصالح الليبيين على الصعيد الاقتصادي والأمني والعسكري، أعرب عن تطلعه لأن «يمثل اختيار القيادة الليبية الجديدة بداية عهد جديد تعمل فيه مؤسسات الدولة الليبية كافة بانسجام، يُعلي المصلحة الوطنية فوق أي اعتبارات، سعياً لإنهاء الانقسام الليبي».
- قوات إردوغان... ومجلس الأمن
في هذه الأثناء، ترى «مجموعة الأزمات الدولية» حول ليبيا، أن ما تحقق إلى الآن «مكاسب هشّة». وبخلاف تحضير البلاد للانتخابات، وتوحيد مؤسسات الدولة، وإنهاء الانقسام السياسي والعسكري، لم يتحقق شيء. إذ ما لا يقل أهمية من وجهة نظر الليبيين هو سرعة إخراج «المرتزقة» والمقاتلين الأجانب من بلدهم. وفي تحرك يواكب التعاطي الدولي والإقليمي مع المتغير الجديد - فضلاً عن الضغوط التي بدأت تمارسها الإدارة الأميركية الجديدة لمغادرة القوات الروسية والتركية ليبيا فوراً - تحدث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، عن أن بلاده «ستبحث سحب قواتها من ليبيا، إذا انسحبت القوات الأجنبية الأخرى أولاً». وللعلم، انتهت في 23 يناير (كانون الثاني) الماضي، مهلة الـ90 يوماً، التي حددها اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا الموقع في 23 أكتوبر (تشرين الأول)، لرحيل جميع المقاتلين الأجانب و«المرتزقة» من ليبيا. وكان قد توافد على ليبيا إبان «حرب طرابلس» مجموعات عديدة من المقاتلين الأجانب، بينهم آلاف من «المرتزقة» التابعين لمجموعة «فاغنر» العسكرية السرية الروسية، وفق تقرير للأمم المتحدة.
وأرجع سياسيون ليبيون تفكير إردوغان في سحب قواته، إلى الضغوط الدولية المتوقعة مستقبلاً، بالنظر إلى مباركة مجلس الأمن الدولي بالإجماع للسلطات الانتقالية الجديدة في ليبيا، بعدما حث على «احترام ودعم التنفيذ الكامل للاتفاق»، وسحب جميع القوات الأجنبية و«المرتزقة” من ليبيا دون مزيد من التأخير».