شوبنهاور... الوجه الآخر لفيلسوف التشاؤم

كره هيغل وعانى من التجاهل والحرمان العاطفي

شوبنهاور... الوجه الآخر لفيلسوف التشاؤم
TT

شوبنهاور... الوجه الآخر لفيلسوف التشاؤم

شوبنهاور... الوجه الآخر لفيلسوف التشاؤم

حياة اجتماعية ونفسية مضطربة شكلت شخصية الفيلسوف الألماني الشهير شوبنهاور (1788-1860)، وأدت دوراً مهماً في النزعة التشاؤمية التي اتسمت بها أفكاره ورؤاه، حتى لقب بـ«فيلسوف التشاؤم»... فصول من هذه الحياة، خاصة مراحل النشأة والتكوين، يكشفها كتاب «شوبنهاور: مقدمة موجزة»، من تأليف أستاذ الفلسفة الباحث الأميركي كريستوفر جاناواي الذي يشرف على ترجمات شوبنهاور إلى الإنجليزية، بالتعاون مع جامعة كمبردج. وتولى ترجمة الكتاب الصادر في القاهرة عن «المركز القومي للترجمة» إلى العربية سعيد توفيق، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة. ولد أرتور شوبنهاور بمدينة دانتسج، وتوفي في فرانكفورت. ويرصد الكتاب أثر هذه النشأة في ملامح وجهه، مشيراً إلى أن كثيراً من الصور الفوتوغرافية التي التقطت له خلال العقد الأخير من حياته يبدو فيها بهيئة غير تقليدية ذا عزيمة وإصرار في تجهم، ولكن الوميض الذي يشع من عينيه يبدو معبراً عن شخص ما يقظ في حذر صارم. وقد وصفه نيتشه قائلاً: «إن الطاقة الإبداعية المتمردة لرجل في العشرينيات من عمره هي التي أنتجت كتابه العمدة (العالم إرادة وتمثل)».

علاقات مضطربة
يشدد جاناواي على أن الروح الاستقلالية هي أكثر السمات المميزة لطبيعة شوبنهاور، فهو يكتب بلا خوف، وبقليل من الاحترام للسلطة، ويمقت الخضوع للتقاليد السائدة التي وجدها في المؤسسة الأكاديمية الألمانية، لكن وراء هذا تكمن حقيقة لها دلالتها، وهي أنه كان أيضاً مستقلاً مادياً. فحينما أصبح بالغاً عام 1809، ورث ثروة كانت مع قليل من المهارة في إدارة الأعمال كافية لتؤمن معاشه بقية حياته. وكان أبوه يعد واحداً من أكثر رجال الأعمال ثراء في دانتسج، غير أنه في أثناء رحلة والديه لبريطانيا، تم إلحاقه بمدرسة داخلية في ويمبلدون، وهي ذات رؤية دينية ونظام تعليمي ضيق الأفق، وهو ما كان له تأثير سلبي عليه دام بقية حياته. إن هذه الفترة تنبئ بالكثير عن شخصية شوبنهاور وتنشئته، إذ كان تلميذاً غاضباً مشاكساً لا ينصاع للممارسات السخيفة التي كانت تحيط به، وقد بدا منعزلاً تماماً ينظر بشيء من الاستخفاف إلى ما حوله.
ويذكر المؤلف أن أباه كان رجلاً قلقاً صارماً مهيباً يؤمل كثيراً في ابنه، أما الأم فهي يوحنا شوبنهاور، من عائلة تجارية ناجحة، لكنها مختلفة تماماً عن زوجها، فقد كانت شخصية اجتماعية مفعمة بالحياة، لها مواهب أدبية بلغت ذروتها لتصبح «كاتبة» تؤلف روايات رومانسية على نحو جعلها أكثر شهرة في أثناء حياتها من ابنها. وكان لها نفوذ مؤثر في حياته، ولكن العلاقة بينهما لم تكن حميمية أبداً. وفيما يتعلق بزواجها، كتبت هي نفسها قائلة إنها رأت أنه لا حاجة بها لأن تتظاهر بالحب المشبوب لزوجها، مضيفة أنه هو نفسه لم يكن يتوقع منها ذلك. وبعد أن توفي الأب، راحت يوحنا المتحررة عقلياً تواصل مشروعها المهني الخاص، وانتقلت إلى فيمار، حيث أسست صالوناً ثقافياً كان يفد إليه كثير من الشخصيات البارزة. ولقد استفاد شوبنهاور من خلال الصلات التي أقامها مع رواد الصالون، خاصة أديب ألمانيا الأشهر جوته، والمستشرق فريدريك ماير الذي أثار لديه اهتماماً بالفكر الهندي لازمه طيلة حياته، غير أن علاقته بأمه أصبحت شديدة الاضطراب، فطردته إلى الأبد، ولم تره بعد ذلك.

الألم والسأم
تجلت وجهة شوبنهاور الحقيقية في الجزء الأول من «العالم إرادة وتمثل» الذي أنجزه في دريسدن، ونشره عام 1818، رغم أن السنة المدونة هي 1819. يشير المؤلف إلى أن أسلوب البحث الهادئ الرزين الذي سار فيه شوبنهاور على منوال إيمانويل كانط في كتابه السابق «الجذر الرباعي» (1813) لم يكشف عن القوة المحركة لفلسفته، فهو لم يوجه أسئلة تتعلق بالمعاناة والخلاص والأخلاق والفن والنزعة النرجسية والموت ومعنى الحياة؛ تلك التساؤلات التي تشكل عماد فكره وانشغاله الأكبر، حتى أنه بقي في طور تأليف هذا الكتاب ما يزيد على عشر سنوات. وهو بتبنيه فكر كل من أفلاطون وكانط أصبح على قناعة بأن هناك انفصالاً بين الوعي العادي والوضع الأسمى الذي يتمكن فيه العقل البشري من النفاذ فيما وراء مجرد المظاهر إلى معرفة ما هو أكثر حقيقية.
ويوضح جاناواي ذلك، قائلاً إن الفكرة الأساس في كتابه العمدة تتعلق بالإرادة، حيث يقدم لنا شوبنهاور العالم بصفته ذا جانبين: جانب «التمثل»، أي الأسلوب الذي به تُقدم لنا الأشياء ذاتها وكيف «نتمثلها» نحن؛ وجانب الإرادة، أي رغبة الإنسان في السمو فوق ما يتمثله، ليصنع من العالم حقيقة تتجاوز مجرد المظاهر الوجودية المعتادة. بعبارة أخرى، فإن البشرية موزعة بشكل متوازن بين طبيعة كائن حي مدفوع نحو البقاء والتناسل، وعقل خالص يناهض طبيعة ذلك الكائن، ويتوق إلى تأمل أبدي لحقيقة أسمى. ومع أن شوبنهاور ما زال يتصور نوعاً من الخلاص الذي يقوم على التخلي، فإنه يعتقد أن الوجود في صورته العادية يتضمن بالضرورة بؤساً مزدوجاً من الألم والسأم.

تجربة فاشلة
يذكر الكتاب أنه في سنة 1820، تم قبول شوبنهاور محاضراً في جامعة برلين، بعد أن ألقى محاضرة أمام حشد من أعضاء هيئة التدريس، برئاسة فيلسوف ألمانيا الكبير جورج فريدريش هيغل الذي كان أستاذاً للفلسفة بالجامعة. وقام شوبنهاور نفسه على نحو سديد ليحاضر تحت هذا العنوان الفاتن «مجمل الفلسفة: أي نظرية جوهر العالم وجوهر العقل البشري»، ولكنه اختار أن يحاضر في التوقيت ذاته الذي يحاضر فيه هيغل، فحضر مائتان من الطلاب محاضرة الأستاذ الذي كان في قمة مجاله المهني، بينما بقي لشوبنهاور غير المعروف قلة هزيلة من الطلاب. ورغم أن اسمه بقي مدوناً في جدول المحاضرات في السنوات التالية، فإنه لم يعد لتكرار هذه التجربة، وكان هذا هو نهاية ممارسته لمهنة التدريس الجامعي. لقد كان هيغل مثالاً على كل ما يكرهه شوبنهاور في الفلسفة، فقد كان أستاذاً أكاديمياً استفاد من السلطة الرسمية التي ظل فيلسوفنا يزدريها، كما كان هيغل يؤيد الكنيسة والدولة، ولم يستطع شوبنهاور هضم تصوره للدولة بصفتها تمنح «أسلوباً جباراً في الكتابة»، كما أنها مجرد وسيلة ملائمة لحماية الملكية وكبح فرط الأنانية. ورأى شوبنهاور في كتابات هيغل أنها تتسم بتكلف الادعاء والغموض، بل هي مضللة، فالشعار الذي ينبغي وضعه عنواناً للفلسفة الجامعية الهيغلية هو أنها «سمكة حبّار» تضع فوق نفسها سحابة من التعتيم كي لا يرى أي أحد ما كنهها، متخذة تلك المقولة شعاراً لها: غموضي يحصنني! وليس من الصواب القول إن فلسفة شوبنهاور قد قامت على أساس من معارضة هيغل، فالأخير كان بمنأى تماماً عن عقل شوبنهاور، حينما أبدع عمله الفذ «العالم إرادة وتمثل»، ولكن نجاح هيغل المظفر الذي صاحب افتقاد شوبنهاور المستمر للعرفان ترك في نفسه ضغينة لازمته فترة طويلة من حياته المهنية.

الهروب من الكوليرا
يذكر الكتاب أن فترة العشرينيات من القرن التاسع عشر الأقل إنتاجاً في حياة شوبنهاور، فقد سافر إلى إيطاليا، وعاني أثناء ذلك وبعد عودته من مرض خطير ومن اكتئاب، كما ارتبط بعلاقة غرامية مع كارونيه ريشتر، وهي ممثلة استعراضية في المسرح القومي ببرلين.
وفي سنة 1831، وصلت الكوليرا العاصمة الألمانية، وتبين أن هيغل من بين ضحاياها، وغادر شوبنهاور المدينة. وبعد فترة من الحيرة، استقر في فرانكفورت، حيث بدا أنه يواصل هناك حياته الإبداعية التي توزعت بتوازن بين الكتابة والاستجمام، كالذهاب إلى المسرح والأوبرا والتريض والعزف على الفلوت، وتناول العشاء في المطاعم، وقراءة جريدة «التايم» في مكتبة المدينة. وحينئذ، أصبح قادراً على إنتاج مزيد من الأعمال. ففي سنة 1836، نشر كتابه عن «الإرادة في الطبيعة» الذي أعده ليكون داعماً لمذهبه في الإرادة. وفي سنة 1844، تم نشر مجلد ثان من «العالم إرادة وتمثل»، مع طبعة جديدة من المجلد الأول. وكان حكيماً في أنه لم يحاول أن ينسخ العمل الذي أنجزه في فترة الشباب، وبدلاً من ذلك أدخل تنقيحاً جوهرياً على الأصل، وأكسبه مزيداً من الوضوح والإفاضة بما استفاده من تأملات فترة النضج. وقد أعيد نشر الجزأين معاً في طبعة ثالثة صدرت عام 1859، قبيل وفاته. أما آخر ما نشره شوبنهاور من مؤلفات جديدة، فكان كتاباً آخر من جزأين، بعنوان «الحواشي والبواقي»، وهو الكتاب الذي ظهر عام 1851، بعنوانه المثير للتأمل، حيث تتراوح المحتويات بين مقالات فلسفية مطولة ومأثورات عن حكمة الحياة بأسلوب أكثر شعبية، وهي المأثورات التي كثيراً ما كان يتم نشرها منفصلة.
ومن الغريب أن هذا العمل تحديداً وجد ترحيباً في إنجلترا أولاً، وهو ما أدى إلى شهرة شوبنهاور، فأصبح هناك احتياج إلى طبعات جديدة من كتاباته، وأصبح موضوعاً لمقررات في الجامعة الألمانية، وراح يستقبل كثيراً من الزوار وكثيراً من المراسلات، من بينها النص الأوبرالي الكامل «خاتم النيبلونج» الذي أرسله واحد من أشد المعجبين به، وهو ريتشارد فاغنر الذي تصادف أن شوبنهاور لم يكن يرى موسيقاه رفيعة القدر إلى حد كبير.
وخلال الخمسين سنة الأولى التالية على وفاته، أصبح شوبنهاور واحداً من أعظم الكتاب الأوروبيين تأثيراً، ورغم أنه لم يدع كونه شاعراً، فإن الأبيات الشعرية التي جاءت في نهاية البواقي والحواشي تعد تأملات صادقة لما كان يشعر به في نهاية سنواته الأخيرة، لا سيما تلك التي تحمل عنوان «اللحن الختامي»:
إنني أقف الآن مرهقاً عند نهاية الطريق
جبيني المنهك لا يكاد يحمل إكليل الغار
غير أني أنظر في سعادة
إلى ما صنعته غير مبال بما يقوله الآخرون



«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».