مقتنيات متحف البرلمان المصري تُبهر النواب الجدد

يضم قطعاً ووثائق نادرة تؤرخ للحياة النيابية

عربة الآلاي كان يستخدمها الخديوي في الانتقال من قصر عابدين إلى البرلمان (الشرق الأوسط)
عربة الآلاي كان يستخدمها الخديوي في الانتقال من قصر عابدين إلى البرلمان (الشرق الأوسط)
TT

مقتنيات متحف البرلمان المصري تُبهر النواب الجدد

عربة الآلاي كان يستخدمها الخديوي في الانتقال من قصر عابدين إلى البرلمان (الشرق الأوسط)
عربة الآلاي كان يستخدمها الخديوي في الانتقال من قصر عابدين إلى البرلمان (الشرق الأوسط)

يشكل ثراء مُقتنيات متحف مجلس النواب المصري وتفردها بتأريخ الحياة النيابية، عنصر إبهار للنواب الجدد مع بداية الدورة البرلمانية الجديدة، إذ إنّ مشاهدتهم المتحف للمرة الأولى، تدفعهم لمعرفة المزيد عن بعض المُقْتنيات والوثائق، لما تحويه من تفاصيل دقيقة توثّق للحياة البرلمانية، وتاريخ التشريعات منذ العصر الفرعوني وحتى العصر الحديث.
يقع المتحف داخل المقر التاريخي لمجلس النواب المصري في شارع القصر العيني «وسط القاهرة»، ويضم مقتنيات نادرة من خلال قاعتين رئيسيتين تحوي إحداهما قطعاً ووثائق لتطور الحياة البرلمانية في العصر الحديث منذ نشأتها قبل نحو 155 سنة، بينما تضم القاعة الثانية مستنسخات أثرية لأقدم ما أبدعته البشرية من وثائق وتشريعات وقوانين ومعاهدات يعود بعضها إلى العصر الفرعوني.
ونظمت الأمانة العامة لمجلس النواب أخيراً، جولات داخل المتحف للنواب الجدد وشكلت الزيارة عنصر إبهار لهم، لا سيما أنّ الزيارات غير متاحة للجمهور وتقتصر على الأعضاء، وزار الكثير من النواب المتحف مرات عدة للتعرف على مقتنياته النادرة التي دفعت بالكثير منهم للتوجه إلى مكتبة المجلس لإجراء المزيد من البحث عن بعض الوقائع التاريخية التي وثقتها محتوياته بما تمثله من مصدر إلهام للعديد من البرلمانيين خاصة فيما يتعلق بالمضابط التاريخية وأدوات الرقابة البرلمانية من استجوابات وطلبات إحاطة. وتُشكل مقتنيات المتحف مصدر إلهام للعديد من البرلمانيين، إذ تدفعهم محتوياته إلى البحث عن المزيد من المعلومات التاريخية في تفاصيل الحياة البرلمانية وفق النائب محمد عبد العزيز، وكيل لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إنّ «المشاركة في الزيارة التي نظمها المجلس للنواب الجدد دفعتني إلى زيارة المتحف مرة أخرى بعدها بأيام، لانبهاري بالمقتنيات ورغبتي بمعرفة المزيد عنها، خصوصاً المتعلقة بالمضابط التاريخية وتفاصيل الأدوات البرلمانية المختلفة من استجوابات وطلبات إحاطة بقضايا ما زالت تحظى في الوقت الراهن بنفس الاهتمام مثل حرية التعبير، ووجدتني أذهب إلى مكتبة المجلس للبحث عن مزيد من المعلومات في كتب ووثائق تضم وقائع تاريخية شكلت مسار الحياة البرلمانية المصرية وما زالت تلهم البرلمانيين وتبهرهم بتميزها وعراقتها».
وتضم القاعة التي تتناول تاريخ الحياة النيابية في العصر الحديث، مجموعة متنوعة من المقتنيات النادرة، بينها صورة وثائقية من اللائحة الأساسية للمجلس العالي الصادرة في 1825، وهو أول مجلس يضم أعضاء منتخبين، ومجموعة من الصور الفوتوغرافية لرؤساء المجلس وفق التسلسل التاريخي، وزي التشريفة الخاص الذي كان يرتديه رئيس المجلس، كما تعرض أحد الكراسي الخاصة باستراحة الملك في مجلس النواب (استراحة رئيس الجمهورية حالياً)، وهو كرسي من الخشب المذهب مكسو بالديباج الأحمر الفاتح، ومزين بأشكال دائرية وكذلك من اللؤلؤ، حيث كان يجلس الملك عليه خلال جلسة افتتاح المجلس، ومجموعة من التماثيل واللوحات الزيتية لزعماء مصريين، فضلاً عن نماذج لمضابط تاريخية وطلبات إحاطة واستجوابات، ووثائق تتعلق بقضايا سياسية مهمة، منها وثائق محاكمة الزعيم الوطني أحمد عرابي «قائد الثورة العرابية» وزملائه عام 1882. ووثائق قضية اغتيال أحمد ماهر باشا رئيس وزراء مصر داخل البهو الفرعوني في 24 فبراير (شباط) عام 1945.
ويبلغ عدد نواب الدورة البرلمانية الجديدة (2021 - 2026)، 596 عضواً، بينهم 28 معينا، فيما بلغ تمثيل السيدات فيه حتى الآن 148 سيدة منتخبة بنسبة بلغت 26.05 في المائة من إجمالي أعضائه.
وتقول النائب مرثا محروس، لـ«الشرق الأوسط»: «انبهرت بعراقة الحياة النيابية المصرية وتراكمها التاريخي، من خلال زيارتي الأولى للمتحف ومشاهدة مقتنياته النادرة، فمجلس النواب نفسه يعد تحفة فنية معمارية فريدة».
وتبرز القاعة التي تضم مقتنيات ووثائق تعود إلى آلاف السنين قِدم فكرة التشريعات والقوانين في التاريخ الإنساني ومفهوم الدولة منذ العصر الفرعوني، ومن بين المقتنيات النادرة التي تحويها القاعة، نموذج لتمثال الكاتب المصري يحمل لفافة من أوراق البردي، وهو يدوّن التشريعات والقوانين، ويرجع أصل التمثال إلى عصر الدولة القديمة. ونص عثر عليه في مقبرة إيدوت (بسقارة) ويعد أقدم تشريع ضرائبي في التاريخ وهو عبارة عن لوحة تمثل معاقبة المتهربين من الضرائب، فضلاً عن مجموعة نصوص تشريعية مكتوبة باللغة الهيروغليفية تتضمن التشريعات التي أصدرها الملك الفرعوني حور محب، بينها تشريع لحماية المزارعين، ونص آخر من تشريعات تنسب إلى (رخميرع) رئيس الوزراء في عهد الملك تحتمس الثالث، كما تضم القاعة نصاً بالهيروغيلفية يتعلق بأقدم وأول معاهدة سلام في التاريخ، وهو عبارة عن وثيقة زواج رمسيس الثاني من ابنة ملك الحيثيين، وكان ذلك بمناسبة عقد معاهدة السلام بين المملكتين.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)