إنهاء ترميم «سبيل رقية دودو» الأثري في القاهرة

ضمن مشروع «إنقاذ 100 مبنى تاريخي»

 «سبيل رقية دودو» من الخارج بعد ترميمه
«سبيل رقية دودو» من الخارج بعد ترميمه
TT

إنهاء ترميم «سبيل رقية دودو» الأثري في القاهرة

 «سبيل رقية دودو» من الخارج بعد ترميمه
«سبيل رقية دودو» من الخارج بعد ترميمه

انتهت وزارة السياحة والآثار المصرية من ترميم وتطوير «سبيل رقية دودو» بشارع سوق السلاح، في منطقة الدرب الأحمر بالقاهرة، ضمن مشروع ترميم وإنقاذ 100 مبنى أثري في القاهرة التاريخية الذي أطلقته الوزارة منذ 6 سنوات.
ونُفذت أعمال الترميم وفقاً للأصول الفنية والأثرية للخرائط والوثائق القديمة للسبيل، حيث شملت أعمال التوثيق المعماري، والترميم الدقيق لواجهة السبيل لإظهار جماليات الشبابيك النحاسية المزخرفة بها، إذ تعد من أجمل واجهات الأسبلة العثمانية الموجودة في القاهرة، حسب العميد مهندس هشام سمير، مساعد وزير السياحة والآثار لمشروعات الآثار والمتاحف.
وأضاف سمير، في بيان صحافي أمس، أن «أعمال الترميم الداخلية للسبيل تضمنت ترميم الأرضية الرخامية لغرفة التسبيل، وترميم وعزل سقف الغرفة الخشبية المزخرف، والشبابيك والكتيبات الخشبية الموجودة بغرفة الكتاب، بجانب تأهيل المنطقة الخلفية للسبيل».
ولإبراز جماليات السبيل الأثري، كُشف عن المنسوب الأثري، ودرج السلم الحجري لكتلة الدخول الرئيسية، خلال أعمال الترميم، كما طُورت شبكة الكهرباء، ووضع نظام إضاءة جديد متكامل من الداخل والخارج، وفق محمود عبد الباسط مدير عام القاهرة التاريخية.
ويهدف مشروع إنقاذ 100 مبنى أثري الذي بدأته وزارة السياحة والآثار المصرية عام 2015 إلى ترميم ورفع كفاءة المباني الأثرية المعرضة للخطر وترميمها، لتكون على مسار الزيارات الأثرية والسياحية.
ووفق وزارة السياحة والآثار، فإن بدوية بنت شاهين أنشأت «سبيل رقية دودو» على روح ابنتها رقية دودو عام 1174 هـ، حسب النقوش المكتوبة على واجهة السبيل، ورقية دودو حفيدة رضوان كتخدا الجلفي، ولم يسمح لهم بكتابة اسمه على هذه المنشأة نظراً لهزيمته أمام خصومه المماليك ومقتله.
ويتبع السبيل في تخطيطه الأسبلة العثمانية ذات الواجهة المقوسة التي تتكون من حجرة مستطيلة في ثلاثة أضلاع، فيما يأخذ الضلع الرابع الهيئة المقوسة ليفتح بها شبابيك التسبيل، ويعلوها الكتاب.
وانضمت منطقة القاهرة التاريخية إلى قائمة التراث العالمي في عام 1979، بناءً على توصية المجلس الدولي للآثار والمواقع (الإيكومس)، حيث عدت المدينة تراثاً إنسانياً يجب إحياؤه والحفاظ عليه، في ضوء القوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية.
وتعاني المباني الأثرية في نطاق القاهرة التاريخية من عدة مشكلات متراكمة بسبب العوامل الطبيعية والبيئية والبشرية والاقتصادية، والاستيطان غير القانوني والتعدي الجائر، ومشكلات المرور والمواصلات.
وفي نهاية عام 2018، انتهت السلطات المصرية من أعمال تأهيل «حمام الشرايبي» العريق بمنطقة الغورية في القاهرة، في إطار مشروع مشترك مع المؤسسة المصرية لإنقاذ التراث. ويرجع تاريخ إنشاء الحمام الأثري إلى أواخر العصر المملوكي الجركسي عام 906 هجري (1500 ميلادي). وفي العصر العثماني (عام 1732)، جدده التاجر المغربي محمد الداده الشرايبي (شهبندر التجار)، ليُعرف الحمام لاحقاً باسم «حمام الشرايبي».
وخلال السنوات الست الماضية، انتهت وزارة السياحة والآثار من ترميم أكثر من 42 مبنى أثرياً في نطاق القاهرة التاريخية، في إطار مشروع إنقاذ 100 مبنى أثري، حسب مسؤولي المشروع.
وتضم منطقة القاهرة التاريخية عدداً كبيراً من أبرز الآثار الإسلامية النادرة الموجودة في العالم، أبرزها: منطقة الفسطاط، وجامع عمرو بن العاص، وقلعة صلاح الدين الأيوبي، وجامع أحمد بن طولون، بالإضافة إلى منطقة القاهرة الفاطمية وما تضمه من آثار فريدة، على غرار باب زويلة، وباب الفتوح، وباب النصر، وشارع المعز لدين الله الفاطمي.
وتسعى الحملة الحكومية إلى إنقاذ كثير من المباني الأثرية صغيرة الحجم كبيرة الأهمية التي أُهملت، وتحتاج إلى درء الخطورة والتدخل البسيط لإظهارها وإعادتها لدورها في المجتمع عبر إزالة الأنقاض والمخلفات التي تقع في نطاق الآثار، وجعلها قابلة للزيارة والاستخدام.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)