روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»

المبعوث الأميركي لإيران ينصح بايدن بإلغاء الانسحاب من الاتفاق النووي

روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»
TT

روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»

روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»

طال الجدل لأسابيع في حملة تأرجحت بين تأييد قوي، ومعارضة صارخة حول ترشيح روبرت مالي لمنصب المبعوث الأميركي لشؤون إيران، حتى جاء إعلان إدارة الرئيس الأميركي يوم الجمعة الماضي بتأكيد اختياره لهذا المنصب. وتركز الجدل، وكذلك المخاوف والترقب والقلق من الفريق المعارض لتعيينه، بسبب مواقف مالي من النظام الإيراني. إذ كان مالي من الوجوه البارزة في فريق الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي تفاوض سراً على الاتفاق النووي الإيراني المعروف باسم «خطة العمل المشتركة» الموقعة عام 2015، وانسحب منه الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2018، وفرضت إدارته عقوبات مشددة على طهران كجزء من حملة الضغط القصوى. وبدورها، خرقت طهران التزاماتها بموجب الاتفاق بإعلانها عن زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المائة وزيادة استخدام أجهزة طرد مركزي متطورة.
لقد أبدى صقور الحزب الجمهوري المنتقدون لاختيار روبرت مالي لمنصب المبعوث الأميركي لشؤون إيران تخوفهم من أنه «متساهل للغاية مع النظام الإيراني». ومن ثم، قد يتغاضى عن أي انتهاك ترتكبه طهران من أجل التوصل إلى اتفاقات معها. كذلك، قد يقدم على خطوات يمكن أن تضر بأمن إسرائيل ودول الخليج. وحقاً، ارتفعت مستويات القلق مع ترحيب الجانب الإيراني باختياره، لا سيما عندما غرد حسام الدين آشينا، المستشار البارز للرئيس الإيراني حسن روحاني، قائلاً «إن تعيين روبرت مالي يحمل رسالة واضحة حول نهج فعال لحل النزاع بسرعة وفاعلية».
الحقيقة أنه منذ فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، والجميع يرصد ويحاول التنبؤ بأسلوبه وطريقته في إدارة ملف الطموح النووي الإيراني. وخلال الأيام القليلة الماضية صرح كل من أنتوني بلينكن وزير الخارجية، وجايك سوليفان مستشار شؤون الأمن القومي، بأن توجهات إدارة بايدن نحو إيران ستكون «صارمة»، وأن الإدارة «ليست في عجلة للعودة إلى الاتفاق النووي»... وبالتالي، لن تقدم على رفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب، وأرسلا رسائل واضحة إلى طهران مفادها أن واشنطن بانتظار خطوات تثبت حسن نيات النظام الإيراني أولاً. كذلك، تعهد بلينكن بأنه «سيعمل للحصول على اتفاق نووي أطول وأقوى» مع إيران «بالتشاور مع الحلفاء الإقليميين مثل إسرائيل ودول الخليج العربي». وفي الوقت نفسه حذر من أن إيران قد تكون على بعد أشهر فقط من تطوير ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية.
في هذه الأثناء، يتفق الديمقراطيون والجمهوريون في مجلسي الكونغرس الأميركي، رغم كل الخلافات والاختلافات بين الحزبين الكبيرين، على مبدأ واحد هو رفض السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي. وثمة ساسة من الحزب الديمقراطي يدعمون استراتيجية ترمب الخاصة بفرض عقوبات ضاغطة على الاقتصاد الإيراني. ثم إن الحزبين يطالبان باتفاق أوسع يشمل الصواريخ الباليستية ومعالجة الثغرات في الجدول الزمني المنصوص عليه في الاتفاق النووي بما يعرف بـ«غروب الشمس»، وما يتعلق بتدخلات إيران في الإقليم عبر وكلائها.
وبالفعل، خلال الأسبوع الماضي تبادلت واشنطن وطهران التصريحات كما في لعبة «كرة الطاولة»، فألقى كل طرف الكرة في ملعب الطرف الآخر، إذ طالبت واشنطن طهران بالالتزام بتعهداتها كشرط مسبق لعودتها إلى الاتفاق النووي، وفي المقابل طالبت طهران الجانب الأميركي بـ«الامتثال الكامل» للاتفاق النووي، ورفع العقوبات الاقتصادية قبل أي مباحثات حول الاتفاق النووي.

قراءة في عقل
المبعوث الأميركي الجديد
يتمتع روبرت مالي بعلاقات جيدة داخل الأوساط السياسية الأميركية، وكان قد شارك مع وزير الخارجية الأسبق جون كيري في المباحثات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني قبل التوصل إلى «اتفاقية العمل المشتركة»، عام 2015. وما يلفت الانتباه في خيارات الرئيس بايدن أن معظم الشخصيات في إدارته تربط بينهم علاقات صداقة وروابط قديمة، خاصة أولئك الذين يتولون ملف السياسات الخارجية.
مالي يعد صديقاً مقرباً لكل من وزير الخارجية بلينكن، ومستشار الأمن القومي سوليفان، وأيضاً من ويندي شيرمان التي عملت معه كمفاوضة رئيسية في صفقة إيران، بل وتعود صداقة بلينكن مع مالي إلى فترة الدراسة الثانوية في العاصمة الفرنسية باريس. وكلاهما عمل في إدارة بيل كلينتون وفي إدارة باراك أوباما. أيضاً، كان مالي وزوجته كارولين زميلي دراسة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد مع الرئيس أوباما.
من ناحية ثانية، مَن يعرف روبرت مالي أو «روب» - كما يسميه أصدقاؤه - تلفته شخصيته الهادئة المتزنة وابتسامته الدائمة. ويقول هؤلاء عنه إنه شخص يصعب إثارة غضبه، بل هو الذي يقوم دائماً بامتصاص غضب الآخرين وتهدئتهم. وشخصية كهذه ساعدته في عمله بمجلس الأمن القومي إبان عهد أوباما من فبراير (شباط) 2014 إلى يناير (كانون الثاني) 2017، وقبل ذلك عندما عمل مساعداً لمستشار الأمن القومي ساندي بيرغر. وهو يعد خبيراً في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وكتب مقالات عديدة دعا فيها إلى التقارب مع حركة حماس (المُدرجة على القائمة الأميركية كجماعة إرهابية)، وكذلك إلى التقارب مع جماعة الإخوان المسلمين.

استراتيجية «الكل رابح»
مالي يعتمد استراتيجية إشعار كل طرف بأنه رابح في اللجوء إلى التفاوض، وأن كل طرف يمكن أن يحصل من المفاوضات على ما يريده وما يحقق مصالحه. وعندما كان «روب» منخرطاً في النقاشات والمفاوضات مع الجانب الإيراني إلى أن أبرم الاتفاق النووي في 2015، قال في حوار خاص، نشر على صفحات «الشرق الأوسط» في ديسمبر (كانون الأول) 2016، إنه يعي تماماً أن إيران «لن تغير سلوكها لمجرد إبرام الاتفاق النووي، لكن إدارة أوباما لديها أمل في أن منع إيران من امتلاك سلاح نووي سيقلل من التوتر الإقليمي، وبمرور الوقت سيقلل من الأعمال العدائية ويحد من مخاطر المواجهة العسكرية. وبالتالي، هناك إمكانية لرؤية إيران ودول مجلس التعاون الخليجي ودول أخرى، يجلسون إلى طاولة واحدة».
اليوم، ثمة من يقول إن أولئك الذين يتوقعون من مالي أن يعود بنفس الملفات القديمة من إدارة باراك أوباما، يخطئ في تقدير إمكانات الرجل. ويرى هؤلاء أنه يدرك التغييرات التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه مكلف بإعادة ضبط بعض السياسات الخارجية للولايات المتحدة، ومنها إنهاء حملة الضغط القصوى ضد إيران. وفي هذا الإطار، يؤمن مالي بأن الضغط من خلال الدبلوماسية هو الأسلوب الأكثر فاعلية، وكذلك إشراك «شركاء أميركا التقليديين» وتعزيز التعاون مع أوروبا، خيارات ستحقق الكثير من الأهداف لأن القواسم المشتركة بين سياسات الدول الأوروبية وسياسات بايدن لمنطقة الشرق الأوسط، أكبر بكثير منها مع إدارة ترمب.

قناعاته و«مقترحاته الإيرانية»
يوم الاثنين الماضي، حمل «روب» مالي أوراقه وملفاته إلى مكتبه الجديد في مبنى الخارجية الأميركية، ولم يضع أي وقت في البدء – وبسرعة – في الاتصال بالمسؤولين البريطانيين والفرنسيين والألمان لمناقشة الملف الإيراني. لم يجرِ مالي أي اتصالات أو مناقشات مع الجانب الإيراني بعد، فالسياسة التي يقول إنه يريد اتباعها أولاً هي تشكيل قاعدة أساسية من التوافقات مع الدول الأوروبية، والعثور على طريقة لرفع القيود المفروضة على إيران حتى يمكن تنظيم العودة إلى الصفقة مرة أخرى، والوصول إلى أرضية وسط.
مالي يعتبر أن الضغوط الاقتصادية لم تؤدِ إلى «استجابة» النظام الإيراني والعودة إلى مائدة المفاوضات. بل كان مالي من «جوقة» منتقدي انسحاب ترمب من الاتفاق النووي، وكتب في تقرير أصدره خلال «مجموعة الأزمات الدولية» حول الموضوع «إن حملة الضغط القصوى التي شنتها إدارة ترمب كانت تهدف إلى التوصل لاتفاق نووي أفضل، مع كبح جماح نفوذ إيران الإقليمي، لكن ما حققته هو العكس، إذ أدت إلى زيادة التوترات في الشرق الأوسط وزعزعة الاستقرار الإقليمي، كما تراجعت المكاسب التي حققتها خطة العمل الشاملة المشتركة، وتركت الولايات المتحدة معزولة عن الحلفاء الأوروبيين والدول الأعضاء في مجلس الأمن».
وتابع مالي منتقداً سياسات إدارة ترمب، فقال إنه «حينما سعت الولايات المتحدة لإطلاق آلية (سناب باك) لإعادة العقوبات الدولية المعلقة... تجاهل أعضاء مجلس الأمن طلب الولايات المتحدة. وبعد مقتل العالم النووي محسن فخري زادة، أقر البرلمان الإيراني تشريعاً يفرض المزيد من التوسع في الأنشطة النووية، وأعلنت إيران زيادة تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المائة في منشأة فوردو التحت أرضية».
ومن ثم، «نصح» مالي إدارة بايدن بإلغاء انسحاب ترمب من الاتفاق النووي، والتراجع تماماً عن العقوبات التي كانت قائمة في عهد ترمب، بينما تعيد إيران برنامجها النووي إلى الامتثال الكامل. واقترح كإجراءات إضافية أن تدعم واشنطن طلب إيران قرضاً من صندوق النقد الدولي كدليل على حسن النية في ضوء جائحة «كوفيد – 19» وتدفع طهران لمناقشات حول تبادل الأسرى. أما فيما يتعلق بخروق إيران وانتهاكاتها، فيدعي مالي أن عكس مفعول الخروق في خطة العمل الشاملة المشتركة الإيرانية «يمكن أن يتحقق في غضون شهرين». وهو يأمل في أن تتطرق النقاشات مع الحلفاء الأوروبيين إلى الضغط على إيران لإنهاء الصراع في اليمن ودعم الحوار بين إيران والدول الخليجية بما يؤدي إلى خفض التوترات.
في المقابل، يرى مالي أن «ربط إعادة الانضمام للاتفاق النووي بـ(قضايا أخرى) قد يعرض المفاوضات والصفقة بأكملها للخطر». وبالتالي يعتقد أنه «يجب أن يكون الهدف إعادة الدخول في الاتفاق، أما القضايا الأخرى مثل خفض التصعيد الإقليمي وتطوير الصواريخ الباليستية، من الأفضل متابعتها فيما بعد، وليس وضعها كشرط لاستعادة الاتفاقية بالكامل».
أكثر من هذا، يعتبر مالي أن من مصلحة الولايات المتحدة كبح جماح إيران نووية، ومن مصلحة إيران الحصول على خفض للعقوبات الأميركية بعد سنوات من الإنهاك الاقتصادي نتيجة حملة الضغط القصوى والعقوبات التي فرضتها إدارة ترمب. ولذا فإن العودة إلى الاتفاق النووي أمرٌ ممكن رغم وجود تعقيدات كثيرة. وفي ظل تيارات إيرانية محافظة متشددة وأخرى «معتدلة»، يؤمن مالي بأن عملية صنع القرار في إيران تتركز في يد المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يلعب الدور المهيمن في السياسات. وعليه، فهو لا يتعجل إجراء المشاورات حول العودة إلى الاتفاق النووي قبل انتهاء ولاية الرئيس الإيراني حسن روحاني في يونيو (حزيران) المقبل، ولا يتخوف من وصول تيار محافظ أكثر تشدداً وأكثر صرامة إزاء واشنطن، بل إن قرار التعامل مع واشنطن سيعتمد على رؤية خامنئي لا من سيشغل منصب الرئيس.

جذوره المصرية
على الصعيد الشخصي، يفخر «روب» مالي دائماً بأن جده كان صحافياً يهودياً مصرياً، ولد وعاش في مصر، وعمل في جريدة «الجمهورية» المصرية قبل أن يهاجر في الستينيات من مصر إلى فرنسا ويؤسس هناك جريدة «أفريكاسيا»، وهي مجلة يسارية مهتمة بالشؤون الأفريقية والآسيوية.
ولد مالي عام 1963. ونقل والده سيمون مالي العائلة إلى نيويورك عام 1980، وذلك بعد طرد الرئيس الفرنسي - آنذاك - فاليري جيسكار ديستان سيمون والد «روب» بسبب كتاباته العدائية تجاه إسرائيل والدول الغربية. وبعدما هاجرت العائلة إلى نيويورك، التحق «روب» بجامعة ييل العريقة. ثم عام 1984 فاز بـ«منحة رودز» للدراسة في كلية مودلين بجامعة أوكسفورد الشهيرة في بريطانيا، حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة. وفيما بعد دخل كلية الحقوق بجامعة هارفارد ونال منها إجازة القانون، وهناك التقى زوجته كارولين وتزاملا في الوقت ذاته (عامي 1991 و1992) مع زميل آخر هو باراك أوباما.
مالي شخص عائلي جداً، فهو مرتبط بشكل كبير بزوجته وولديه مايلز وبلايز وابنته فرانسيس، ويحرص على حضور الحفلات المدرسية ومتابعة دروس ابنته وعروضها في حفلات رقص الكلاينيت. كذلك، فإنه يحرص على زيارة مصر، خاصة منطقة الأهرامات وخان الخليلي.
وعودة إلى الصعيد السياسي، فإن مالي تولى مناصب عديدة في إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون داخل مجلس الأمن القومي، وبرز اسمه حين تولى منصب مساعد الرئيس كلينتون للشؤون العربية الإسرائيلية بين 1998 و2001. وبعد رحيل إدارة كلينتون، غادر للعمل مع «مجموعة الأزمات الدولية»، التي تدير مجموعة واسعة من المحللين المتخصصين في الصراع العربي الإسرائيلي والحركات الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة.
ويذكر أن جريدة «التايمز» البريطانية فجرت فضيحة عام 2008 بنشرها تقريراً حول علاقات واتصالات مالي بمسؤولي حركة «حماس» التي تدرجها الخارجية الأميركية كمنظمة إرهابية. ودافع مالي عن تلك العلاقات بأنه جزء من عمله في «مجموعة الأزمات الدولية»، ونشر مقالات عديدة دعا فيها إسرائيل و«حماس» إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولكن بريق مالي خبا بعد تلك التقارير إلى أن عاد عام 2014 عضواً في مجلس الأمن القومي بإدارة أوباما مسؤولاً عن إيران ومنطقة الخليج. ويومذاك، حل محل فيليب غوردون عام 2015 مساعداً خاصاً لأوباما ومنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج، ثم مسؤولاً عن ملف مكافحة «داعش»، كما شارك في وفد المفاوضين الأميركيين في الاتفاق النووي الإيراني.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.