روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»

المبعوث الأميركي لإيران ينصح بايدن بإلغاء الانسحاب من الاتفاق النووي

روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»
TT

روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»

روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»

طال الجدل لأسابيع في حملة تأرجحت بين تأييد قوي، ومعارضة صارخة حول ترشيح روبرت مالي لمنصب المبعوث الأميركي لشؤون إيران، حتى جاء إعلان إدارة الرئيس الأميركي يوم الجمعة الماضي بتأكيد اختياره لهذا المنصب. وتركز الجدل، وكذلك المخاوف والترقب والقلق من الفريق المعارض لتعيينه، بسبب مواقف مالي من النظام الإيراني. إذ كان مالي من الوجوه البارزة في فريق الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي تفاوض سراً على الاتفاق النووي الإيراني المعروف باسم «خطة العمل المشتركة» الموقعة عام 2015، وانسحب منه الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2018، وفرضت إدارته عقوبات مشددة على طهران كجزء من حملة الضغط القصوى. وبدورها، خرقت طهران التزاماتها بموجب الاتفاق بإعلانها عن زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المائة وزيادة استخدام أجهزة طرد مركزي متطورة.
لقد أبدى صقور الحزب الجمهوري المنتقدون لاختيار روبرت مالي لمنصب المبعوث الأميركي لشؤون إيران تخوفهم من أنه «متساهل للغاية مع النظام الإيراني». ومن ثم، قد يتغاضى عن أي انتهاك ترتكبه طهران من أجل التوصل إلى اتفاقات معها. كذلك، قد يقدم على خطوات يمكن أن تضر بأمن إسرائيل ودول الخليج. وحقاً، ارتفعت مستويات القلق مع ترحيب الجانب الإيراني باختياره، لا سيما عندما غرد حسام الدين آشينا، المستشار البارز للرئيس الإيراني حسن روحاني، قائلاً «إن تعيين روبرت مالي يحمل رسالة واضحة حول نهج فعال لحل النزاع بسرعة وفاعلية».
الحقيقة أنه منذ فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، والجميع يرصد ويحاول التنبؤ بأسلوبه وطريقته في إدارة ملف الطموح النووي الإيراني. وخلال الأيام القليلة الماضية صرح كل من أنتوني بلينكن وزير الخارجية، وجايك سوليفان مستشار شؤون الأمن القومي، بأن توجهات إدارة بايدن نحو إيران ستكون «صارمة»، وأن الإدارة «ليست في عجلة للعودة إلى الاتفاق النووي»... وبالتالي، لن تقدم على رفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب، وأرسلا رسائل واضحة إلى طهران مفادها أن واشنطن بانتظار خطوات تثبت حسن نيات النظام الإيراني أولاً. كذلك، تعهد بلينكن بأنه «سيعمل للحصول على اتفاق نووي أطول وأقوى» مع إيران «بالتشاور مع الحلفاء الإقليميين مثل إسرائيل ودول الخليج العربي». وفي الوقت نفسه حذر من أن إيران قد تكون على بعد أشهر فقط من تطوير ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية.
في هذه الأثناء، يتفق الديمقراطيون والجمهوريون في مجلسي الكونغرس الأميركي، رغم كل الخلافات والاختلافات بين الحزبين الكبيرين، على مبدأ واحد هو رفض السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي. وثمة ساسة من الحزب الديمقراطي يدعمون استراتيجية ترمب الخاصة بفرض عقوبات ضاغطة على الاقتصاد الإيراني. ثم إن الحزبين يطالبان باتفاق أوسع يشمل الصواريخ الباليستية ومعالجة الثغرات في الجدول الزمني المنصوص عليه في الاتفاق النووي بما يعرف بـ«غروب الشمس»، وما يتعلق بتدخلات إيران في الإقليم عبر وكلائها.
وبالفعل، خلال الأسبوع الماضي تبادلت واشنطن وطهران التصريحات كما في لعبة «كرة الطاولة»، فألقى كل طرف الكرة في ملعب الطرف الآخر، إذ طالبت واشنطن طهران بالالتزام بتعهداتها كشرط مسبق لعودتها إلى الاتفاق النووي، وفي المقابل طالبت طهران الجانب الأميركي بـ«الامتثال الكامل» للاتفاق النووي، ورفع العقوبات الاقتصادية قبل أي مباحثات حول الاتفاق النووي.

قراءة في عقل
المبعوث الأميركي الجديد
يتمتع روبرت مالي بعلاقات جيدة داخل الأوساط السياسية الأميركية، وكان قد شارك مع وزير الخارجية الأسبق جون كيري في المباحثات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني قبل التوصل إلى «اتفاقية العمل المشتركة»، عام 2015. وما يلفت الانتباه في خيارات الرئيس بايدن أن معظم الشخصيات في إدارته تربط بينهم علاقات صداقة وروابط قديمة، خاصة أولئك الذين يتولون ملف السياسات الخارجية.
مالي يعد صديقاً مقرباً لكل من وزير الخارجية بلينكن، ومستشار الأمن القومي سوليفان، وأيضاً من ويندي شيرمان التي عملت معه كمفاوضة رئيسية في صفقة إيران، بل وتعود صداقة بلينكن مع مالي إلى فترة الدراسة الثانوية في العاصمة الفرنسية باريس. وكلاهما عمل في إدارة بيل كلينتون وفي إدارة باراك أوباما. أيضاً، كان مالي وزوجته كارولين زميلي دراسة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد مع الرئيس أوباما.
من ناحية ثانية، مَن يعرف روبرت مالي أو «روب» - كما يسميه أصدقاؤه - تلفته شخصيته الهادئة المتزنة وابتسامته الدائمة. ويقول هؤلاء عنه إنه شخص يصعب إثارة غضبه، بل هو الذي يقوم دائماً بامتصاص غضب الآخرين وتهدئتهم. وشخصية كهذه ساعدته في عمله بمجلس الأمن القومي إبان عهد أوباما من فبراير (شباط) 2014 إلى يناير (كانون الثاني) 2017، وقبل ذلك عندما عمل مساعداً لمستشار الأمن القومي ساندي بيرغر. وهو يعد خبيراً في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وكتب مقالات عديدة دعا فيها إلى التقارب مع حركة حماس (المُدرجة على القائمة الأميركية كجماعة إرهابية)، وكذلك إلى التقارب مع جماعة الإخوان المسلمين.

استراتيجية «الكل رابح»
مالي يعتمد استراتيجية إشعار كل طرف بأنه رابح في اللجوء إلى التفاوض، وأن كل طرف يمكن أن يحصل من المفاوضات على ما يريده وما يحقق مصالحه. وعندما كان «روب» منخرطاً في النقاشات والمفاوضات مع الجانب الإيراني إلى أن أبرم الاتفاق النووي في 2015، قال في حوار خاص، نشر على صفحات «الشرق الأوسط» في ديسمبر (كانون الأول) 2016، إنه يعي تماماً أن إيران «لن تغير سلوكها لمجرد إبرام الاتفاق النووي، لكن إدارة أوباما لديها أمل في أن منع إيران من امتلاك سلاح نووي سيقلل من التوتر الإقليمي، وبمرور الوقت سيقلل من الأعمال العدائية ويحد من مخاطر المواجهة العسكرية. وبالتالي، هناك إمكانية لرؤية إيران ودول مجلس التعاون الخليجي ودول أخرى، يجلسون إلى طاولة واحدة».
اليوم، ثمة من يقول إن أولئك الذين يتوقعون من مالي أن يعود بنفس الملفات القديمة من إدارة باراك أوباما، يخطئ في تقدير إمكانات الرجل. ويرى هؤلاء أنه يدرك التغييرات التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه مكلف بإعادة ضبط بعض السياسات الخارجية للولايات المتحدة، ومنها إنهاء حملة الضغط القصوى ضد إيران. وفي هذا الإطار، يؤمن مالي بأن الضغط من خلال الدبلوماسية هو الأسلوب الأكثر فاعلية، وكذلك إشراك «شركاء أميركا التقليديين» وتعزيز التعاون مع أوروبا، خيارات ستحقق الكثير من الأهداف لأن القواسم المشتركة بين سياسات الدول الأوروبية وسياسات بايدن لمنطقة الشرق الأوسط، أكبر بكثير منها مع إدارة ترمب.

قناعاته و«مقترحاته الإيرانية»
يوم الاثنين الماضي، حمل «روب» مالي أوراقه وملفاته إلى مكتبه الجديد في مبنى الخارجية الأميركية، ولم يضع أي وقت في البدء – وبسرعة – في الاتصال بالمسؤولين البريطانيين والفرنسيين والألمان لمناقشة الملف الإيراني. لم يجرِ مالي أي اتصالات أو مناقشات مع الجانب الإيراني بعد، فالسياسة التي يقول إنه يريد اتباعها أولاً هي تشكيل قاعدة أساسية من التوافقات مع الدول الأوروبية، والعثور على طريقة لرفع القيود المفروضة على إيران حتى يمكن تنظيم العودة إلى الصفقة مرة أخرى، والوصول إلى أرضية وسط.
مالي يعتبر أن الضغوط الاقتصادية لم تؤدِ إلى «استجابة» النظام الإيراني والعودة إلى مائدة المفاوضات. بل كان مالي من «جوقة» منتقدي انسحاب ترمب من الاتفاق النووي، وكتب في تقرير أصدره خلال «مجموعة الأزمات الدولية» حول الموضوع «إن حملة الضغط القصوى التي شنتها إدارة ترمب كانت تهدف إلى التوصل لاتفاق نووي أفضل، مع كبح جماح نفوذ إيران الإقليمي، لكن ما حققته هو العكس، إذ أدت إلى زيادة التوترات في الشرق الأوسط وزعزعة الاستقرار الإقليمي، كما تراجعت المكاسب التي حققتها خطة العمل الشاملة المشتركة، وتركت الولايات المتحدة معزولة عن الحلفاء الأوروبيين والدول الأعضاء في مجلس الأمن».
وتابع مالي منتقداً سياسات إدارة ترمب، فقال إنه «حينما سعت الولايات المتحدة لإطلاق آلية (سناب باك) لإعادة العقوبات الدولية المعلقة... تجاهل أعضاء مجلس الأمن طلب الولايات المتحدة. وبعد مقتل العالم النووي محسن فخري زادة، أقر البرلمان الإيراني تشريعاً يفرض المزيد من التوسع في الأنشطة النووية، وأعلنت إيران زيادة تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المائة في منشأة فوردو التحت أرضية».
ومن ثم، «نصح» مالي إدارة بايدن بإلغاء انسحاب ترمب من الاتفاق النووي، والتراجع تماماً عن العقوبات التي كانت قائمة في عهد ترمب، بينما تعيد إيران برنامجها النووي إلى الامتثال الكامل. واقترح كإجراءات إضافية أن تدعم واشنطن طلب إيران قرضاً من صندوق النقد الدولي كدليل على حسن النية في ضوء جائحة «كوفيد – 19» وتدفع طهران لمناقشات حول تبادل الأسرى. أما فيما يتعلق بخروق إيران وانتهاكاتها، فيدعي مالي أن عكس مفعول الخروق في خطة العمل الشاملة المشتركة الإيرانية «يمكن أن يتحقق في غضون شهرين». وهو يأمل في أن تتطرق النقاشات مع الحلفاء الأوروبيين إلى الضغط على إيران لإنهاء الصراع في اليمن ودعم الحوار بين إيران والدول الخليجية بما يؤدي إلى خفض التوترات.
في المقابل، يرى مالي أن «ربط إعادة الانضمام للاتفاق النووي بـ(قضايا أخرى) قد يعرض المفاوضات والصفقة بأكملها للخطر». وبالتالي يعتقد أنه «يجب أن يكون الهدف إعادة الدخول في الاتفاق، أما القضايا الأخرى مثل خفض التصعيد الإقليمي وتطوير الصواريخ الباليستية، من الأفضل متابعتها فيما بعد، وليس وضعها كشرط لاستعادة الاتفاقية بالكامل».
أكثر من هذا، يعتبر مالي أن من مصلحة الولايات المتحدة كبح جماح إيران نووية، ومن مصلحة إيران الحصول على خفض للعقوبات الأميركية بعد سنوات من الإنهاك الاقتصادي نتيجة حملة الضغط القصوى والعقوبات التي فرضتها إدارة ترمب. ولذا فإن العودة إلى الاتفاق النووي أمرٌ ممكن رغم وجود تعقيدات كثيرة. وفي ظل تيارات إيرانية محافظة متشددة وأخرى «معتدلة»، يؤمن مالي بأن عملية صنع القرار في إيران تتركز في يد المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يلعب الدور المهيمن في السياسات. وعليه، فهو لا يتعجل إجراء المشاورات حول العودة إلى الاتفاق النووي قبل انتهاء ولاية الرئيس الإيراني حسن روحاني في يونيو (حزيران) المقبل، ولا يتخوف من وصول تيار محافظ أكثر تشدداً وأكثر صرامة إزاء واشنطن، بل إن قرار التعامل مع واشنطن سيعتمد على رؤية خامنئي لا من سيشغل منصب الرئيس.

جذوره المصرية
على الصعيد الشخصي، يفخر «روب» مالي دائماً بأن جده كان صحافياً يهودياً مصرياً، ولد وعاش في مصر، وعمل في جريدة «الجمهورية» المصرية قبل أن يهاجر في الستينيات من مصر إلى فرنسا ويؤسس هناك جريدة «أفريكاسيا»، وهي مجلة يسارية مهتمة بالشؤون الأفريقية والآسيوية.
ولد مالي عام 1963. ونقل والده سيمون مالي العائلة إلى نيويورك عام 1980، وذلك بعد طرد الرئيس الفرنسي - آنذاك - فاليري جيسكار ديستان سيمون والد «روب» بسبب كتاباته العدائية تجاه إسرائيل والدول الغربية. وبعدما هاجرت العائلة إلى نيويورك، التحق «روب» بجامعة ييل العريقة. ثم عام 1984 فاز بـ«منحة رودز» للدراسة في كلية مودلين بجامعة أوكسفورد الشهيرة في بريطانيا، حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة. وفيما بعد دخل كلية الحقوق بجامعة هارفارد ونال منها إجازة القانون، وهناك التقى زوجته كارولين وتزاملا في الوقت ذاته (عامي 1991 و1992) مع زميل آخر هو باراك أوباما.
مالي شخص عائلي جداً، فهو مرتبط بشكل كبير بزوجته وولديه مايلز وبلايز وابنته فرانسيس، ويحرص على حضور الحفلات المدرسية ومتابعة دروس ابنته وعروضها في حفلات رقص الكلاينيت. كذلك، فإنه يحرص على زيارة مصر، خاصة منطقة الأهرامات وخان الخليلي.
وعودة إلى الصعيد السياسي، فإن مالي تولى مناصب عديدة في إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون داخل مجلس الأمن القومي، وبرز اسمه حين تولى منصب مساعد الرئيس كلينتون للشؤون العربية الإسرائيلية بين 1998 و2001. وبعد رحيل إدارة كلينتون، غادر للعمل مع «مجموعة الأزمات الدولية»، التي تدير مجموعة واسعة من المحللين المتخصصين في الصراع العربي الإسرائيلي والحركات الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة.
ويذكر أن جريدة «التايمز» البريطانية فجرت فضيحة عام 2008 بنشرها تقريراً حول علاقات واتصالات مالي بمسؤولي حركة «حماس» التي تدرجها الخارجية الأميركية كمنظمة إرهابية. ودافع مالي عن تلك العلاقات بأنه جزء من عمله في «مجموعة الأزمات الدولية»، ونشر مقالات عديدة دعا فيها إسرائيل و«حماس» إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولكن بريق مالي خبا بعد تلك التقارير إلى أن عاد عام 2014 عضواً في مجلس الأمن القومي بإدارة أوباما مسؤولاً عن إيران ومنطقة الخليج. ويومذاك، حل محل فيليب غوردون عام 2015 مساعداً خاصاً لأوباما ومنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج، ثم مسؤولاً عن ملف مكافحة «داعش»، كما شارك في وفد المفاوضين الأميركيين في الاتفاق النووي الإيراني.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.