كارلا حداد: سعيدة بفترة الحجر وتحدّياتها

كارلا حداد في حلقة  من برنامجها «في مايل»
كارلا حداد في حلقة من برنامجها «في مايل»
TT

كارلا حداد: سعيدة بفترة الحجر وتحدّياتها

كارلا حداد في حلقة  من برنامجها «في مايل»
كارلا حداد في حلقة من برنامجها «في مايل»

يحقق برنامج «في مايل» عبر شاشة «إل بي سي آي» نجاحاً واسعاً. ومقدمته كارلا حداد التي تشارك أيضاً في إعداده، عرفت كيفية جذب المشاهد إن من خلال اختيار ضيوفها أو في محتوى ترفيهي غير سطحي. فعنوان البرنامج (في مايل) يشير إلى مضمونه الذي يتمحور حول المرأة. فهي تستدرج ضيوفها الذكور لإبداء رأيهم بصراحة في الأنثى.
وتعلّق كارلا حداد في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «حمّلتني فترة الحجر تحدّياً جديداً أنا سعيدة به. فهدفي الأساسي في هذه الفترة انتشال المشاهد القابع في منزله من روتينه اليومي. فبرامج الحوارات السياسية التي تسود غالبية الأمسيات، باتت تتعبه. من هنا ولد التحدي عندي كي أخرج اللبناني من همومه لنحو 90 دقيقة. والتحدي الآخر في اختيار الضيوف. فكان من الضروري أن يتمتعوا بشعبية كبيرة، وبخفة الظل. وعلي في الوقت نفسه ألا أبالغ في إضحاك المشاهد بل أرسم الابتسامة اللائقة على شفاهه».
تحضّر كارلا حداد بتأن لحلقات برنامجها الذي دخل هذا العام موسمه الثالث عبر شاشة. ومع فريق محترف تختار الموضوعات والفقرات وأسماء الضيوف التي تؤلف مضمون كل حلقة. وتعلّق في سياق حديثها: «مشاركتي في إعداد برنامجي زوّدتني بالقدرة على التحكم في مفاصله. وهذا الأمر يولّد عندي حماسا يلمسه الضيف كما المشاهد. وأكثر ما يشغلنا قبل تقديم كل حلقة هو إجراءات الوقاية من الوباء. ونحن كفريق نجري اختبارات الـ(بي سي آر) أسبوعياً وكل ما يتعلق بأعمال التعقيم والتطهير. وأنا شخصياً أطبّق قواعد التباعد الاجتماعي خلال محاورتي لضيفي كي نبقى معاً في المنطقة الآمنة».
وتعبّر كارلا حداد عن فرحتها الكبيرة في احتلال برنامجها وسائل التواصل الاجتماعي، وتصدّره الـ«تريندات» على حساب «تويتر» في موعد عرضه من كل أسبوع. وتقول: «هي فرحة لا يمكنني وصفها لأنّني أشعر وكأنني أسكن كل منزل وأحدث فيه الفرق. فأزود المشاهد بجرعات أمل وطاقة إيجابية يحتاجهما. وعندما أمرّ على حاجز أمني مثلا ويعبّر لي أحد عناصره عن إعجابه بالبرنامج أكون بغاية السعادة. ففترة الحجر التي نعيشها أثرت علينا بشكل سلبي أضف إليها كثافة أخبار الموت بسبب (كورونا) التي تردنا كل يوم. فهذه الفسحة الإيجابية التي أستحدثها ولو مرة في الأسبوع، تترك انطباعاً جيداً لدى متابع البرنامج».
لا تكرر كارلا حداد نفسها في برنامجها «في مايل» بل هي تفصّل كل حلقة على قياس الضيف الذي معها. وهو ما يلون حلقات البرنامج ويجددها بشكل مباشر فلا يثير الملل في نفس المشاهد.
وعن أنجح الحلقات التي قدمتها في فترة الحجر تقول كارلا حداد: «لكل ضيف خصوصيته وأهميته في المجال الذي يمتهنه. لذلك أستضيف أبطالاً في الرياضة وفنانين وممثلين وإعلاميين. ولكل منهم حضوره وميزته. ولكن يمكنني القول إنّ الحلقة التي جمعتني بالإعلامي ميشال قزي كانت حماسية بامتياز نظراً لشخصيته المرحة وطاقته الإيجابية المعروف بها. وكذلك تفاعل المشاهد مع ضيوف آخرين أمثال محمد خير الجراح وأمير يزبك وكثيرين غيرهما. وقريباً سيتابعون حلقة شيقة جداً مع الفنان أيمن زبيب، أتوقع لها أصداء جيدة».
يعرض برنامج «في مايل» أيضاً على منصة «شاهد» وقناة «إم بي سي4» وهو ما أسهم في انتشاره في العالم العربي. «كان يهمني أن يتعرّف المشاهد العربي على البرنامج، وآمل أن أتوسع قريباً في تركيبته، مما يسمح لي باستضافة وجوه عربية فنية وإعلامية». وعن الأسماء التي تراودها في هذا الخصوص تقول: «أتمنى أن أستضيف المطرب حسين الجسمي وكذلك نجوماً وممثلين سوريين وخليجيين».
وعما إذا محتوى برنامجها أعطى المرأة حقّها وألقى الضوء على أهمية الدور الذي تلعبه في الحياة اليومية تقول: «منذ الحلقات الأولى للبرنامج تلقيت ردود فعل كثيرة تجاهه بينها ما كان سلبياً أو العكس. ما كان يهمني هو عدم الوقوع في أسلوب الوعظ والتكرار، ولذلك اتبعت صياغة أسئلة سلسة، ولكنّها تحمل رسائل مباشرة في المرأة ودورها المهم في الحياة. فصحيح أن البرنامج ينتمي إلى خانة الترفيه، ولكنّه يسلّط الضوء أيضاً على المسؤولية التي تتمتع بها النساء. ولذلك جاءت ردود فعل بعض الضيوف سلبية في هذا الإطار إذ لم يستسيغها بعضهم رافضين أن تعطى النساء أكثر مما تتحملنه تركيبتهن الأنثوية والاجتماعية».
لا تتابع كارلا حداد البرامج التلفزيونية المحلية، وهي تفضل عليها الأجنبية. وتعلّق في معرض حديثها: «أحب متابعة برنامج كالذي تقدمه إيلين ديجينيريس ليس لأنّها أفضل منا بل لأنّها عفوية من دون عقد اجتماعية. فبرامجنا لا تتسم بالتلقائية سيما أن بعض المقدمين والضيوف لا يزالون يتمسكون بأقنعتهم، ولا يتصرفون بطبيعية. وفي برنامجي أجتهد لأن يستمتع الضيف، وأقف على رأيه، في نهاية كل حلقة».
الخبرة والنضج في التقديم اللذان تتسلح بهما اليوم كارلا حداد بعد مشوار طويل في التلفزيون، يسهمان في تحقيق أهدافها، ويساعدانها على تجاهل حروب تشن عليها بين وقت وآخر. وتقول: «كنت في الماضي أهتم بهذه الأمور وأبدي انزعاجي لحرب تشن علي فأشعر بالظلم. اليوم كل هذه الأمور ما عادت تهمني وصرت أهتم فقط بالنقد البنّاء».
وفي مناسبة عيد الحب تعد كارلا حداد مشاهديها بحلقة خاصة وتختم حديثها: «ستحمل لهم أجواء تعبق بالرومانسية وتنسيهم ولو للحظات، فترة الحجر التي يعيشونها».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)