عبد الملك الحوثي.. الإمام الثالث

الحاكم في اليمن بالتحكم.. لم يتلق أي تعليم نظامي.. ويمارس السباحة ويكتب الشعر

عبد الملك الحوثي.. الإمام الثالث
TT

عبد الملك الحوثي.. الإمام الثالث

عبد الملك الحوثي.. الإمام الثالث

بعد أن ثبتت الحركة الحوثية قواعدها بقوة السلاح على الساحة اليمنية، منذ 21 سبتمبر (أيلول) العام الماضي، ومن ثم استولت على القصر الرئاسي الأسبوع الماضي، وأجبرت للرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته على الاستقالة، تتوجه الأنظار إلى زعيم الحركة، عبد الملك الحوثي، لمعرفة الخطوة التالية.. هل هي إعادة دولة أسلافه (الإمامة) ليصبح الإمام الثالث، في المملكة المتوكلية اليمنية، التي كانت تحكم البلاد منذ عام 1918، وحتى 1962. وليكون امتدادا للإمام يحيى حميد الدين ومن بعده نجله الإمام أحمد، أم يسير على خطى حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، أم يشق طريقا ثالثا لنفسه برعاية إيران خارجيا، وعلي عبد الله صالح داخليا.

يرى منتقدو الحركة أن الهدف الحقيقي للحوثي هو استعادة الحكم الذي سلب من سلالتهم المذهبية. وفي هذا الإطار يقول الباحث اليمني زايد جابر، لـ«الشرق الأوسط»، إن الحوثيين يسيرون على خطى الأئمة، من حيث السيطرة والقتل والتفجير ضد خصومهم.. وإن عبد الملك الحوثي يسير على نهج من سبقوه من الأئمة، كي يثبت أنه أصبح مؤهلا للإمامة.
ويعتقد الحوثيون أن «الولاية العامة»، تنحصر في سلالة الرسول الكريم، الذي يعود نسبهم إليه كما يقولون، لذا لا ينفك عبد الملك الحوثي نفسه عن التحدث عن أهمية التمسك بالولاية التي يعتبرها ولاية إلهية. ففي خطابه بمناسبة «عيد الغدير» 2014. أكد أن «مبدأ الولاية مبدأٌ قرآني إيماني، لأنه يرتبط أساسا بولاية الله سبحانه وتعالى، وولاية الرسول هي امتداد لولاية الله». وبحسب مقربين من الجماعة فإن تزعم عبد الملك للحركة جاء بعد خلافات عميقة داخل قيادتها بعد مقتل مؤسسها في الحرب الأولى، حيث كانت القائد الميداني عبد الله الرزامي هو المرشح الأبرز لتولي زعامة الحركة، إلا أن الأب الروحي للحركة بدر الدين الحوثي رفض ذلك وقدم ابنه ليكون هو قائد الحركة. وترتبط الظاهرة الحوثية بتخريج زعامات من سلالة محددة من البشر، يحاطون بتعظيم مبالغ فيه، كما هو الحال مع زعيم الحركة عبد الملك الحوثي الذي يبدو كنموذج مصغر من زعيم حزب الله في لبنان حسن نصر الله، حيث يرفعان شعارات محاربة إسرائيل وأميركا.
لقد أصبحت الحركة الحوثية وقيادتها منذ 21 سبتمبر 2014، محط الأنظار باعتبارها الحركة الشيعية المسلحة التي سيطرت على عاصمة بلد وتمكنت خلال وقت قصير من تحقيق أهدافها بقوة السلاح، وقد ظهرت الحركة المدعومة من إيران، قبل 22 سنة على يد مؤسسها حسين الحوثي شقيق زعيم الحركة الحالي، واتخذت من المذهب الزيدي الذي ينتشر أتباعه في أقصى شمال البلاد، غطاء للتوسع وتجنيد الأتباع والتأثير على أبناء المناطق القبلية.
كان عبد الملك في العقد الثاني من عمره حين ورث زعامة الحركة، بعد مقتل شقيقه حسين بدر الدين الحوثي على يد الجيش عام 2004، في نهاية الحرب الأولى بين جماعته والسلطات المركزية، ليتوارى بعدها في كهوف الجبال الوعرة والتضاريس الجغرافية القاسية، بمعقل الحركة في محافظة صعدة، بعد إعلان السلطات ملاحقة كل من ينتمي للحوثي، ليقود بعدها أتباعه في 5 حروب ضد السلطات وكان آخرها عام 2010. وخلال 11 سنة «2004 - 2015»، استطاع الشاب وبدعم مباشر من إيران والرئيس السابق علي عبد الله صالح، أن يقود ميلشياته التي هي خليط من القبائل المحيطة بصنعاء، ومقاتلين تدربوا على يد خبراء إيرانيين وحزب الله، وسيطروا على مقاليد الحكم في صنعاء التي كانت تدار منها الحروب الست ضد جماعته أثناء حكم صالح، الذي تحالف مع الجماعة بعد الإطاحة به عام 2011.
يحيط الغموض تفاصيل الحياة الشخصية والاجتماعية، لعبد الملك الحوثي بسبب الإجراءات الأمنية المشددة التي يحيط بها نفسه، فهو قليل الظهور بالإعلام، وإن ظهر فعبر خطابات متلفزة تنقلها فضائية «المسيرة» التابعة للحركة التي تبث من بيروت، ويطلق عليه أتباعه لقب «سيد» وهو لقب يطلق عادة في اليمن على من ينتمي إلى الهاشميين ممن ينحدرون من سلالة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حسب اعتقادهم.
يعد والده بدر الدين الحوثي من أبرز المراجع الفقهية للمذهب الزيدي، لكنه شهد تحولا جذريا في فكره بعد سفره إلى إيران، التي تأثر بها فتحول مذهبه إلى المذهب الجارودي، القريب من المذهب الإثني عشري، بعد إقامته في إيران خلال الفترة ما بين 1994 و2002 كما يقول الباحثون. ولا يعرف عن عبد الملك التحاقه بالتعليم النظامي إذ اعتمد على والده المرجع الزيدي، لتلقي العلوم الدينية، فكان المفضل عنده من بين إخوته، فكان مرافقه في كل مكان يذهب إليه، وعندما تم نفي والده من البلاد 1994، رافقه في سفره إلى إيران، حيث تشكلت شخصيته الفكرية والآيديولوجية بحسب المقربين منه.
وظهرت حركة «أنصار الله» وهو الاسم الرسمي الذي يطلقون على أنفسهم، كتنظيم شبابي فكري عام 1992، ليدب الخلاف بين مؤسسي التنظيم الذي كان يسمى «منتدى الشباب المؤمن»، وكان يموله الرئيس السابق، بسبب سعي حسين الحوثي إلى التمرد على المذهب الزيدي وهو ما رفضه مؤسسو التنظيم، ما دعا حسين إلى الاستقلال عنهم وتكوين حركته الخاصة. وبات الشاب عبد الملك ممسكا بزمام قيادة الحركة.
ويقول الناطق الرسمي للجماعة محمد عبد السلام في تصريحات سابقة مع «الشرق الأوسط» إن «السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي هو من يصدر القرارات ويتشاور مع المجلس السياسي في أي نشاط مطلوب»، أما عن البنية الهيكلية للحركة فإن المعلومات حولها تبدو شحيحة، إذ لا يعرف عن الجماعة إلا أنها تتكون وحدات قتالية بقيادة شقيق زعيم الحركة عبد الخالق الحوثي الذي أدرج مجلس الأمن اسمه ضمن العقوبات الدولية، إضافة إلى قائد آخر هو عبد الله الحاكم، والرئيس السابق علي عبد الله صالح، وهذه الميليشيات المسلحة ترتبط مباشرة بزعيم الحركة، أما العمل السياسي فهو منوط بالمجلس السياسي الذي يقوده صالح الصماد الذي عين مؤخرا مستشارا في الرئاسة اليمنية، ويقع مقره في منطقة الجراف أحد أحياء العاصمة صنعاء الشمالية.
وتقول المصادر إن عبد الملك ولد عام 1399هـ، الموافق للميلادي 1978، في قرية تسمى «الجمعة»، وانتقل بعدها إلى عزلة مران بمديرية حيدان، وتلقى تعليمه في حلقات الدروس الدينية التي كان والده يدرسها في مساجد صعدة، منذ كان عمره 18 سنة، ويقول الكاتب الصحافي عابد المهذري إن عبد الملك رافق والده إلى طهران عندما قررت السلطات نفيه لأسباب ذات أبعاد سياسية ومذهبية كما يقول، ويصف المهذري الذي كتب السيرة الذاتية عنه بأنه «كان منضبطا في حياته، يصحو وينام باكرا، ويقرأ كثيرا ويطالع الصحف ويتصفح الإنترنت ويلاعب الأطفال، يمارس رياضة السباحة والمشي ويحرص على الالتقاء بأصدقائه القدامى ورفاق الطفولة، مرح يحب النكتة البريئة، يكتب الشعر وتطربه الأناشيد والفنون الإسلامية».
ويرفض عبد الملك أي تهديدات دولية تجاه جماعته، وقد أكد في آخر خطاب له أن «قرارات مجلس الأمن لا تخيفهم، وأنهم على استعداد كامل لمواجهتها في حال تعارضت مع مصلحة الشعب اليمني»، أما عن علاقتهم بإيران فهو يفضل عدم التحدث في خطابتها عنها، فيما يترك ذلك للقيادات التي تحت أمرته والذين بدورهم لا ينفون هذه العلاقة وقد برزت هذه العلاقة في قضية سفينة السلاح «جيهان 1»، التي تم الإفراج عن طاقمها الإيراني بعد ضغوطات من الجماعة على السلطات، إضافة إلى أن إفادة بعض المصادر بوجود خبراء إيرانيون يدربون مقاتلي الجماعة منذ حرب عمران وحتى اقتحام العاصمة صنعاء، وقد برز الدعم الإيراني بقوة بعد ذلك كان آخرها قبل أيام حين أكد مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية، أمير عبد اللهيان، أن إيران باتت اليوم الأكثر نفوذا في المنطقة، وأنها تستخدم هذا النفوذ لضمان أمنها القومي ومصالحها القومية وأمن المنطقة.

* نموذج مصغر
يظهر عبد الملك شبيها بحسن نصر الله من حيث ظهوره الإعلامي، وطريقه خطاباته وحركاته، وحراسته التي تتشابه مع زي الحرس الإيراني، وينتهز عبد الملك المناسبات الدينية ليظهر إلى أتباعه في خطابات متلفزة طويلة، فهي الفرصة الوحيدة المتاحة أمامهم لمشاهدة زعيمهم الذي يعيش في معقل الحركة بمحافظة صعدة، ويرفض دخول العاصمة صنعاء حتى بعد سيطرة أتباعه عليها، بمبرر الأوضاع الأمنية غير المستقرة، يقول أحد القيادات السياسية التي زارت عبد الملك ضمن وفد رسمي قبل بضعة أشهر، إن الإجراءات الأمنية التي يحيط عبد الملك نفسه بها مشددة، إذ يم تجريد كل أعضاء الوفد من جميع الأجهزة الإلكترونية والأقلام، ثم يتم نقلهم من مكان إلى آخر، عبر سيارات خاصة وصولا إلى المقر الدائم له.
يظهر عبد الملك في خطابته المتلفزة، مرتديا الزي الشعبي المكون من ثوب وخنجر يتوسط خصره والذي يسمى شعبيا «الجنبية»، ويتدلى من كتفيه الشال، ويفضل أن يظهر بخاتم من العقيق على إصبع «الخنصر»، ويقدم فيها خطابات تتجاوز مدتها ساعة كاملة، وتستهدف غالبا دغدغة العواطف الشعبية، عبر مواضيع الفساد والدين، والقضايا الإسلامية كقضية فلسطين والعداء مع إسرائيل وأميركا. ويقول الخبير الإعلامي محمد السامعي إن الظهور الإعلامي لعبد الملك الحوثي، دائما ما يكون مختلفا عن القيادات السياسة في اليمن، فوسائل الإعلام التابعة له تحاول أن تظهره كأنه قائد يحاط بهالة من القداسة والاختلاف، ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «خطاباته تعتبر أطول خطابات عرفها اليمن، ويلتفت لها الكثير ليس لتأثرهم بها بل لمعرفة رأي الجماعة التي باتت تتحكم بالمشهد اليمني في مختلف المجالات بقوة السلاح بتنسيق وتحالف واضحين مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح». مشيرا إلى أن شخصيته الخطابية التي يحاول فيها أن يظهر بحماسة وثقة كبيرتين دون أي ابتسامة هو تقليد لزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، ويوضح «كثير من اليمنيين يعتقدون أن خطاباته وظهوره الإعلامي مملان بشكل مستمر؛ فالكثير منهم يعتقدون أن ما يقوله هو عكس ما يفعله».



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.