«نسيت المفتاح»... مغامرة تشكيلية للإجابة عن تساؤلات الجائحة

معرض جديد للفنانة السورية سعاد مردم بك في القاهرة

«نسيت المفتاح»... مغامرة تشكيلية للإجابة عن تساؤلات الجائحة
TT

«نسيت المفتاح»... مغامرة تشكيلية للإجابة عن تساؤلات الجائحة

«نسيت المفتاح»... مغامرة تشكيلية للإجابة عن تساؤلات الجائحة

في براح حقول عباد الشمس، وأسراب الحمام، وفناءات الطفولة، تركت الفنانة السورية سعاد مردم بك الكثير من تفاصيلها الفنية وحسها الفلسفي، وخرجت بتجربة فنية جديدة صاغت لها عنوان خبري من كلمتين تكتنز بهما مئات المشاعر والدلالات، وهو «نسيت المفتاح»، لتضع زوار معرضها على أعتاب حالة من الفضول والمغامرة، وكأنهم في مهمة تتبع لأثر هذا المفتاح الضائع في فضاءات لوحاتها التشكيلية الجديدة التي يستضيفها غاليري «الزمالك للفن» بالقاهرة، حتى نهاية الشهر الجاري.
ولأن لكل باب مفتاحا بمعناه المادي أو المعنوي، فأي مفتاح ذلك الذي تقصده سعاد مردم بك في معرضها؟ تقول الفنانة السورية «أعبر في لوحات المعرض عن حالة الضياع التي يشعر بها الإنسان في ظل عدم وجود إجابات، حالة أقرب لمن فقد مفتاح بيته، فيشعر عندها بالضياع وانعدام الأمان، أبحث عن مفاتيح للإجابات المفقودة في كل لوحة من لوحات المعرض»، وتضيف في حديثها لـ«الشرق الأوسط» أن من بين أبرز الأسئلة التي كانت تلح عليها خلال أعدادها لهذا المعرض هو سؤال «لوين رايحين؟» تسأله بلهجتها السورية المميزة وهي تتأمل أسئلة الواقع التي تفرض نفسها على الفن، وعلى رأسها «كورونا» وما لا يزال يثيره من أسئلة وضبابية، تقول «رسمت لوحات المعرض في وسط هذا الغموض الذي فرضه كورونا على العالم، وسط الغموض والانتظار، والترقب، وعدم وجود إجابات، حتى بعد ظهور اللقاحات ما زال يثير الأسئلة اللانهائية أمام العالم».
حسب سعاد مردم بك فإن عنوان المعرض «نسيت المفتاح» يحمل في طياته الكثير من الأمل أيضًا في إمكانية العثور عليه، ومن ثم استعادة الشعور بالأمان والسلام النفسي، ولعل كل لوحة تحمل داخلها نقيضي الأمان والشعور بالضياع، فلوحة زهور عباد الشمس يمكن أن ترى بها الزهرة المكتملة بجمالها الباهي وصفرتها الزاهية، في وقت تقف مثيلاتها من الزهور على الطرف الآخر في حالة ذبول وانكسار، وينعكس هذا النقيض بفلسفته في عالم الزهور والنباتات الذي يفيض بجمالياته في لوحات المعرض، فحسب الفنانة فإن «النباتات هي الحياة والجمال والفرح، وهي في لوحات المعرض تدعو لحياة أجمل»، وتستدعي لوحة لجذع عريض لشجرة زيتون، فهي شجرة راسخة ولكنها من دون أوراق ولا ثمار زيتون ربما تصدر حالة من الوحشة بمجرد النظر العابر لها، لكن مع تأملها بصورة أعمق نلاحظ ثمة براعم قصدت الفنانة أن تكون صعبة الملاحظة في تماهي مع ثيمة الغياب والاختباء التي يرمز إليها المعرض.
وكما براعم النباتات، تسلب الفتيات الصغيرات الانتباه، بحركتهن ونظراتهن المتسائلة، في ثنائية بصرية نسجتها سعاد مردم بك بين الفتيات والنباتات وكأنهما مفردات لحوار كوني لا نهائي، فيما تبرز لوحة لفتاة صغيرة على ظهر ذئب ضخم، تحيل المتفرج إلى عالم حكاية ذات الرداء الأحمر أو «ليلى والذئب» الشهيرة تلك التي طالما روتها الجدات على مسامع الأبناء والأحفاد، عن الطفلة الصغيرة التي يستدرجها ذئب حتى يلتهمها، إلا أنها في حكايات سعاد مردم بك يبدو أنها هي التي استدرجته وروضته حتى أنها باتت تقوده، تقول الفنانة عن تلك اللوحة «تلك الحكاية من حكايات الخيال التي يعرفها الصغار والكبار، وظلت عبر تاريخها رمزاً للخوف والشر الذي يحمله الذئب وهو يحاول استدراج الطفلة ببراءتها، فكانت تلك اللوحة استلهام للحكاية، ولكنها هنا على العكس».
تقول سعاد مردم بك إن قصص الطفولة تعد إحدى أبرز مناهل الأفكار الفنية، وكذلك الأسطورة التي تصفها بنبع الإلهامات عبر التاريخ، ولعل مشروع الفنانة السورية سعاد مردم بك مصحوب دوما بالحكايات السحرية والأسطورية التي تعيد النظر إليها بأسلوبها الفني الحكائي، وتقنياتها الفنية التي تمهد بها سطح لوحاتها لتمنحها تضاريسها الخاصة الأقرب للتعاريج، مانحة أعمالها أبعادها الزمنية الخاصة، وكأنها منتزعة من كتاب أساطير منسي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)