أدوات صناعة الخبز التراثية تقاوم الحداثة في مصر

تنتعش في «الوجه القبلي» وتعتمد على جريد النخيل

أدوات صناعة الخبز التراثية تقاوم الحداثة في مصر
TT

أدوات صناعة الخبز التراثية تقاوم الحداثة في مصر

أدوات صناعة الخبز التراثية تقاوم الحداثة في مصر

رغم التوسع الكبير في استخدام التقنيات الحديثة في صناعة الخبز بجميع أنحاء مصر، فإن الأدوات التقليدية والتراثية لإعداد الخبز يدوياً ما تزال تحافظ على مكانتها حتى الآن وتقاوم الحداثة في الكثير من محافظات الوجه القبلي في مصر، وتعد صناعة «المطارح» من جريد النخيل واحدة من أقدم هذه الصناعات التي تنتعش في الريف المصري، وهي مهنة تحتاج لنظام دقيق، وعدد متناغم من الأيدي العاملة، لذا يلاحظ أنها ذات طابع عائلي، يعمل فيها كل أفراد الأسرة، بما فيهم الأبناء والزوجات، إذ يعملون تحت ونس الحكايات والأغاني القريبة من روح النخيل.
إبراهيم سامي، صانع مطارح جريد من مدينة أبي قرقاص التابعة لمحافظة المنيا (261 كيلو جنوب القاهرة)، يؤكد أنّ جميع الرجال والنساء في منزل عائلته الكبيرة يعملون في صناعة المطارح، حيث تُستغل كل المهارات والإمكانات والأفكار، وتُطوّع في خدمة مهنة الآباء والأجداد، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا توجد هوايات في بيوتنا سوى تقليم العيدان، وحفها، وصنفرتها، فكل شيء يتم بدقة من أجل أن تأخذ كل قطعة مكانها المحدد والمضبوط في المطرحة»، مؤكداً أنّ «موظفي العائلة أيضاً يواظبون على ممارسة حرفتهم التراثية لدى عودتهم من مصالحهم الحكومية يومياً».
ويعدّ سامي أحد الحرفيين المشهورين في المدينة بصناعة مطرحة الخبز من جريد النخيل، فقد بدأت حياته معها حتى غلبته، حسب وصفه، ويذكر سامي أنّه ولد في عائلة متوسطة الحال لا عمل لها سوى صناعة المطارح، وقد تعلمها وهو صغير من أبيه الذي لم يكن يملك أرضاً زراعية لفلاحتها، ولم يدعه يذهب للمدرسة ليتعلم شيئاً آخر.
ويستخدم حرفيو صناعة المطارح قادوماً من الحديد لتقليم الجريد، وسكيناً حاداً، وبعد الانتهاء من عمل كمية من المطارح، يبيعونها لتاجر تقتصر مهمته على تسويقها في السوق.
ورغم انتشار المخابز السياحية غير المدعمة، في جميع أنحاء الجمهورية، والمخابز البلدية المدعمة التي يبلغ عددها أكثر من 28 ألف مخبز، وتنتج نحو 270 مليون رغيف يومياً، لنحو 70 مليون مواطن مقيد على بطاقات الخبز المدعم، وفق وزارة التموين والتجارة الداخلية المصرية، فإنّ الكثير من المواطنين يفضلون إنتاج الخبز في منازلهم بالطرق التقليدية التي ورثوها عن أجدادهم، خصوصاً في صعيد مصر، لذلك يُقبلون على شراء أدوات صناعة الخبز اليدوية ومن بينها المطارح.
وعن المراحل التي تمر بها صناعة المطرحة، يشير سامي إلى أنّها تتجاوز 24 خطوة قبل أن تخرج بشكلها الدائري والبيضاوي المعروف، لذلك تحتاج إلى عدد كبير من الحرفيين، ينتظمون في ساحة واسعة، ويعرف كل واحد منهم عمله بشكل محدد.
وأوضح أنّه يقطّع الجريد لقطع متساوية، قبل أن تقسمها زوجته لأكثر من عود، بعد ذلك يأتي دور أخيه ليبريها، ثم تقوم زوجته بعمل مجموعة من الثقوب في أماكن محددة في كل عود، وتراعي أن تكون المسافات متساوية فيما بينها، من ثم يُنعّمها ويصنفرها شخص آخر، لتوضع بعد ذلك، في الشمس يومين أو ثلاثة، بعد ذلك تُقطّع بمقاسات جديدة، يراعى فيها أن تكون مناسبة في النهاية لتأخذ الشكل الدائري للمطرحة.
ويتفاوت سعر كل قطعة حسب الحجم، ويبدأ سعرها من 10 جنيهات (الدولار الأميركي يعادل 15.7 جنيه مصري) وحتى 70 جنيهاً، وتختلف أشكال المطارح حسب وظيفة كل واحدة، فالصغيرة تسمى «القطعة» ودورها فرد قطعة العجين لتصير في حجم كف اليد، أمّا «المتوسطة»، فهي التي تستقبل قطعة العجين بعد فردها، وتُوسّعها قليلاً، فيما تعد «مطرحة البنات» أكبر قليلاً، وتساهم في عمليات التوسعة والفرد، ويبلغ سعرها نحو 30 جنيهاً، وأكبرها حجماً المطرحة التي يوضع بها الرغيف في الفرن.
بدوره، يشير عباس حميدة، أحد أقدم صُنَّاع المطارح في المنيا، إلى أنّه يذهب إلى أحد الأسواق كل يوم خميس، ليبيع ما صنعه، ولا يكتفي بذلك، فهو يُصلح كذلك المطارح القديمة التي تأتي بها السيدات بغرض صيانتها، وهذا ليس كل شيء، فهو يصنع أيضاً المطرحة أمام المتسوقين، ويقول إنّه يجد في هذا متعة كبيرة، لا يعرفها في منزله.
ويعتمد الكثير من الأهالي على الأفران الطينية القديمة في صناعة الخبز بالمناطق الريفية، بجانب الأفران المعدنية التي تُشغّل بواسطة أنابيب البوتاغاز، وفي الآونة الأخيرة لجأت الكثير من السيدات إلى صناعة الخبز منزلياً خوفاً من عدوى «كورونا» أثناء الوقوف طوابير المخابز البلدية.
وتؤكّد سيدة فتحي، ربة منزل، تعيش بالمنيا، «أنّها ومعظم أهالي القرى في محافظة المنيا ما يزالون يأكلون العيش (البتاو)، لذا ترتاد السوق دائماً إمّا لإصلاح مطرحة قديمة، أو شراء واحدة جديدة، وأضافت سيدة فتحي لـ«الشرق الأوسط»: «إنها جاءت إلى السوق من أجل شراء عدد من المطارح لضمه إلى جهاز ابنتها التي تستعد للزواج»، إذ ترى أنّها «ضرورية لأي فتاة على وشك فتح بيت جديد».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)