لغز اللوحة التي {يعشقها} اللصوص

عمل أحد عمالقة «العصر الذهبي الهولندي» سُرق وعُثر عليه مرات عدة

لوحة فارنز هالز بعدما عثرت عليها الشرطة عند سرقتها عام 2011 (غيتي)
لوحة فارنز هالز بعدما عثرت عليها الشرطة عند سرقتها عام 2011 (غيتي)
TT

لغز اللوحة التي {يعشقها} اللصوص

لوحة فارنز هالز بعدما عثرت عليها الشرطة عند سرقتها عام 2011 (غيتي)
لوحة فارنز هالز بعدما عثرت عليها الشرطة عند سرقتها عام 2011 (غيتي)

تدلت لوحة «صبيان يضحكان مع كوب من الجعة» من إبداع أنامل الفنان فارنز هالز، على جدار في متحف صغير في مدينة ليردام الهولندية على مدار الجزء الأكبر من السنوات الـ248 الماضية.
ويتعين على المرء استخدام كلمة «الجزء الأكبر» هنا لأن اللوحة كان يجري إقراضها لأماكن أخرى بين الحين والآخر، بجانب نقلها إلى مكان آمن عندما اجتاح النازيون المدينة - ومثلما يعرف الكثيرون داخل المدينة، تعرضت للسرقة ثلاث مرات.
واختفت اللوحة مرة أخرى للمرة الثالثة، أغسطس (آب) الماضي، عندما تعرضت اللوحة التي تقدر قيمتها بما يزيد عن 10 ملايين دولار، للسرقة قبل ثلاثة أيام من الذكرى الـ354 لوفاة هالز. وعلى الجدار، ظلت هناك فجوة خالية داخل متحف هوفي فان ميفروف فان أردين.
في هذا الصدد، قالت كريستا هندريكسن، عضو مجلس محلي مسؤولة عن شؤون الثقافة داخل ليردمان، مدينة صغيرة يبلغ عدد سكانها 20 ألف نسمة وتشتهر بأعمال الزجاج: «لست أعرف إجابة لهذا الأمر».
في الواقع، يبدو أمراً مثيراً للدهشة، بل ويكتنفه الغموض، عندما يتعرض أي عمل فني للسرقة عدة مرات. وهنا تظهر تساؤلات من عينة: هل يتضمن العمل إشارات مفتاحية تقود إلى كنز خفي، أو شفرة سرية؟ هل يستحوذ العمل على اهتمام مجموعة ما تمجد هالز، أو ربما الجعة؟
بالتأكيد، كانت هناك أعمال فنية أخرى استحوذت على اهتمام اللصوص.
تجدر الإشارة هنا إلى أن نسخاً من لوحة «الصرخة» لإدفارد مونك تعرضت للسرقة من متاحف في أوسلو عامي 1994 و2004. كما تعرضت لوحة «كورنفيلد» لجاكوب فان رويسدال للسرقة ثلاث مرات من منزل فخم جنوب دبلن، منها مرة على يد الجيش الجمهوري الآيرلندي. كما تعرضت لوحة رامبرانت «جاكوب دي غين الثالث» للسرقة مرات عدة من «معرض دولويتش للصور» في لندن (أربع مرات بين عامي 1967 و1983) لدرجة أن اللوحة اشتهرت باسم «تيك أواي رامبرنت» على سبيل التهكم.
من جهتهم، يرى خبراء أنه في الوقت الذي يقدم لصوص على سرقة أعمال فنية بإيعاز من أثرياء مولعين بـ«العصر الذهبي الهولندي»، فإن الدوافع وراء عمليات السرقة تلك من المحتمل أن تكون قد وقعت على أيدي لصوص عاديين.
وتعتبر مثل تلك الأعمال من اللوحات المعروفة، وبالتالي فإنها تشكل رهاناً آمناً أمام اللصوص بالنظر إلى أن قيمتها قد تأكدت خلال حالات تعرضها للسرقة سابقاً، وكذلك حقيقة أن الشرطة حاولت بجد بالغ العثور عليها. بمعنى آخر، ربما تكون لوحة «صبيان يضحكان مع كوب من الجعة» قد تعرضت للسرقة لمجرد أنها سبق وأن سرقت من قبل.
وعن هذا، أوضح كريستوفر إيه. مارينيلو، مؤسس «آرت ريكفري إنترناشونال» أن اللصوص: «يدركون أن بمقدورهم الحصول على مال مقابلها من شخص ما، ويدركون كذلك الحد الأدنى للقيمة التي تحملها. ويعرفون أنه ربما تكون هناك جهة تأمين ترعاها».
أما آرثر براند، المحقق المستقل المعني بالأعمال الفنية والمقيم في أمستردام، فيرى أن اللصوص غالباً ما يأملون في سرقة أعمال كبرى يمكنهم استغلالها كورقة تفاوض حال تعرضهم لاتهامات أخرى. وعليه، فإنهم يبحثون عبر شبكة الإنترنت عن السرقات الفنية الشهيرة الماضية.
وأضاف: «هذا أمر يمكن الوصول إليه بسهولة إذا بحثت عنه عبر غوغل».
من ناحية أخرى، فإنه خلال حادث السطو الذي وقع في أغسطس (آب)، ظهر مقطع مصور لشخصين على دراجة بخارية يقتربان من المتحف منتصف الليل. ووفقاً لإحدى النظريات المطروحة بخصوص السرقة، من المعتقد أن اللصين تسلقا بوابة إلى حديقة خلفية قبل فتحمها باب خلفي عنوة وصعودهما الدرج إلى الغرفة التي جرى الاحتفاظ فيها بلوحة هالز. يذكر أن صفارات الإنذار انطلقت في الساعة الـ3.30 فجراً.
وعثرت الشرطة في وقت لاحق على حبل برتقالي مربوط بسارية العلم بالخارج، والذي ربما استخدمه اللصان الهاربان لتسلق جدار من الطوب يبلغ ارتفاعه 10 أقدام، ويمثل جزءً من تحصينات المدينة الأصلية. وظهر في الفيديو شخصان يركبان «سكوتر» ويتحركان بعيداً بعد وصولهما بقليل، وأحدهما يحمل شيئاً كبيراً يبدو شبيهاً بلوحة. (يذكر أن لوحة هالز يبلغ ارتفاعها أكثر من قدمين بقليل).
عندما اكتشفت السرقة، انتشرت أنباء ذلك بمختلف أرجاء العالم. وتوافرت في الجريمة جميع الأركان: عمل فني مشهور ومالك سابق وهو أرملة ثرية وسرقات سابقة تورط فيها أحد لوردات تجارة المخدرات في هولندا ومطالب بالحصول على فدية.
إلا أنه داخل ليردام، التي تستمر فيها اللوحة المسروقة في معاودة الظهور مرة بعد أخرى، هناك شعور بالخسارة، لكن ليس بالهيستريا.
من ناحيته، قال العمدة سيورس فروليخ: «انتابني شعور بشع لدى سماعي بنبأ سرقة اللوحة»، لكنه أعرب عن ثقته في جهود الشرطة لاستعادة اللوحة.
وقال: «في آخر مرتين تعرضت اللوحة للسرقة، نجحنا في استعادتها. وأعتقد حقاً أن بمقدورنا استعادتها مرة أخرى».
جدير بالذكر أن هالز، إلى جانب فيرمير ورامبرانت، يعتبر واحداً من عمالقة «العصر الذهبي الهولندي». واشتهر هالز بصور البورتريهات التي رسمها لموظفين عموميين تبدو عليهم الصرامة وتجار أثرياء. كما تناول في لوحاته صوراً من الحياة المعاصرة، تحديداً الشوارع، مثل «فتاة غجرية». وتركزت جاذبية هذه اللوحات في الحركة الحرة لفرشاة الرسم والفورية المبهجة للصورة، مثلما الحال مع لوحة «صبيان يضحكان مع كوب من الجعة».
جدير بالذكر أن هذه اللوحة اكتملت عام 1628 عندما كان هالز في الأربعينات من عمره، ورغم أنها تنتمي إلى الرسومات الهزلية، فإنها لا تخلو من تحذير أخلاقي. كانت عبارة «المحدق في كوب الجعة» يجري استخدامها على نطاق واسع باعتبارها توحي بالشره أو شخص يتطلع دوماً نحو المزيد، وجعلت تلك اللوحة الأمر أكثر إثارة للصدمة من خلال تصوير شاربي الجعة في صورة أطفال. من ناحية أخرى، عندما غزا النازيون المدينة، جرى نقل أعمال هالز وباقي المجموعة من المبنى الذي جعله الألمان المقر الرئيسي لهم. وأمضت اللوحة عقوداً على سبيل الإعارة في متحف روتردام، بينما كان يجري ترميم متحف «هوفي فان ميفروف فان أردين». وبعد ذلك، جرى تعليق اللوحة دونما مشكلة حتى عام 1988 عندما اقتحم رجل مقنع المبنى عبر إحدى النوافذ وقيد زوجة مدير المتحف وطلب من الزوج غلق جهاز الإنذار.
وقال نجل المدير، يوس سليكر، الذي يتولى منصب أمين جمعية ليردام التاريخية: «تحت تهديد سلاح ناري، أجبر والدي على فتح أبواب المتحف».
وقال سليكر إن والده كان قادراً على الضغط على زر ثان لدق ناقوس الخطر، لكن اللص تمكن من الإفلات حاملاً لوحة هالز ولوحة أخرى بعنوان «منظر الغابة مع زهرة البلسان» للفنان جاكوب سالومونز فان رويسديل.
بعد ثلاث سنوات، أعيدت اللوحات إلى متحف «هوفي فان ميفروف فان أردين»، بعد دفع دية بقيمة 500 ألف غيلدر (ما يتجاوز 250 ألف دولار) من جانب شركة التأمين والسلطات الهولندية.
عام 2011. سرقت ذات اللوحتين من جديد. ودوت أجهزة الإنذار في الثالثة صباحاً، ورأى شهود عيان سيارة «مرسيدس» أو «بي إم دبليو» داكنة اللون، تبتعد بينما كانت مصابيح السيارة الأمامية خافتة، وعثرت الشرطة على إطار لوحة هالز ملقى.
ويبدو أن اللصوص سمعوا أن يمكنهم الحصول على أموال مقابل إعادة اللوحتين. وبالفعل، استعادت الشرطة اللوحتين بعد خمسة أشهر عندما اتصلت بأربعة رجال يسعون للتفاوض حول إعادة اللوحتين مقابل فدية تبلغ 1.5 مليون يورو (قرابة 2 مليون دولار). ورتب المحققون لعميل سري كي يتظاهر بأنه ممثل شركة التأمين المعنية بالمتحف، وعندما ظهر الرجال الأربعة، جميعهم من أمستردام، وأحدهم تاجر أعمال فنية ـ ألقي القبض عليهم.
ولم يتعرف الرجال على هوية السارق الحقيقي قط، وإن كانوا ذكروا أنهم اتفقوا على تقاسم أموال الفدية معه.
في كلتا المرتين، أعيدت لوحة هالز للمتحف. وقال سليكر: «تنص وصية الفنان الراحل على ضرورة أن تبقى مجموعة أعماله سليمة ومعروضة في «هوفي».
من جهتها، رفضت الشرطة ومسؤولو المتحف تحديد التحسينات الأمنية التي ربما جرى اتخاذها بعد السرقات السابقة، لكن سليك قال إن المتحف به جهاز إنذار وأجهزة استشعار للحركة. كما أن مجموعة الأعمال متاحة للجمهوري بعد الظهر مرتين فقط، ولا يمكن مشاهدة اللوحات سوى برفقة مرشد.
النبأ السار فيما يخص المتحف أنه لا أحد يعتقد أن اللصوص سيتمكنون من بيع مثل هذه اللوحة المعروفة في السوق المفتوحة. لذلك، سيتعين عليهم تجربة شيء آخر، ربما التفاوض حول إعادة اللوحة مقابل فدية.
* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)