5 ساعات فقط لإعداد غرف البيت الأبيض لساكنيه الجدد

طاقم عمل من 90 شخصاً يتولى الترتيبات

لقطة من عمليات نقل صناديق من البيت الأبيض الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
لقطة من عمليات نقل صناديق من البيت الأبيض الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
TT

5 ساعات فقط لإعداد غرف البيت الأبيض لساكنيه الجدد

لقطة من عمليات نقل صناديق من البيت الأبيض الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
لقطة من عمليات نقل صناديق من البيت الأبيض الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)

حان الوقت أخيراً كي يجد الرئيس ترمب مكاناً دائماً في منتجع «مار ألاغو» لجهاز محاكاة ملعب الغولف الذي يبلغ حجم غرفة بأكملها، وتبلغ قيمته 50000 دولار، ناهيك عن شاشة تلفزيون 60 بوصة، والتي استعرضها بفخر فوق طاولة الطعام، بجانب مجموعته من ملابس «بريوني» وحقائب ملابس السيدة الأولى من «لوي فيتون».
بحلول الساعة 12:01 ظهر اليوم، بعد ساعات من اللحظة التي ينوي ترمب نفسه مغادرة واشنطن فيها، ستتبعه جميع أغراض وأمتعة الأسرة الأولى بالبلاد إلى خارج البيت الأبيض، في طريقها إلى منزله الجديد في بالم بيتش بفلوريدا. وبحلول نهاية اليوم، سيصل جوزيف آر بايدن وزوجته، جيل، إلى الجزء الخاص بالإقامة من البيت الأبيض، والذي خضع لعمليات تنظيف عميقة؛ حيث سيجري وضع أغراضهما وترتيب الأثاث الخاص بهما وتخزين الأطعمة المفضلة لديهما داخل المبردات.
ويأتي ذلك في إطار إجراءات دقيقة يجري اتخاذها كل 4 أو 8 سنوات، مع انتقال أسرة جديدة إلى داخل البيت الأبيض، بينما ترحل عنه أخرى. ويتولى الاضطلاع بهذه الإجراءات والترتيبات طاقم العمل في مقر الإقامة بالبيت الأبيض، البالغ عدد أفراده 90 شخصاً، على امتداد ما يقرب من 5 ساعات. وخلال هذه الساعات، يجري تنفيذ عملية معقدة للغاية، وفق جدول زمني ضيق غالباً، ما يتطلب تجميع كل ما جرى تركه داخل صناديق. ويُبدي بعض الرؤساء استعداداً أكبر للالتزام بالنظام في عملية الرحيل عن آخرين.
هذا العام، أشار مسؤولون مشاركون في العملية إلى أن يوم الانتقال يتضمن إجراءات تنظيف وتدابير أمان إضافية جراء تفشي وباء فيروس «كورونا».
في هذا الصدد، قالت إنيتا مكبرايد، التي شغلت منصب رئيسة فريق العمل المعاون للسيدة الأولى لورا بوش، بما في ذلك خلال فترة تسليم البيت الأبيض لأسرة الرئيس باراك أوباما: «ينام العاملون خلال هذه الفترة على أسرة سفرية وعلى السلالم»، مضيفة أنه بغضّ النظر عن مدى استعدادهم «دائماً ما يكون الوضع فوضوياً».
وتجدر الإشارة هنا إلى أن شاحنات نقل الأغراض الخاصة ببايدن لن يسمح لها بتفريغ حمولتها حتى يؤدي الرئيس الجديد القسم، رغم أن بعض أغراض الأسرة كانت قابعة في منشأة تخزين في ولاية ماريلاند منذ عطلة نهاية الأسبوع. وبعد ذلك، من المفترض أن يتحول سكن البيت الأبيض إلى ما يشبه منزلهم لدى وصولهم في وقت لاحق بعد ظهيرة يوم إدلاء القسم.
ويعتبر كل ذلك جزءاً من طقوس البيت الأبيض التي لم يعطلها ترمب بالكامل، لكن كما هو الحال مع كل شيء آخر في السياسة والحياة، سيكون الأمر هذا العام أكثر صعوبة.
جدير بالذكر أنه لم توجه الدعوة إلى أسرة بايدن لمقابلة أفراد فريق العمل داخل مقر الإقامة بالبيت الأبيض، أو التجول في الطابق الثاني من البيت الأبيض، المؤلف من 16 غرفة نوم، و6 حمامات، وسيكون منزلهم من الآن. على النقيض من ذلك، مرت ميشيل أوباما عبر أرجاء البيت الأبيض مرتين بدعوة من السيدة بوش قبل تنصيب زوجها رئيساً للبلاد عام 2009.
من جهتها، قالت كابريشا مارشال، التي شغلت منصب السكرتيرة المعنية بالشؤون الاجتماعية داخل البيت الأبيض في عهد إدارة كلينتون، وأشرفت على رحيل الرئيس عام 2001: «كان ينبغي أن توجه السيدة ترمب الدعوة إلى السيدة بايدن لتناول قدح من القهوة، مثلما جرت العادة»، وذلك في إشارة إلى ميلانيا ترمب، السيدة الأولى.
وأضافت: «عادة ما تأتي السيدة الأولى الجديدة، ولديها كثير من الأسئلة المعدة سلفاً، وتلتقي وتتحدث إلى كبير الطهاة وجميع أفراد فريق العمل في الجزء المخصص للإقامة من البيت الأبيض وتتوفر أمامهم الفرصة لتقرب بعضهم من بعض. ورغم أن هذا الأمر لا يعدو كونه مجاملة بسيطة، فإنه مفيد للغاية من الناحية اللوجستية. للأسف هذا الأمر لم يحدث».
وتبعاً لما أفادته شبكة «سي إن إن»، تعكف السيدة ترمب على حزم أمتعتهم منذ أسابيع، وتبدو متلهفة للخروج من البيت الأبيض برفقة ابنها بارون (14 عاماً)، والمضي قدماً في حياتهما. كما أنها لم تجرِ اتصالاً ببايدن.
ومع هذا، كان فريق العمل الانتقالي المعاون لبايدن على اتصال بتيموثي هارليت، كبير المرشدين بالبيت الأبيض، والذي عيّنته السيدة ترمب عام 2017. بعد أن كان رئيساً لشؤون الغرف داخل فندق ترمب الدولي في واشنطن، سعياً لتنسيق عملية انتقال الأسرة الرئاسية الجديدة.
اللافت أن تعيين هارليت كان إجراء غير مألوف بدرجة كبيرة، ذلك أن كبير المرشدين داخل البيت الأبيض عادة ما يكون موظفاً عاماً غير سياسي، وغالباً ما يتمتع بخلفية عسكرية، ولا يتبدل بتبدل الإدارات داخل البيت الأبيض. ونظراً لعلاقة هارليت بإمبراطورية الأعمال الخاصة بترمب، تكهن البعض بأنه سيرحل عن منصبه مع رحيل الرئيس المنتهية ولايته.
من ناحيته، لم يناقش هارليت مستقبله مع بايدن، ومن المتوقع أن يستمر في عمله في الوقت الراهن، تبعاً لما أفاده مسؤولون بالإدارة، بحيث يضطلع بتناول قضايا شخصية، ويخطط قوائم العشاء الأسري، ويدير ميزانية القطاع المخصص للإقامة بالبيت الأبيض. كان هارليت قد كشف عن رغبته الشديدة في الاستمرار في منصبه على نحو دائم، والواضح أنه لا يرغب في أن يجري النظر إليه باعتباره أحد الموالين لترمب، رغم أنه تولى تعيين موظفين آخرين سبق لهم العمل داخل شركات ترمب، (أخبر هارليت البعض بأنه لم يلتقِ أسرة ترمب قط حتى المقابلة التي أجريت معه للعمل في البيت الأبيض).
في هذه المرحلة، تبدو هناك أمور مثيرة للاهتمام أشد إلحاحاً، فمثلاً كان مستشارو بايدن قلقين إزاء ضرورة تنظيف قطاع الإقامة بعمق لحماية سكانه الجدد من فيروس «كورونا» لدرجة أن البعض نصح الرئيس بعدم الانتقال إلى البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني)، والبقاء في بلير هاوس، دار الضيافة المجاور الذي من المفترض أن يبقى فيه الرئيس المنتخب وعائلته حتى الثلاثاء.
من جانبه، قال جود ديري، المتحدث باسم البيت الأبيض، إنه «جرى تنظيف جميع المساحات المخصصة لإقامة الأسرة الأولى وتعقيمها في جميع الأوقات، بما في ذلك 20 يناير»، مشيراً إلى مخاوف تتعلق بالأمن والخصوصية، لكنه رفض الكشف عن مزيد من التفاصيل.
جدير بالذكر هنا أن آل بايدن ينوون الانتقال إلى البيت الأبيض في 20 يناير، لكنهم سيفعلون ذلك في أضيق الحدود. على سبيل المثال، ليست لديهم خطط للاستعانة بمصمم ديكورات داخلية على الفور أو الشروع في إضفاء صبغاتهم الفردية على منطقة الإقامة.
من ناحيتها، وصفت بيتي مونكمان، أمينة البيت الأبيض على مدار أكثر عن 3 عقود، والتي ساعدت في الإشراف على الفترة الانتقالية من بيل كلينتون إلى جورج دبليو بوش عام 2001، مثل هذه الفترة بأنها «مجنونة»، مشيرة إلى أنه تتطلب الحاجة بعض الأحيان تحويل غرف الجلوس إلى غرف نوم.
وبحلول موعد انتقال أفراد الأسرة الرئاسية الجديدة، سيكون مسؤولو الجمعية التاريخية المعنية بالبيت الأبيض قد جمعوا كتباً مصورة وصوراً لعناصر من المجموعة الخاصة بالجمعية يمكن استعارتها، بالإضافة إلى مخططات توضيح تقسيمات الغرف كي يتولى آل بايدن مراجعتها.
وعادة ما يبدأ يوم العمل المحموم في 10:30 صباحاً، بعد مغادرة الرئيس والسيدة الأولى لمبنى الكابيتول للمشاركة في فعاليات التنصيب. هذا العام، لا يوجد موكب ولا مأدبة غداء في مبنى الكابيتول، ما يعني أنه قد يجري اختصار وقت إجراءات التنصيب.
يذكر أنه دائماً ما يكون الأمر أكثر إرهاقاً عندما يرحل الرئيس المنتهية فترة ولايته بعد فترة رئاسية واحدة. وعن ذلك، قالت مارشال: «الفائدة التي تمتع بها آل كلينتون أنهم علموا قبل التنصيب أنهم سيرحلون. لذلك لم تكن هناك أي أسئلة، وكانوا قد خططوا بالفعل للانتقال، وحددوا ماذا وكيف سينتقلون».
أما ترمب الذي قضى الفترة الانتقالية في الطعن على نتائج الانتخابات، فلم يكن مستعداً على مغادرة البيت الأبيض، ولم يشغل الأمر اهتمامه كثيراً.
وبشكل عام، فإن مغادرة الرئيس المنتهية ولايته تقليد يتضمن لحظات حلوة، وأخرى مرة بين الرؤساء والموظفين الذين خدموهم. من ناحيته، وبينما كان ينظف خزانة ملابسه خلال ساعاته الأخيرة في البيت الأبيض، جلس كلينتون مع خدمه الشخصيين، وساعدهم على اختيار رابطات العنق الرئاسية التي يودون الاحتفاظ بها. كما نشر بيت سوزا، المصور السابق بالبيت الأبيض، الاثنين، صورة للرئيس السابق أوباما يحتضن المرأة التي كانت تسلمه بريده كل يوم أثناء وداعه البيت الأبيض.
اليوم، ليس من الواضح ما إذا كان ترمب يخطط لتوديع أي من موظفي البيت الأبيض الذين لم يكن على صلة وثيقة بهم قط، قبل رحيله إلى بالم بيتش في وقت مبكر الأربعاء.
ومع ذلك، فإن رحيله المبكر قد يكون هدية لموظفيه الذين سيتاح أمامهم مزيد من الوقت لبدء الاستعدادات المحمومة لاستقبال الرئيس الجديد.
عن هذا، قالت مكبرايد: «النبأ السارّ هنا أن هناك عملية واضحة وقائمة يمكن الرجوع إليها. ويعرف الموظفون جيداً ما يتعين عليهم عمله. كما أن آل بايدن يعرفون البيت الأبيض جيداً والعاملين فيه، فقد سبق لهم الوجود به كثيراً».

*خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)