صورة شاعر... ذكرى قضية

محمود درويش في مصر

المؤتمر الصحافي لدرويش بعد وصوله إلى القاهرة عام 1971
المؤتمر الصحافي لدرويش بعد وصوله إلى القاهرة عام 1971
TT

صورة شاعر... ذكرى قضية

المؤتمر الصحافي لدرويش بعد وصوله إلى القاهرة عام 1971
المؤتمر الصحافي لدرويش بعد وصوله إلى القاهرة عام 1971

ليست القاهرة بالمكان الممتع لنجوم الشِّعر. وأفترض أن العيب ليس في المدينة أو في الشاعر النجم، بل في اجتماعهما!
لا تلبّي القاهرة فكرة الشاعر عن نفسه أو تحقق له صورته التي يراها في المدن الأخرى؛ فبينما يتجمع الآلاف في أمسية لشاعر كبير في مدرج جرش أو استاد اللاذقية الرياضي، لا يتجاوز حضور أمسية شعرية في القاهرة المئات المفردة.
وربما يستريح البعض إلى تفسير ذلك بعلاقة القاهرة بالشِّعر، لكنه يعود في الحقيقة إلى علاقة المدينة بالنجم؛ فهي لا تحب أن تتطلع كثيراً إلى السماء، وتريد من نجومها أن يتعلموا مهارة السير في الشوارع، وتضمن لهم ألا يفقدوا نجوميتهم. نموذجها نجيب محفوظ وعبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل. نجم يحيِّي العابرين ويسأل النادل عن أولاده قبل أن يستريح على كرسيه في مقهى الرصيف.
لهذا سيبقى سوء التفاهم قائماً بين النجوم من شعراء العرب وبين المدينة، لكن علاقة محمود درويش الشاب مع القاهرة تختلف عن علاقة أي نجم أدبي آخر، علاقة أم بابن لم يكمل عدة الرضاع.
وقد كرَّس الكاتب الصحافي سيد محمود كتاباً لاستقصاء هذه العلاقة، صدر أخيراَ عن «منشورات المتوسط» في 335 صفحة، نصفها متنه البحثي والنصف الآخر يضم نصوص مقالات كتبها كبار المثقفين المصريين عن درويش الشاب ومقالاته وحواراته وتغطياته والكثير من الصور.
بحث المؤلف في أرشيفات الدور الصحافية، وأجرى لقاءات مع شهود الوقائع الأحياء عاقداً المقابلات بين الروايات، لتقديم سردية متماسكة ومفصّلة للمرة الأولى عن سنوات احتضان القاهرة للشاعر في بداياته الأدبية. وقد كانت تلك الفترة موضع التباس في الوقائع والتواريخ بالإضافة إلى التباس وضع درويش نفسه بوصفه فلسطينياً يحمل الجنسية الإسرائيلية، والتباس اللحظة السياسية؛ حيث أعدت مصر عبد الناصر خطة استقباله، ووصل إلى مصر السادات!
التباس وضْع درويش، هو التباس وضْع كل الفلسطينيين في الأرض التي صارت إسرائيل بعد النكبة، ووجدوا في الانضمام للحزب الشيوعي الإسرائيلي وسيلة للتعبير عن حقوقهم. ومع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 احتدم النقاش داخل الحزب وكان من نتيجته خروج الأعضاء الفلسطينيين ومعهم نحو 200 إسرائيلي ليشكّلوا القائمة الموحدة «راكاح» وبين أعضائه درويش وزملاؤه من الشعراء الفلسطينيين الذين سيجري تهريب قصائدهم وينحت لهم الروائي غسان كنفاني عام 1966 مصطلح «شعراء المقاومة». ومع النكسة عام 1967 سطع اسم درويش وتوالت دواوينه التي صارت خمسة قبل أن يغادر إسرائيل نهائياً عام 1970.
قبل أن يرى محمود درويش القاهرة كان قد صار نجماً فيها. بدأ الأمر بمقالات الناقد رجاء النقاش الذي نشر في 22 ديسمبر (كانون الأول) 1967، بعنوان «مطلوب محاولة عالمية لإنقاذ هذا الشاعر» واستمر في رهانه على درويش. نشر تالياً قصائد لدرويش في عدد يناير (كانون الثاني) 1968 في مجلة «الهلال»، وقدمها بعنوان «الكلمات أيضاً تقاوم». وقد صنعت «الهلال» برئاسة تحرير كامل زهيري الحدث الأهم في حياة درويش المحاصَر بالعداء، فنشرت ديوانه «آخر الليل» كاملاً في عدد مايو (أيار) من العام ذاته، وتوالت الحفاوة المصرية. محمد إبراهيم أبو سنة ينشر قصيدة بإهداء لمحمود درويش، ويكتب عنه صلاح عبد الصبور مقالاً بعنوان «القديس المقاتل»، وكتب الناقد الفني كمال النجمي مطالباً الملحنين بتلحين قصائده.

حماسة ثم رفض

في البداية كان وضع شعراء المقاومة مفهوماً ودور فلسطينيي الداخل مقدّراً في الحفاظ على الوجود الفلسطيني داخل الكيان الجديد، لكن سيقع الارتباك وتخفت الحماسة العربية مع ظهور اسم محمود درويش ضمن الوفد الإسرائيلي المشارك في مهرجان الشبيبة العالمي بصوفيا عام 1968.
قوبل درويش بعداء سافر من كل الوفود العربية في المؤتمر، وسيتذكر درويش مع سميح القاسم في مراسلاتهما التي نشرتها مجلة «اليوم السابع» في الثمانينات ذكريات النبذ المؤلمة التي تعرضا لها، لكن المصريين كانوا الأقل تشدداً، الأغلبية قبلت التواصل وإن لم تقبل رغبة درويش بإلقاء شعره أمامهم.
في أثناء وبعد المؤتمر قادت صحف عربية حملة ضد درويش وسميح القاسم اللذين سارا تحت العَلَم الإسرائيلي. وتوالت ردود أفعال تجرّم التعامل مع درويش. وفي دمشق صدر قرار رسمي بمنع دواوينه، وقام حزب البعث بفصل الكاتب الفلسطيني فيصل الحوراني لأنه تجرأ واتصل بشبيبة الحزب الشيوعي الإسرائيلي.

بين أنياب الاحتلال

في صوفيا تشبث درويش بفرصة سفر إلى موسكو حيث قضى فترة قصيرة في مدرسة إعداد الكادر الحزبي، عاد بعدها إلى القدس، ثم حاول السفر إلى فرنسا لحضور ندوة جمعية الصداقة الفرنسية العربية، ولم يُسمح له بالدخول، وتجول في أكثر من مطار، حيث التقى في برلين الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) الذي أجرى حواراً مع درويش نشرته مجلة «المصور» المصرية، ومما جاء فيه على لسان درويش: «سمعت سميح يتحدث عن الخروج من إسرائيل إلى البلاد العربية فطلبت منه ألا يفعل ذلك. وقلت له إن قيمتنا أن نبقى هنا... أن نبقى في فلسطين المحتلة نكافح وندافع عن الوجه العربي لأرضنا».
عاد إلى حيفا، وقبل أن يستعد لزيارة موسكو مجدداً صدر أمر باعتقاله في بيته، وخضع للمراقبة، وكان عليه ألا يغادر حيفا، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1969 صار تحديد الإقامة اعتقالاً، استمر حتى أول فبراير (شباط) 1970، ثم سمحت له السلطات بالمغادرة إلى موسكو في الخامس من مارس (آذار)، بموجب منحة للدراسة بمعهد العلوم الاجتماعية.
وفي موسكو أسهم الشاعر معين بسيسو، في بناء مجال عربي لدرويش؛ فعرف حسين مروة ومحمد دكروب وجيلي عبد الرحمن وسهيل إدريس الذي وضع صورة درويش على غلاف مجلته «الآداب» لكنه سيتعرف -عبر بسيسو كذلك- على شخصية استثنائية وهو الدكتور مراد غالب السفير المصري شديد القرب من عبد الناصر، وهو الذي سيرتب فكرة انتقال درويش للعيش في القاهرة.
ويبدو أن سفور أنياب الاحتلال ضد الشاعر التقت مع الظرف السياسي في مصر لترتيب هذه الخطوة. كان عبد الناصر قد رفض عرضاً بإعادة سيناء عبر صلح منفرد، معتبراً ذلك بيعاً لعروبته وتخلياً عن الشعب الفلسطيني، وبدأ في محاولته إنهاض العروبة الجريحة، ومن بين الجهود توثيق التواصل مع فلسطينيي الأرض المحتلة.

صناعة دولة

يرى سيد محمود قصة استقبال درويش في مصر نموذجاً لما يمكن أن تحققه دولة تمتلك مشروعاً سياسياً وثقافياً واضحاً. حسب رواية للسيدة ليلى شهيد، فقد قابل عبد الناصر الشاعر في موسكو، وبعد ذلك أرسل له جواز سفر دبلوماسياً مصرياً، وأمر بأن يعامل الشاعر الشاب معاملة كبار الشعراء. لا يجد سيد محمود مصدراً آخر يرجّح أقوال السفيرة التي كانت مقربة من درويش، ويجد نفياً من صديق آخر له هو السوري فاروق مردم بك. لكن عبد الناصر كان قد زار موسكو مراراً للاستشفاء أو طلب التسليح خلال إقامة الشاعر، وإن كان هذا اللقاء قد تم، ففي الغالب سيكون في زيارة يوليو (تموز) 1970، أي قبل وفاته بشهرين، وبعد أربعة أشهر من وجود درويش بموسكو، وربما يكون قد تعرف في المقابلة ذاتها إلى محمد حسنين هيكل.
وسيلتقي درويش في موسكو تالياً مع أحمد بهاء الدين الذي سيصير فيما بعد أباً روحياً له، وهذا هو وصف درويش له في حواره مع صافيناز كاظم فور وصوله. ويصفه سيد محمود بـ«ميدان كبير من الرحابة الإنسانية والكفاءة المهنية»، وعلى أي حال كان بهاء رئيس تحرير «المصور» وهو من أفرد لرجاء النقاش مساحات تقديم شعراء الأرض المحتلة، وعقب لقائه مع درويش عاد ليكتب عنه: «إنني أب لطفلين، لكنني لم أشعر شعوراً حقيقياً بمعنى فلذة الكبد إلا عندما رأيته. هذا قطعة مني».
عندما أنهى درويش منحته في موسكو اجتمع في سهرة وداعية مع الدارسين العرب، وأكد أنه عائد إلى حيفا، لكنه أعلن لاحقاً أنه وصل إلى القاهرة في التاسع من فبراير 1971 بعد رحيل عبد الناصر الفاجع سبتمبر (أيلول) 1970، ويعتقد فيصل حوراني أن درويش تمكن من تغيير وجهته في أحد المطارات بترتيب من السلطات المصرية ليصل إلى مطار بيروت ومنه إلى القاهرة.
كانت عملية وصوله نصراً سياسياً، ووُضعت الخطة لتجعل منه نجماً. استقبلته مصر الرسمية والثقافية، وتبارت المجلات والصحف والإذاعة في تقديمه، وفي السويس سيلتقي رجال المقاومة. في مقابل ذلك سيبدأ هجومٌ عربيٌّ، كان أشرسه في مجلة «الحوادث» اللبنانية. ويدافع عنه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، مقترِحاً عليه أن يعمل في الإذاعة لتعريف الجمهور بواقع شعبه تحت الاحتلال واستغلال معرفته بالعبرية لكشف الواقع الثقافي في إسرائيل، وسيكون هذا بالفعل أول عمل يزاوله درويش في القاهرة قبل أن يقرر هيكل إلحاقه بالعمل بـ«الأهرام».
لم يبقَ بين مثقفي مصر وصحافييها الكبار مَن لم يحتفِ بدرويش، ولاحقت الصحف أخباره، وبينها خبر عن عكوفه على كتابة فيلم عن الأرض المحتلة يُخرجه شادي عبد السلام وتقوم ببطولته سعاد حسني، لكنّ ذلك الفيلم لم يظهر للوجود. وبعد استقباله في شيراتون انتقل إلى شقة في حي جاردن سيتي الراقي يقطنها توفيق الحكيم. وكان لا بد من حاسدين على التدليل الذي يلقاه درويش، نجيب سرور يقول: «نحن أيضاً شعراء الأرض المحتلة». بينما أطلق الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام أغنية ساخرة.
تقول شهادات المحيطين إن درويش كان متحفظاً في علاقاته مع الناس، والأمر المؤكد أنه يتضايق من الحفلات العامة، وربما كانت رغبته في الحفاظ على صورته وراء تجنبه الانخراط في علاقات واسعة، بينما ترى الكاتبة الصحافية منى أنيس أن تشبث درويش بالعزلة يعود إلى طبيعته الخجول.
على أي حال، يغادر درويش القاهرة منتصف عام 1972، حيث نشرت مجلة «الطليعة» خبر مغادرته إلى بيروت، لكن علاقته بـ«الأهرام» ستستمر حتى 1974عندما بدا اختلاف خيارات السادات للقضية عن خيارات عبد الناصر.
لا يجد سيد محمود تفسيراً مقبولاً لمغادرة درويش بعد أكثر قليلاً من عام، فهل يكمن السبب في فرضية عدم الانسجام بين نجم وضعته مصر الرسمية في السماء، ومدينة تريد أن ترى وتلمس نجومها على الأرض؟



محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب
TT

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر الرائد بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير، وكما يقال فالشاعر نسيج وحده. وهذه التجربة الفنية والعميقة تتيح للناقد والقارئ، على حدٍ سواء، الفرصة للولوج إلى عالمه السراني، وربما الإشراقي، وشبه الكابوسي، من مداخل عدة، تشجع على تقديم مقاربات نقدية وثقافية جديدة من زوايا يتفرد بها البريكان وقصيدته معاً.

فمثلما ظل الشاعر في حياته اليومية حبيس بيته، وربما رهين محبسه الأليف، مثل المعري، كما أشار الشاعر نفسه إلى ذلك في إحدى المرات، ظلت قصائده حبيسة أسراره وشعريته.

هذا التعاضل في الكتابة الشعرية، بقدر ما يشكل معضلة شائكة للناقد، فإنه يتيح له إمكانية الحفر عميقاً في الأُسس اللسانية والمعرفية والفلسفية لتجربة الشاعر. والناقد أمام معضلة القراءة وتفكيك شفرات النص الشعري لشعر البريكان يجد نفسه في امتحان عسير وتحدٍ غير مسبوق، ولذا فهو يجتهد في أن يرى ما لا يرى، ما دام يجد نفسه في حضرة شاعر رؤيوي visionary بكل معنى الكلمة.

الشاعر محمود البريكان شاعر إشكالي problematic، بمعنى أنه لا يستطيع أن يتصالح بسهولة مع العالم الخارجي، ولذا فهو يصطنع له قوة ذاتية وروحية يحتمي بها من الآخر والمجتمع. فهو يعيش بصورة دائمة في حالة اغتراب روحي، حيث نلحظ تماهياً كبيراً بين شخصية الشاعر وشعره. إنه يعاني من «فوبيا» الآخر و«فوبيا» الخارج، معاً، وهذا ما يتجسد بشكل مثير في تجربته الشعرية.

حياة الشاعر وتجربته الشعرية، يعانيان معاً من حالة اغتراب alienation شامل، وهو اغتراب زماني ومكاني وسيكولوجي وفلسفي في آن واحد.

ولذلك لكي يحتمي الشاعر من ضغوط الخارج يصطنع له قوقعة خاصة يتمترس داخها، وهي قوقعة الذات، وقوقعة القصيدة الملغزة، التي تعاني مثل الشاعر حالة انكفاء وإحباط، وخوف يصل حد الرعب من كل شيء. ومثلما كان الشاعر على المستوى الحياتي واليومي يغلق أبوابه أمام الآخرين نراه أيضاً يغلق الأبواب أمام قراء قصائده الذين يضطرون إلى ولوج باب التأويل بحثاً عن الأسرار المخبأة.

شعرية محمود البريكان المركبة تنطوي على عدة طبقات للمعنى والدلالة، وهو ما يدعو الناقد إلى البحث عن مفاتيح جديدة نقدية وسيميائية قد يتمكن بها من فتح مغاليق قصائد الشاعر، التي تبدو أحياناً عصية على البوح والاستنطاق والاستسلام لمجسات النقد.

وتطفو في قصائد الشاعر ظاهرة الاغتراب كواحدة من ثيمات الشاعر المركزية. واستطاع البريكان بفضل هذه الآلية في الكتابة الشعرية، أن يخلق له عبر كتاباته الشعرية وحياته، أسطورته الخاصة، التي لا تشبه غيرها من الأساطير.

ويمكن أن نعد قصيدته «البدوي» مانيفستو اغترابه.

«ضائع في الزمان

ضائع في العوالم

فاقدٌ للبصيص من الذاكرة

سادرٌ في شوارع لا يتذكر أسماءها

تائه في زحام المدن».

ويتوسل الشاعر بالرب أن يساعده في استعادة روحه الضائعة وفي استعادة وجهه الغريب:

«هبني الشجاعة» أن أتأمل وجهي الغريب

أعني لكي أتنفس ثانية في سمائي

لكي أستعيد روائح أرضي

أعني لكي أعثر يوماً على روحي الضائعة

أعني لكي أعبر الفاجعة».

يتقمص البريكان قناع البدوي ومحنته في مواجهة الصحراء والمجهول والضياع، فقد كتب الله ألا يموت هذا البدوي وألا يرى وجهه أحد:

«وجهه الأول المستدير البهي

الذي غضنته المهالك وافترسته الحروب

وحطت عليه المآسي علاماتها». (المجموعة الكاملة، ص150)

إنه يعيش غربة هذا البدوي الذي رفضته الصحارى والقصور

«أنا هو ذاك

أنا البدوي الذي لفظته الصحارى

الذي رفضته القصور

الذي أنكرته الشموس». (ص150)

في هذه القصيدة التي هي قصيدة قناع، يبحث الشاعر عن اسمه ومسقط رأسه، وقد ضاع منه كل شيء.

وفي قصيدة «حارس الفنار» يتقمص الشاعر شخصية حارس الفنار الذي ينتظر على الشاطئ، دون جدوى، سفينة الأشباح:

«أنا في انتظار سفينة الأشباح تحدوها الرياح». (ص51).

لكنه لا يلمح ظلاً لأي سفينة:

«الأفق الطويل خالٍ وليس هناك ظل سفينة». (ص51).

ويعلن أنه «الشاهد الوحيد» الذي رأى كل المآسي والحروب:

«شاهدت ما يكفي وكنت الشاهد الحي الوحيد في ألف مجزرة بلا ذكرى

وقفت مع المساء». (ص53).

ويظل ربما مثل غودو في انتظار عبثي لا نهاية له:

«أنا في انتظار اللحظة العظمى

سينغلق المدار/ سينغلق المدار

الساعة السوداء سوف تُشلُّ تجمد في المدار». (ص54).

وفي قصيدة «تدمير رجل ما» (ص92) يشعر بأنه أمسى غريباً على ذاته، بعد أن ملَّ من الانتظار:

«هنا رجلٌ تم تدميرهُ/ والهب بالسم تفكيرهُ

هنا رجلٌ ملَّ ما ينتظر/ وأمسى غريباً على ذاته

ففي كل ثانية ينشطر

وما من مدى لانقساماته». (ص92).

وفي إحدى قصائده يتحدث الشاعر عن موت الإنسان في داخله خلافاً لبقية المخلوقات، حيث يقترب هذا الموت بغيبوبة الذكرى:

«وحده يموت في داخله الإنسان

في العالم الباطن

في مركز السريرة الساكن

يموت في غيبوبته الذكرى

يموت في لحظة

يكابد القيامة الكبرى». (ص158).

ينظر البريكان إلى العالم عبر منظور فلسفي شخصي اجترحه لنفسه أداةً ومجساً لسبر غور العالم الخارجي. لذا يمكن أن نصفه بالشاعر المتفلسف أو الشاعر الفيلسوف. فكل المرئيات والوقائع والشخصيات تمر عبر عدسة الفيلسوف الشعرية.

وشعر محمود البريكان مغموس بفلسفة شخصية عميقة هي فلسفة الشاعر في الحياة على وفق قيمه وثقافته وخبرته اليومية، حتى ليمكن أن ندرج شعره ضمن الشعر الفلسفي أو الشعر المتفلسف، أو الشعر الذي يحلق بجناحي الخيال والفلسفة معاً.

لو قيض لشعرية محمود البريكان أن تكتشف وتنتشر في وقت مبكر، قبل السياب، أو بالتزامن معه، ربما لأعيدت كتابة تاريخ حداثة الشعر، وجرى التساؤل حول الريادة في الشعر الحداثي في العراق.

يخيل لي أن تجربة البريكان أعمق وأغزر وأخصب من تجارب الكثير من مجايليه وربما يقف، في هذا، منافساً خطيراً للسياب نفسه، وهو يختلف عن السياب الذي كان يفتقد هذا الانغماس في الهم الفلسفي والرؤيوي والكوني، المجرد أحياناً.

تجربة البريكان تبتعد إلى حدٍ كبير عن النزعة الغنائية، التي وجدناها حاضرة أيضاً في شعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، فالشاعر ينحو نحو لون من الموضوعية التي دعا إليها في وقت مبكر في مطلع القرن العشرين الشاعر ت. س. إليوت بوصفها أحد أبرز مقومات الحداثة في الشعر. لكن موضوعية البريكان تنحو منحى أسطورياً ورؤيوياً وفلسفياً أيضاً، ولكنها لا تتجاوز الأطر السردية لحكاية الخلق والتكوين، فهي معجونة بهذه الكينونة السرية التي تتلبس كل شيء.

كما نجد لدى الشاعر، من جهة أخرى، ميلاً إلى التجريد واختزال الكائنات والمرئيات إلى علامات مجردة تتلاشى في سيرورة التاريخ والزمن. واللغة التي هي تشكيل علامي تبدو له مخادعة:

«فزعت من خديعة اللغة

هنيهة؟ من ملمس العالم في القرار

وكتلة الموت الهلامية». (ص198،ج1).

في قصيدة «أسطورة حقيقية»، يشعر الشاعر بالغربة المطلقة، حيث تنكره الأشياء، وينكره الواقع، ويبدو طافياً فوق بحيرة ذاكرة آفلة:

«عدت إلى بيتي

فلم أجد بيتي في مكانه المعهود

وهزّ بي الجميع

رؤوسهم

بيت كهذا لم يكن موجوداً

قلت لهم بيتي أمام الشجرة

كان هنا

قالوا جميعاً ولم تكن هناك يوماً شجرة». (ص215).

ويزداد رعب الشاعر وهو يواجه هذا الإقصاء في المكان والزمان، فراح يتساءل بوجع فاجع:

«والآن ماذا ينبغي علي أن أفعل؟

وكيف لي أن أنسف الذاكرة» (ص 213).

ويتساءل الشاعر بخوف فيما إذا كان كل شيء مجرد عبث. فالأسود والأبيض على حدٍ سواء، عواطف الآباء والأمهات، وقوة اللغات، عبث ليس إلا:

«أكان الحزن والفرح

ذاكرة من التاريخ

وقوة اللغات

جميعها عبث؟» (ص223).

يحس الشاعر أحياناً، بأن العالم قد مزقه مزقاً، فقد جاء أناس واقتسموا جسده، وجاء الأصدقاء فسرقوا هويته، وارتدوا ثيابه:

«وجاء أصدقائي

فاختلسوا هويتي

ثم ارتدوا ثيابي». (ص228).

شعرية محمود البريكان المركبة تنطوي على عدة طبقات للمعنى والدلالة

وفي قصيدة «في إعدام الأبنية» يشعر الشاعر بأنه نسي كل شيء حتى وجهه:

«هل أتذكر بعض الوجوه

هل أتذكر وجهي؟» (ص26).

فالعالم بالنسبة للشاعر مجرد وهم:

«هل يتذكر أحدٌ أحداً

في هذا الأفق المتحرك؟

في هذا العالم

الممحو كوهم؟» (ص261).

وفي قصيدة «ظهور ناقص» يحدد البريكان وظيفة الشاعر السرية،

وحلمه الأبدي، في اقتناص الزمن وتجسيم رؤيته عبر مرايا الزمن:

«إنه حلم الشاعر الأبدي

اقتناص الزمن

أن يجسم رؤيته ودوي عوالمه دفعة واحدة». (ص281).

ومن الثيمات المركزية المهمة في شعر البريكان ثيمة الموت، فكل الأشعار آيلة إلى الموت: الملوك والعبيد والسماسرة كلهم آفلون. ولذا غالباً ما يقترن الاغتراب بالموت:

«الحب والعقاب

دبيب موت خافت ورعشة اغتراب». (ص235).

ويقترن الضياع والاغتراب لدى الشاعر بفقدان الذاكرة، حيث يفقد الشاعر ذاكرته:

«سادرٌ في شوارع لا يتذكر أسماءها

تائه في زحام المدن

يتعثر في حدقات العيون

عسى أن يرى يوماً صديقاً

قديماً سيعرفه

ويعرّفه باسمه

ويساعده في الوصول إلى بيته

والى أهله الشاحبين». (ص339).

ويتمنى الشاعر أن تأتيه الشجاعة ليتأمل وجهه الغريب:

«هبني الشجاعة أن أتأمل وجهي الغريب

أعني لكي أتنفس ثانية في سمائي

لكي أستعيد روائح أرضي

أعني لأعثر يوماً على روحي الضائعة». (ص340).

وأقسى شكل من أشكال الغربة، عند الشاعرعندما يكتشف أنه غريب حتى عن نفسه، ويتحرك بلا وعي أو إرادة:

«مسحوراً بنداء لا يفهمه

منتزعاً في مملكة الأفراح الأرضية

مغترباً حتى عن نفسه

يخطو نحو الباب». (ص348).

ويحتفي البريكان بالأشياء الآفلة، التي تسير نحو الفناء أو التلاشي أو الموت. ففي قصيدة «احتفاء بالأشياء الآفلة» نجد هذا الانشغال بما هو زائل:

«أجمل ما في العالم

مشهده العابر».

ويختتم ذلك بسيرورة الزوال:

«طوبي لك

إن كنت بسيط القلب

فستفهم مجد الأرض».

ثم تأتي الضربة الحاسمة، عندما يعانق الشاعر لحظة الأفول والزوال:

«وجمال أواصر لا تبقى

وسعادة ما هو زائل». (ص358).

يشعر الشاعر هنا أن وجهه لا يشبه أياً من الوجوه، الرجل الذي يحمل هداياه، المريض الداخل غرفة العمليات، الطفل المهزول من الجوع، فهو غريب ولا مكان له في هذا العالم:

«لا يشبهك أحد ولا أمل لك أن تشبه أحداً»

فهو مجرد كائن مُسَجّى، ورقي ليس إلا:

«ليس العالم مكانك،

بل المعجم، فحتى وجهك، ليس هو وجهك». (ص416).

محمود البريكان، مثل طلسم محاط بالأسرار والأقفال، وهو بحاجة إلى جهاز نقدي خاص لتحليل وتفكيك وتأويل شعريته ذات الطبيعة الإشراقية وربما الغنوصية.

محمود البريكان، العصي على الاستكناه، شاعر لم ولن يتكرر في تاريخ الشعرية العراقية، وحان الوقت لكي يستعيد مكانته التي يستحق.


قصص قصيرة من أفريقيا

قصص قصيرة من أفريقيا
TT

قصص قصيرة من أفريقيا

قصص قصيرة من أفريقيا

ضمن سلسلة «آفاق عالمية» التي تصدرها «الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة»، صدرت «أنطولوجيا القصة القصيرة السواحيلية» التي تضم عدداً من النصوص الإبداعية لمجموعة متنوعة من الأدباء مكتوبة جميعاً باللغة السواحيلية التي تميز دول شرق أفريقيا، ترجمة وتقديم الدكتور محمد يسري محمد.

وتتعدد القضايا والهموم التي يطرحها مؤلفو المجموعة، من القتل المجَّاني، وعنف الحروب الأهلية، إلى التعبير الشاعري عن الطبيعة، والتدين الشكلي، ونفاق البعض للسلطة، وتوتر العلاقات الأسرية، وصراع الأجيال، وتبدُّل المفاهيم بين الماضي والحاضر.

وأشار المترجم في مقدمته إلى أن الترجمة هي الوسيلة الأكثر فاعلية التي من خلالها تمتد جسور التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة، لافتاً إلى أن اللغة السواحيلية لغة أصيلة في الشرق الأفريقي تتحدث بها تنزانيا وكينيا وأوغندا ورواندا وبروندي (دول منابع النيل)، كما أنها تعد اللغة الثانية في القارة الأفريقية بعد العربية؛ لافتاً إلى أن السواحيلية تعد كذلك اللغة الأولى لعدد من الأدباء الأفارقة المرموقين الواردة نصوصهم في الكتاب، مثل: كلارا موماني، وشافي آدم، وجون هابوي، وكيالو أميتيلا، وواريا تيمامي، وغيرهم ممن قدموا أعمالاً أدبية في جميع فروع الأدب المكتوب، من قصة قصيرة ومسرح ورواية وشعر.

وتعد تلك المختارات القصصية بمنزلة خطوة أولى على درب الترجمة عن السواحيلية، وما تتضمنه من أدب مجهول لدى القراء العرب، يتماس مع البيئات العربية بشكل أو بآخر، ولا سيما أن الأدب الأفريقي لا يزال خصباً، وفي حاجة إلى مزيد من البحث والتنقيب؛ خصوصاً بعد أن حاز الأفريقي التنزاني عبد الرازق قرنح جائزة نوبل في الأدب عام 2021. ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ في قصة «اللاجئ» للكاتب الكيني جون هابوى:

«حين غادر قطاع الطرق المنزل بعد انتهائهم من جريمتهم الوحشية، غادرتُ الردهة، وتحركتُ في منزلنا الذي أصبح مكشوفاً؛ إذ دُمرت أبواب المنزل كلها، واستطعت أن أرى جثث إخوتي بالإضافة إلى جثة أمي الحبيبة التي توفيت بمرارة شديدة وهي تعض على شفتها السفلى بأسنانها، وعيناها جاحظتان كالتي كانت تحارب العالم الذي أعطاها ظهره.

أصابت جسدي البرودة الشديدة برؤية تلك الجثث، وقفت مصدوماً مدة، حتى سمعت صوتاً من الخارج، فتملَّكني الخوف فجأة، وهرولت خارج المبنى الذي كان منزلنا منذ مدة قصيرة قد مضت.

مررتُ بسرعة ودخلت غابة كانت موجودة أسفل المنزل، وأخفيت نفسي بداخلها. رأيت مجموعة من الخنازير البرية التي تجري هنا وهناك، وقد أدخلت في نفسي حالة من الخوف. تمنيت الهروب إلى مكان آخر بسبب الرعب الذي أدخلته عليَّ تلك الحيوانات ذات الأسنان الحادة البارزة إلى الخارج كالمقص، ولكن أين سأهرب؟ لم يعد هناك أي مكان آخر يُطلق عليه منزل. أصبحت بلا إخوة أو حتى أبوَيَّ، أصبحت وحيداً».


الشاعر البصري والروحية الحداثية

TT

الشاعر البصري والروحية الحداثية

جرى الإعلان منذ أيام عن عرض قريب لفيلم سينمائي جديد لتيرنس ماليك اسمه «طريق الرياح»، يدور حول حياة المسيح، ولذا سنكتب شيئاً عن هذا الذي أسمّيه «الشاعر البصري». هذا الفنان الفريد في تاريخ السينما المعاصرة، يعيد صياغة الوجود عبر الكاميرا والصورة والضوء والإيقاع، ويجعل من الشاشة مجالاً لتجربة تأملية تمسّ تخوم السؤال الفلسفي والروحي معاً. فسينماه لا تُبنى على منطق الحكاية بقدر ما تتأسس على منطق الكشف، ولا تسعى إلى سرد أحداث بقدر ما تفتح أفقاً إدراكياً يُعاد فيه تأمل الحياة بوصفها لغزاً محيّراً، لا حدثاً عابراً. هنا تصبح الصورة ضرباً من التفلسف الصامت، وتغدو اللقطة لحظة انكشاف تتجاور فيها الحساسية الشعرية مع القلق الوجودي.

ينتمي عالم ماليك إلى ذلك النمط من الرؤية، حيث نجد الإنسان كائناً مقذوفاً به في العالم، محمولاً بين حضور هشّ ومصير غامض، وهو ما يقرّبه بوضوح من التصور الهايدغري للدازين، الإنسان المهموم بوجوده، ذلك الكائن الذي لا يعيش العالم بوصفه موضوعاً محايداً، بل بوصفه زمناً منفتحاً على القلق والموت والمعنى المؤجَّل. غير أن ماليك لا يترجم هذه الرؤية بمفاهيم فلسفية مباشرة، رغم أنه أستاذ فلسفة ومترجم، بل يجعلها تتجسد في حركة كاميرا شبيهة بالتنفس، وفي أصوات داخلية هامسة لا تفسّر الواقع بل تلامسه، كمن يمرّ على الأشياء بإصغاء رحيم لا بسطوة تحليلية.

تتجلى السمة الأساسية في فنه في هيمنة الصوت الداخلي، الذي يشبه المناجاة الصامتة أو الصلاة المترددة، حيث لا تتكلم الشخصيات بلسان السرد، بل بلسان الضياع. إنه صوت كائن يبحث عن موضعه بين النعمة والسقوط، بين الطبيعة والروح، بين القسوة والرأفة. هذه الثنائية، التي تظهر بوضوح في «شجرة الحياة» تُحيل إلى تصور أخلاقي عميق يربط سلوك الإنسان بموقعه الوجودي، والصراع ليس بين خير وشرّ بسيطَين، بل بين نمطَين من الوجود: نمط يثقل الروح ويشدّها إلى الأرض، وآخر يفتحها على الضوء واللطف والشفافية.

إن علاقة ماليك بالطبيعة ليست تجميلية ولا توثيقية، بل وجودية في جوهرها، إذ تتحول الأشجار والمياه والغيوم إلى شهود صامتين على هشاشة الإنسان وانكساره الذي كان دائماً يعود، نراه في مرايا تعكس صراعه مع الزمن والفناء. الزمن ليس خطاً متسلسلاً، بل نسيج مشروخ من الذكريات، حيث تتقاطع الطفولة مع الشيخوخة، والحلم مع الواقع، والندم مع الرجاء. هذا التمزق الزمني ليس تقنية سردية فحسب، بل تعبير عن كينونة قلقة لم تعد تثق بتتابع الزمن، بل تعيشه بوصفه تياراً داخلياً متكسّراً.

سينما ماليك تستحضر مناخاً قريباً مما يسميه الصوفية «الليل المظلم للروح»، فهي كثيراً ما تتحرّك في تلك المنطقة الرمادية بين النور والانطفاء، بين الرجاء والتيه، حيث تُمحى السيطرة العقلية وتتفتت الأنا أمام إحساس بحضورٍ أعظم منها. غير أنّ هذا الحضور، بخلاف الخبرة الصوفية، لا يتجلّى في صورة رؤيا ولا يقود إلى يقين ختامي، بل يظهر في صمتٍ طويل وامتداد بصري يجعل المشاهد شريكاً في تجربة التوقف والإنصات والتساؤل، دون أن يَعِده بكشفٍ نهائي أو طمأنينة مكتملة.

من هنا يمكن القول إن تيرنس ماليك لا يصنع سينما بل يبني تجربة وجودية تُرى أكثر مما تُفهم، وتُحسّ أكثر مما تُفسَّر. إنه شاعر بصري يعيد للفن قدرته على التأمل، ويذكّرنا بأن السينما ليست فقط وسيلة للتحدث، بل إمكانية عيش للدهشة، ومدخل إلى مواجهة الذات أمام الزمن والمصير والجمال. إنها تقيم في السؤال، ونحن معه، على تخوم المعنى، حيث يتجاور الضوء مع الظل، والحنين مع الفقد، والإنسان مع هاوية وجوده، في لحظة شفيفة تذكّرنا بأننا لا نعيش لنفهم العالم فحسب، بل لننصت إلى سره الخفي أيضاً. أن ندعه يتكلم.

ومما يميّز تجربة ماليك كذلك ذلك الإصرار على تفكيك مركزية الإنسان وعقله، وإزاحته عن موقع السيادة لصالح رؤية أوسع ترى في الوجود شبكة مترابطة من العلاقات، وليس مسرحاً لهيمنة بشرية مغلقة على ذاتها. فالكاميرا كثيراً ما تنصرف عن الوجه الإنساني إلى تفاصيل مهملة: حشرة تزحف على ورقة، ذبذبة ضوء على سطح ماء، عشب ينحني تحت وطأة الريح. هذه اللقطات ليست زينة جمالية، بل إشارات فلسفية تذكّر بأن الإنسان ليس محور الكون، بل جزء هشّ من نسيج كوني أوسع وأعمق منه.

كما أن الحضور الدائم للموت في أفلامه لا يُقدَّم بوصفه نهاية مأساوية، بل بوصفه أفقاً وجودياً يضفي على الحياة معناها الهشّ والعابر. فالموت عند ماليك ليس قطيعة مفاجئة، بل ظلٌّ صامت يرافق كل لحظة من لحظات الجمال، ويجعلها أكثر شفافية وأشدّ إيلاماً في الوقت نفسه. وهذا الحضور يعمّق البعد الوجودي لفنه، ويضع المشاهد أمام وعي مؤلم بأن كل ما يُحَبّ معرّض للزوال، وأن الجمال ذاته محكومٌ بالتلاشي.

بهذا المعنى، تصبح سينما ماليك ممارسة روحية حداثية، لا تعظ ولا تُبشّر، لكنها تفتح نافذة على ما سمّاه هايدغر «انكشاف الكينونة»، وعلى ما عبّر عنه الصوفيون بوصفه «لحظة تماس مع المطلق»، وعلى ما عبّر عنه إنغمار برغمان بوصفه «صمت السماء أمام صراخ الإنسان». غير أن ماليك يختار طريقاً أكثر رهافة، يمرّ عبر الضوء والسكينة والحنين، لا عبر العنف أو المواجهة أو الانكسار الدرامي الفجّ.

ومن هنا يترسخ موقعه بوصفه شاعراً يجد للشعر وسيلة كاشفة جديدة. لا يكتفي بأن يصوّر العالم، بل يعيد مساءلته من الداخل، ويقترح على المتلقي أن يرى بعين أبطأ، وقلب أرهف، ووعي أكثر استعداداً للدهشة. فمشاهدة أفلامه ليست تجربة استهلاك، بل رحلة بطيئة في عمق الزمن، حيث تذوب الحدود بين الفن والفلسفة، بين الصورة والتأمل، بين الواقع والحلم، ليغدو السؤال نفسه هو الغاية، والدهشة هي المعنى، والإنصات هو الطريق.