هل ينجح «واتساب» في تبديد مخاوف مستخدميه وحسم الصراع مع منافسيه؟

هل ينجح «واتساب» في تبديد مخاوف مستخدميه وحسم الصراع مع منافسيه؟
TT

هل ينجح «واتساب» في تبديد مخاوف مستخدميه وحسم الصراع مع منافسيه؟

هل ينجح «واتساب» في تبديد مخاوف مستخدميه وحسم الصراع مع منافسيه؟

تسبب إعلان تطبيق «واتساب» اعتزامه إجراء تحديث لسياسة الخصوصية يسمح بمشاركة بعض بيانات المستخدمين مع الشركة الأم المالكة للتطبيق «فيسبوك» في حالة من الغضب والقلق لدى مستخدميه على مستوى العالم. وأصبح التطبيق مادة للتقارير الإعلامية، وتعليقات مواقع التواصل الاجتماعي، التي مزجت بين الجدية في شرح عيوب ومميزات التطبيق والسخرية من التحديث، والتي امتدت للتطبيقات المنافسة التي سعت لاستغلال الأزمة لزيادة عدد مستخدميها.
محاولات «واتساب» لطمأنة المستخدمين وصلت إلى حد تأجيل تطبيق التحديث الجديد عدة أشهر، فضلاً عن تساؤلات تتعلق بإمكانية طمأنة التطبيق للمستخدمين الذين اتجه عدد كبير منهم لتطبيقات منافسة. ومن ناحية أخرى، أشار خبراء ومختصون إلى أن «حالة الجدل بشأن (واتساب) تنطوي على نوع من المبالغة غير المبررة»، إلا أنهم في الوقت نفسه يعدونها «دليلاً على زيادة وعي الناس بقضايا الخصوصية والأمان الإلكتروني، وبداية اهتمامهم بقراءة شروط الاستخدام التي عادة ما يوافقون عليها دون قراءة».
إيما سادلر، الخبيرة في قوانين «السوشيال ميديا» مؤسسة شركة «ذي ديجيتال لو» (The digital law) في جنوب أفريقيا، ترى أن «هناك حالة من الهستيريا غير المبررة بشأن تحديث (واتساب) الجديد». وأضافت لـ«الشرق الأوسط» أن «ما تحدث عنه (واتساب) أمر معتاد، وكلنا نعرف أن (فيسبوك) شركة هادفة للربح، فهي ليست جمعية خيرية، بل تبيع لنا خدماتها مقابل معلومات، لا أموال». ثم أوضحت أن «فيسبوك (بصفتها شركة) أنفقت ثروة لشراء (واتساب)، في صفقة بلغت قيمتها 19 مليار دولار أميركي، ومن الطبيعي أن تبحث عن طريقة لاستعادة هذه الأموال، وذلك من خلال مشاركة البيانات مع التطبيق».
وللعلم، كانت شركة «فيسبوك» قد اشترت تطبيق «واتساب» عام 2014، ووعدت مستخدمي التطبيق يومذاك بأنه لا مشاركة لبياناتهم مع الشركة الأم، إلا أن هذا الأمر تغير مع إعلان «واتساب» في الرابع من يناير (كانون الثاني) الحالي اعتزامها تطبيق تحديث يسمح بمشاركة بيانات المستخدمين مع «فيسبوك». وطلبت من المستخدمين الموافقة عليه، وإلا ستعلق حساباتهم بحلول 8 فبراير (شباط) المقبل. لكن الشركة اضطرت إلى تأجيل التحديث إلى 15 مايو (أيار) المقبل، إثر موجة من الغضب والجدل من جانب المستخدمين. وقالت «فيسبوك» إنها «ستعمل خلال هذه الفترة على توضيح المعلومات الخاطئة بشأن التحديث». وبحسب بيان للشركة، تعهدت بأن «هذا التحديث يوفر شفافية أكبر حول جمع المعلومات واستخدامها».
هنا، تشرح سادلر أن «التحديث يسمح لـ(واتساب) بمشاركة معلومات تتعلق برقم الهاتف وقائمة المصادر والموقع ونوع الهاتف والبطارية، وهو ما يعني مثلاً أنه عند الحديث مع شخص بكثرة على (واتساب)، قد تجد اسمه في قائمة ترشيحات الصداقة على (فيسبوك)... غير أن مخاوف الناس بشأن مشاركة محتوى الرسائل غير صحيحة، إذ لدى (واتساب) خدمة تشفير -أو ترميز- الرسائل من الطرفين، وهو ما يعني أن الرسالة تكون مشفرة من جانب المرسل، ولا تفك هذه الشفرة إلا عند الطرف الثاني من المحادثة، وبالتالي فلا مبرر للرعب».
وفي أي حال، فإن الجدل الدائر بشأن سياسة الخصوصية الجديدة وصل إلى حد تحذير بعضهم من استخدام التطبيق. وحول هذا الأمر، قال ناڤين ناير، الرئيس المؤسس لموقع «كاونتراد» الهندي المتخصص في إنتاج محتوى لمكافحة «الفكر المتطرف»، لـ«الشرق الأوسط» إن «هذا التحديث يثير كثيراً من الجدل في الهند. بيد أن التخلي عن التطبيق صعب، خاصة أننا نستخدمه في التواصل المهني... والسؤال حول الخصوصية يتعلق بجميع مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت جزءاً مهماً من حياة الأفراد».
وبدوره، حاول «واتساب» خلال الأيام الماضية طمأنة المستخدمين الذين يصل عددهم إلى ملياري شخص، وذكر أن «التطبيق مبني على فكرة بسيطة، وهي أن من تشاركه مع عائلتك وأصدقائك يبقى بينكم، وهذا يعني أن التطبيق يحمي المحادثات الخاصة بخاصية التشفير من الطرفين، ولذلك لا يحتفظ (واتساب) بسجلات لمن تتحدث مهم. كذلك لا يطلع (فيسبوك) أو (واتساب) على جهات اتصال الشخص أو المواقع التي شاركها». وتابع «واتساب» موضحاً أن «التحديث لن يغير من هذه الخصائص، بل سيضيف خدمة جديدة للرسائل المتعلقة بالأنشطة التجارية، وهو ما يوفر مزيداً من الشفافية حول كيفية جمع المعلومات واستخدامها».
هنا، توضح إيما سادلر أنه «من المفترض أن تهدئ خاصية تشفير المحادثات من الجانبين المستخدمين... الذين بمقدورهم منع (واتساب) من معرفة موقعهم أو حالتهم، من خلال ضبط إعدادات التطبيق. فليس مبرراً أن يحذف الناس (واتساب)، بينما يستخدمون (فيسبوك) و(ماسنجر) و(إنستغرام) في الوقت نفسه، وكلها مواقع وتطبيقات تابعة للشركة نفسها، وهي تجمع معلومات أكثر عن المستخدمين».
وتشير سادلر إلى أن هناك «عدداً من المنصات البديلة لـ(واتساب)، لكن المشكلة تكمن في جلب الأشخاص الذين تريد التحدث معهم أو مراسلتهم إلى هذه المنصات، ذلك أن هذه المنصات أيضاً ستبحث عن طريقة لتحقيق عوائد مالية، فتطبيق (تلغرام) مثلاً تحدث عن سعيه لتحقيق عوائد مالية من الإعلانات في المستقبل».
لكن وفقاً لشركة «سنسور تاور» المتخصصة في تحليل التطبيقات، يبدو أن محاولات الطمأنة «لم تفلح في إزالة مخاوف بعض الذين اتجهوا بالفعل إلى تطبيقات منافسة، حيث جرى تحميل تطبيق (سيغنال) 17.8 مليون مرة خلال الفترة بين 5 و12 يناير (كانون الثاني) الحالي، بزيادة بلغت 61 ضعفاً عن الأسبوع السابق الذي شهد 285 ألف عملية تحميل، بينما جرى تحميل تطبيق (تلغرام) 15.7 مليون مرة في الفترة نفسها، ليضاعف عدد مرات التحميل عن الأسبوع السابق التي بلغت 7.6 مليون مرة. وهذا بينما تراجع عدد مرات تحميل تطبيق (واتساب) ليسجل 10.6 مليون تحميل، مقابل 12.7 مليون في الأسبوع السابق».
وحقاً أشعلت حالة الجدل المنافسة التجارية، واستغلت التطبيقات المنافسة الوضع، فنشر تطبيق «تلغرام» تغريدة على حسابه بـ«تويتر»، يسخر فيها من التحديثات الجديدة لـ«واتساب»، ويشبهها بمشهد «جنازة راقصة». وقال بافل دوروف، مالك تطبيق «تلغرام»، في بيان صحافي يوم 12 يناير (كانون الثاني) الحالي، إن «التطبيق شهد إضافة 25 مليون مستخدم خلال 72 ساعة، ليصل عدد المستخدمين إلى 500 مليون مستخدم. هذه زيادة ملحوظة في مقابل العام الماضي، عندما كان عدد المستخدمين الجدد لا يتجاوز 1.5 مليون يومياً».
وأردف دوروف: «التطبيق شهد أكثر من مرة، منذ ظهوره قبل 7 سنوات، زيادات مطردة في عمليات التحميل، لكن هذه المرة مختلفة، فالناس ما عادت ترغب في التفريط في خصوصيتها مقابل خدمات مجانية، وما عادت تقبل بأن تكون أدوات للتلاعب بها».
وبحسب دوروف، فإن «(تلغرام) أصبح الملاذ لمن يبحثون عن الخصوصية والأمان». واحتفى بـ«انضمام رؤساء دول للتطبيق، وهم رئيس البرازيل، ورئيس وزراء تركيا، إلى جانب مجموعة من الرؤساء الذين كانوا يستخدمون التطبيق من قبل، وهم رؤساء دول وحكومات المكسيك وفرنسا وسنغافورة وأوكرانيا وأوزبكستان وتايوان وإثيوبيا وإسرائيل».
وعلى صعيد متصل، وفر تطبيق «سيغنال» ملصقات بلغات متعددة تُمكن المستخدمين من إرسالها إلى جميع جهات اتصالهم، تشير إلى انتقالهم إلى «سيغنال». ونشر تغريدة مع رابط أغنية، وجرى تحميل التطبيق من قبل 1.3 مليون مستخدم الاثنين الماضي، بعدما كان عدد مرات تحميل التطبيق لا يتجاوز 50 ألفاً يومياً، وفقاً لموقع «أبتوبيا» المتخصص في تحليل بيانات التطبيقات. وقال مراقبون إنه مع «زيادة الإقبال على التطبيق الذي يعده الخبراء الأكثر أماناً -إذ لا يشارك سوى رقم الهاتف فقط- بدأ التطبيق يعاني من الضغط على خوادمه، وأعلن عن وجود مشكلات تقنية قال إنه يعمل على حلها، وزيادة سعة خوادمه لمواجهة حجم الإقبال المتزايد».
هذا، وقد ساهمت تغريده للملياردير الأميركي إيلون ماسك، يوم 7 يناير (كانون الثاني) الحالي، دعا فيها إلى استخدام «سيغنال»، في زيادة الإقبال على التطبيق، إضافة إلى رفع أسهم شركة صغيرة تدعى «سيغنال أدفانس» توجه الناس لشراء أسهم فيها اعتقاداً منهم أنها شركة «سيغنال» للمراسلات، وهو ما دفع تطبيق «سيغنال» إلى كتابة تغريدات وبيانات أوضح فيها أن «هذه ليست شركته، وأن طريقة الاستثمار فيه عبر التبرعات».
وتبرر سادلر حالة الجدل والخوف بـ«زيادة الوعي لدى الناس بأهمية الأمان الإلكتروني والخصوصية، وهو أمر جيد ومهم، ونتمنى أن يزيد في المستقبل»، كما تقول. ومن جانب ذي صلة، يواجه التطبيق تحديات قانونية، بعد تقديم التماس قضائي في المحكمة العليا بالهند في 14 يناير (كانون الثاني) الحالي، يتهم السياسة الجديدة لـ«واتساب» بـ«مراقبة المستخدمين، وتهديد الأمن الهندي». ولا يعرف ناير ما إذا كانت هذه الدعوى القضائية في الهند -السوق الضخمة بنحو 400 مليون مستخدم- ستتمكن من تغيير سياسة الخصوصية، أم أن «واتساب» سينجح في إقناع مستخدميه بسياسته الجديدة.


مقالات ذات صلة

مبادرة «انسجام عالمي 2» تُطلق «أيام الثقافة البنغلاديشية» في الرياض

عروض ثقافية وفنية متنوّعة شهدها اليوم الأول من الفعالية (واس)

مبادرة «انسجام عالمي 2» تُطلق «أيام الثقافة البنغلاديشية» في الرياض

أطلقت وزارة الإعلام السعودية فعاليات «أيام الثقافة البنغلاديشية» ضمن مبادرة «انسجام عالمي 2»، التي تُقام بالتعاون مع هيئة الترفيه بحديقة السويدي في الرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق من احتفاء مقر شبكة «الشرق» في الرياض بمرور 5 سنوات على انطلاقتها

«الشرق» تحتفي بـ5 سنوات من النمو والريادة

تحتفي شبكة «الشرق» التابعة لـ«المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)» بـ5 سنوات على انطلاقتها، في محطة فارقة لمسيرتها أعادت خلالها رسم ملامح الإعلام العربي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق داخل استوديو القناة (الشرق للأخبار)

قناة «الشرق» تثبت حضورها عربياً بعد 5 سنوات من إطلاقها

أتمّت «الشرق للأخبار» التابعة لـ«المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام» (SRMG) خمس سنوات على انطلاقها عام 2020 لتتحول من «قناة» إلى «شبكة» متعدّدة المنصات.

«الشرق الأوسط» (الرياض - لندن)
الولايات المتحدة​ مقر «بي بي سي» في لندن (إ.ب.أ) play-circle

محامون يطالبون «بي بي سي» بسحب تحرير خطاب لترمب أو مواجهة دعوى

ذكرت «هيئة الإذاعة البريطانية» أنها تسلمت خطاباً من الرئيس الأميركي دونالد ترمب يهدد فيه باتخاذ إجراءات قانونية ضدها بسبب إجراء الهيئة تعديلات في خطاب له.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق المنتدى شهد حضور أكثر من 2500 صحافي عربي وأجنبي (إدارة المنتدى)

«منتدى مصر للإعلام» يختتم دورته الثالثة باستطلاع «الطريق الصحيح» للمهنة

اختتم منتدى مصر للإعلام، مساء الأحد، فعاليات نسخته الثالثة، محاولاً استطلاع «الطريق الصحيح» للمهنة.

فتحية الدخاخني (القاهرة)

«منتدى مصر للإعلام» يستشرف شكل المهنة في 2030

جلسة في منتدى مصر للإعلام (الشرق الأوسط)
جلسة في منتدى مصر للإعلام (الشرق الأوسط)
TT

«منتدى مصر للإعلام» يستشرف شكل المهنة في 2030

جلسة في منتدى مصر للإعلام (الشرق الأوسط)
جلسة في منتدى مصر للإعلام (الشرق الأوسط)

في ظل جدل متجدد بشأن تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في صناعة الإعلام، عقد «منتدى مصر للإعلام» نسخته الثالثة في القاهرة محاولاً استشراف مستقبل المهنة، ورافعاً شعاراً يحمل تساؤلاً بشأن قدرة الإعلام المؤسسي على الاستمرار ومواكبة التحديات التكنولوجية.

تحت عنوان «2030: من سيتسمر؟» حاول خبراء وقيادات إعلامية وضع تصور لشكل الإعلام في العام 2030. وبينما تباينت الآراء بشأن طبيعة وحجم تأثير الذكاء الاصطناعي، وما إذا كان يجب توظيفه في إنتاج المحتوى، رهن الخبراء بقاء الإعلام المؤسسي بقدرته على مواكبة التحولات الرقمية والتكنولوجية المتسارعة.

جوهر التحدي

وحقاً، شددت نهى النحاس، رئيسة «منتدى مصر للإعلام»، على أن «جوهر التحدي اليوم يتمثل في تحقيق التوازن بين التكنولوجيا والمهنية، مع الحفاظ على الاستقلالية والربحية في بيئة إعلامية تتغير بوتيرة غير مسبوقة». وقالت في كلمتها خلال الافتتاح، إن «المنتدى يفتح الباب أمام نقاشات معمّقة حول مستقبل الإعلام، ويطرح سؤالاً بشأن من يمتلك القدرة على البقاء والتكيف مع التطور التكنولوجي المتسارع».

«المنتدى» عُقد بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة، تزامناً مع تركيز المنظمة على «بناء مناخ صحي للمعلومات، بدلاً من التركيز فقط على مكافحة التضليل وخطاب الكراهية»، بحسب ميليسا فليمنغ، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للتواصل العالمي.

ولفتت فليمنغ في كلمتها خلال حفل الافتتاح، إلى أن «منصات التواصل الاجتماعي أصبحت مصدراً رئيساً للأخبار، خصوصاً بين الشباب» ونبهت إلى أن «تلك المنصات غالباً لا تقدّم محتوى موثوقاً به؛ ما يضع عبئاً على المستخدمين في تمييز الحقيقة من التضليل». ومن ثم حذّرت من «تأثير المعلومات المضلّلة على السلام وحماية البيئة والثقة بالمؤسسات»، مشيرةً إلى «تراجع الثقة في وسائل الإعلام التقليدية».

وبالفعل، يشير العديد من الدراسات إلى تراجع مستمر لمستوى الثقة في الأخبار، تزامناً مع زيادة مطّردة في الاعتماد على منصّات التواصل الاجتماعي المختلفة مصدراً للأخبار والمعلومات».

الإعلام... كيف تغير؟

المناقشات الافتتاحية شهدت محاولة للإجابة عن سؤال «كيف تغير الإعلام؟»، وقال طارق نور، رئيس مجلس إدارة الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية في مصر، إنه «في عصر الآلة وإنترنت الأشياء أصبح السؤال الملح، هل سنتحكم في الآلة، أم هي من ستتحكم فينا؟». وأردف أن «الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين، فإما أن يُستخدم في خدمة الحقيقة، أو يُوظّف لتضليلها»، معوِّلاً على «وعي الجمهور لحسم هذه المعادلة».

ورغم المخاوف من تحكم الذكاء الاصطناعي في المهنة، قال نور إن «الحل ليس في مقاومة الآلة، بل في إنتاج محتوى يجمع بين التكنولوجيا والفكر الإنساني».

أما مايا سبليني، مديرة تحرير القسم العربي في قناة «فرانس 24»، فقالت إن «الذكاء الاصطناعي لا يقدّم معلومات موثوقاً بها؛ ما يثير إشكاليات أخلاقية عند استخدامه». وتابعت أن «انتشار المعلومات المضلّلة والتزييف العميق يضيفان مسؤولية وعبئاً أكبر على العمل الإعلامي في سبيل التحقق من المعلومات». ورأت أن «المهنة لن تموت، بل سيتعزّز دورها، وسيكون أساسياً بشكل أكبر مهما بلغت التغيرات التكنولوجية».

أما كارولين فرج، نائبة رئيس شبكة «السي إن إن» العالمية ورئيس تحرير خدمتها العربية فقالت إن «نحو 95 في المائة من مخرجات الذكاء الاصطناعي صحيحة، لكن تبقى نسبة 5 في المائة في خانة المغامرة التي قد تمسّ المصداقية... ومن ثم فالتحقق من المحتوى مسؤولية الإعلامي أولاً». وأضافت: «التدقيق هو جوهر العقد بين الوسيلة الإعلامية والقارئ، وأساس الثقة والمصداقية في العمل الصحافي... والبقاء سيكون لتلك المؤسسات التي تواكب التغيير وتتبع أساليب تحريرية أقرب إلى الجمهور».

نهى النحاس تلقي كلمتها (إدارة المنتدى)

دمج التكنولوجيا بالإعلام

وفي مداخلته، شدد فوتر فان تونغرين، الرئيس التنفيذي لـ«آر إن تي سي» الهولندية على «ضرورة دمج التكنولوجيا في العمل الإعلامي، لكن مع وعي كيفية استخدامها واستغلالها كأداة مساعدة في العمل... فعلى الإعلام المؤسسي أن يدرك أن الطرق التقليدية لن تكون فاعلة في المستقبل».

ومن ثم، اختتم الإعلامي المصري، عمرو عبد الحميد، الجلسة الافتتاحية، فقال: «ليست هناك إجابة واحدة عن سؤال كيف تغيّر الإعلام؟... لكن الجميع يتفق على أن جوهر الإعلام لم ولن يتغير».

2500 حضروا من مصر والعالم

جدير بالذكر، أن نحو 2500 صحافي من مصر والعالم حضروا «المنتدى»، الذي تنوّعت جلساته بين تشخيص الوضع الراهن، ومحاولة استشراف المستقبل، مع تقديم ورش عمل متنوعة عن أدوات الإعلام الجديد من الذكاء الاصطناعي إلى الواقع الافتراضي والمعزز وغيرهم.

وفي جلسة تحت عنوان «أصوات عالمية»، ركز المشاركون على أن المهنة ستبقى لكن شكلها سيتغيّر. وقالت صفاء فيصل، رئيسة تحرير البرامج الإخبارية في «هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) إن «الإعلام كائن حيّ، يحسّ ويتفاعل وينمو... ومن هذا المنطلق، تواجه المؤسسات الإعلامية تحديات كبرى أمام زحف الإعلام الرقمي وهيمنة المؤثرين ووسائل التواصل، فضلاً عن الأزمات المالية وعزوف الجمهور عن متابعة الأخبار».

في حين لفتت سها سيباني، رئيسة الإنتاج التنفيذي في «فرانس 24» إلى أن «منصات التواصل الاجتماعي أدوات يمكن من خلالها تطوير الأداء الإعلامي... والصحافة ستبقى لكن شكلها سيتغير ليلائم التطورات التكنولوجية».

بل إن الاشتراكات وطرق الدفع للأخبار ستتغير، وفق مادلين وايت، المديرة التنفيذية لشركة «ذي أوديينسر»، التي ذكرت أن «تحديد نوع الاشتراكات المناسب للوسيلة الإعلامية يتوقف على نوعية الجمهور»، مشددة على «ضرورة دراسة الجمهور وقياس اتجاهاته».

الذكاء الحر

من جهة ثانية، طرح «المنتدى» مفهوم «الذكاء الحر» مستعرضاً كيفية الاستفادة من التكنولوجيا في خدمة المهنة. وقال عماد الدين حسين، رئيس تحرير جريدة «الشروق» المصرية، إنه «ما لم تتفوّق الآلة على العقل البشري، فلا داعي للخوف من الذكاء الاصطناعي».

بينما أشار فادي رمزي، أستاذ الإعلام الرقمي في الجامعة الأميركية بالقاهرة، إلى أن «الذكاء الاصطناعي يمكن أن يدخل في مختلف مراحل إنتاج المحتوى الإعلامي تحت إشراف العنصر البشري»،

ولفت الدكتور ياسر عبد العزيز، الكاتب والباحث في شؤون الإعلام والاتصال، إلى أن «الإفراط غير الواعي في الذكاء الاصطناعي يؤدي أحياناً إلى إغراق المستخدمين بمحتوى رديء يفسد التفكير، كما أن استبدال العنصر البشري في الإعلام دون تبصّر خطر يهدّد جودة المضمون»، مؤكداً أن «الاستخدام الماهر من قبل الإنسان هو الضامن للحفاظ على المحتوى الهادف».

التعليم والتدريب

ولم يغب التعليم والتدريب عن «المنتدى»؛ إذ ركزت إحدى جلساته على أهمية تطوير طرق تدريس الإعلام مع الاهتمام بتدريب الإعلاميين، وفي هذا السياق نفذ المنتدى تدريباً لنحو 60 طالباً من مختلف الجامعات المصرية نفذته شبكة «سي إن إن» الدولية. وقالت الدكتورة ميرفت أبو عوف، عميد كلية الفنون البصرية وإدارة الإبداع، جامعة ESLSCA، إن «سوق العمل أصبحت مختلفة كلياً؛ ما يستدعي الاستثمار في التدريب لتأهيل جيلٍ يستطيع التعامل مع التغيّرات المتسارعة، والحفاظ على حقوق الملكية الفكرية».

هذا، وعلى مدار اليومين كان «الذكاء الاصطناعي» محوراً رئيساً في كل الجلسات، حتى إن لم يحمل عنوان الجلسة كلمة «الذكاء الاصطناعي»، لكن ما أحدثه من تغيرات في المشهد الإعلامي وفي طرق إنتاج المحتوى جعله هاجساً أساسياً لدى العاملين في المهنة.

وأخيراً، ونظراً لترابط السياسة والإعلام، حملت واحدة من جلسات «المنتدى» عنوان «غزة... التغطية مستمرة»، وأكد المتكلمون على «أهمية أنسنة القصص الصحافية بعد وقف الحرب»، معتبرين أنه بعد صمت المدافع «يعلو صوت الكارثة الإنسانية في القطاع».


اختفاء آلاف المتابعات على «إكس» يثير تساؤلات بشأن سياسات المنصة

شعار منصة "إكس" فوق أحد مقراتها في سان فرانسيسكو (رويترز)
شعار منصة "إكس" فوق أحد مقراتها في سان فرانسيسكو (رويترز)
TT

اختفاء آلاف المتابعات على «إكس» يثير تساؤلات بشأن سياسات المنصة

شعار منصة "إكس" فوق أحد مقراتها في سان فرانسيسكو (رويترز)
شعار منصة "إكس" فوق أحد مقراتها في سان فرانسيسكو (رويترز)

أثار التراجع المفاجئ في أعداد المتابعين على منصة «إكس» خلال الفترة الماضية، تساؤلات واسعة في أوساط المُستخدمين والصحافيين والمؤثرين بشأن سياسات المنصة، بعدما لاحظ كثيرون «اختفاء آلاف المتابعات». وفي حين أرجعت المنصة السبب في هذا الاختفاء إلى حملات «تنظيف» تستهدف «الحسابات الوهمية وغير النشطة»، عدّ خبراء ما يحدث يعكس «تحولاً خفيّاً» في سياسات الخوارزميات التي تتحكم في مدى انتشار المحتوى ووصوله إلى الجمهور.

عدد من الخبراء الذين تواصلت معهم «الشرق الأوسط» أقرّوا بوجود ارتباك متزايدٍ بين المُستخدمين والمؤسسات في فهم آليات «إكس» الجديدة. وقال بعضهم إن «سياسات المنصة، غير الشفافة – وفق وصفهم – تسببت في تراجع غير مسبوق في معدلات التفاعل، التي كانت حتى وقت قريب معياراً رئيساً لشعبية المستخدمين وفاعلية حضورهم الرقمي».

منصة «إكس»، التي يملكها إيلون ماسك أغنى أغنياء العالم، كانت قد حذّرت خلال العام الماضي مُستخدميها من اختفاء بعض متابعيهم، إثر حملة أطلقتها بحجة التخلص من الحسابات «المزعجة» والآلية (البوتات) و«تنظيف التطبيق من محاولات التلاعب بالمحتوى وانتهاكات سياسات المنصة».

وادعت الشركة، عبر حساب «إكس سيفتي» الرسمي المعني بالسلامة الرقمية، أن مكافحة الرسائل المزعجة كانت من أولويات ماسك منذ استحواذه على المنصة عام 2022.

لكن يبدو أن الأمور لم تسر على هذا النحو، إذ أفاد تقرير لموقع «تك كرانش» بأن «الإجراء لم ينجح في وقف نشاط الحسابات المزيفة، بل ظهرت حسابات جديدة تحمل العلامة الزرقاء نفسها حتى بعد فرض رسوم على ميزة التوثيق». وكان الأمر اللافت جداً، هو الانخفاض الملحوظ في أعداد المتابعين لدى كثير من المستخدمين، سواء أكانوا مؤسّسات أم مؤثّرين، من دون سبب واضح.

الدكتور حسن مصطفى، أستاذ التسويق الرقمي والذكاء الاصطناعي في فرع جامعة روتشستر للتكنولوجيا (الأميركية) بدبي، قال إن «هذا الانخفاض في عدد المتابعين، لا سيما لدى المؤسسات الصحافية، يعود إلى عدة أسباب». وشرح: «كان ماسك قد صرّح سابقاً بأن الروابط لا تحظى بالاهتمام، وأن الأفضل نشر محتوىً طويل مباشرة على إكس ما قلّل النقرات والإحالات إلى المواقع الإخبارية».

وأضاف أن حذف عناوين الأخبار من الروابط أيضاً، كما ذكرت «الواشنطن بوست»، خفّض بوضوح انتشار المحتوى الإخباري وقابلية المتابعة، في حين أشار تقرير وكالة «رويترز» السنوي إلى «تراجع إحالات وسائل التواصل عموماً إلى المواقع الإخبارية بما في ذلك إكس».

من جهة ثانية، يرى مصطفى أن تغير سلوك المستخدمين ساهم بدوره في الأزمة، إذ «باتت فئات من الجمهور أقل اعتماداً على إكس كمصدر أخبار مقارنة بمنصات أخرى، خاصة في ظل العلاقة بين ماسك والرئيس الأميركي دونالد ترمب، ما عمّق الانقسام وغيّر أنماط التفاعل».

من جانبه، أرجع مهران كيالي، الخبير في إدارة وتحليل بيانات وسائل التواصل الاجتماعي، سبب اختفاء المتابعين إلى «إصرار ماسك على تغيير استراتيجية الشركة جذرياً». وأردف أن «ماسك حوّل إكس، بالفعل، من منصة للنشر والتواصل الاجتماعي إلى منصّة خدمية متعددة الأغراض، ما انعكس على طبيعة المحتوى وسلوك المُستخدمين. ثم إن ضخامة المبلغ المدفوع في صفقة الاستحواذ دفعت الشركة إلى التركيز على تحقيق الربحية بسرعة، ما أثر على أولويات التطوير وتجربة المستخدم».

وأشار كيالي إلى أن «الصعود السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي ومنصات الفيديو المتخصصة جذب اهتمام المستخدمين والمستثمرين بعيداً عن المنصات التقليدية، وأدى إلى انخفاض الوقت الذي يمضيه المستخدمون على تلك المنصات». وأضاف أن «القيود الحكومية المفروضة على بعض أنواع المحتوى، أثّرت بدورها على وصول المحتوى الإعلامي أو الإخباري للمُستخدمين، الأمر الذي ساهم في تراجع التفاعل العام».

بيانات «إكس»... غير شفافة

كيالي أوضح أن المؤسّسات تمتلك أدوات تحليل متقدمة لقياس الوصول والتفاعل «غير أن البيانات الدقيقة المتعلقة بخوارزميات إكس تظل غير شفافة... كما المنصة نفسها لا تقدّم تفسيراً واضحاً للأسباب الفعلية وراء انخفاض الوصول، وهو ما يدفع المؤسسات إلى الاعتماد على الملاحظة والمقارنة بدلاً من بيانات رسمية».

ما يُذكر أنه خلال عام 2024 شجّعت منصة «إكس» المُستخدمين على تسجيل الدخول بانتظام للحفاظ على نشاط حساباتهم، مؤكدة حينذاك أن «الحسابات التي لا تُستخدم لفترات طويلة قد تُزال نهائياً من المنصة».


الجريمة... مشاهدة عالية ومصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")
من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")
TT

الجريمة... مشاهدة عالية ومصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")
من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")

شهدت وسائل الإعلام الفرنسية خلال العقد الأخير تحوّلاً جذرياً في طبيعة المحتوى الذي تقدّمه للجمهور. فقد انتقلت قضايا القتل والحوادث الجنائية من مجرد أخبار هامشيّة تحتل حيزاً ضئيلاً في النشرات الإخبارية، إلى ظاهرة إعلامية كاسحة تستحوِذ على اهتمام ملايين الفرنسيين. بل إن بعض المراقبين ما عادوا يترددون في وصف هذا الاهتمام بـ«الهَوَس الجماعي»، وهو وصف تدعمه أرقام المشاهدة الخيالية، والمبيعات القياسية للمجلّات المتخصّصة، والملايين من المتابعين على المنصّات الرقمية.

غير أن هذه الظاهرة لم تعُد مقتصرة على الحيِّز الإعلامي فحسب، بل تجاوزته لتصبح أداة سياسية فعّالة تستخدمها مختلف الأطراف السياسية لتحقيق مكاسب انتخابية وتمرير أجندات معيّنة، ما بات يثير تساؤلات جوهرية حول تأثير هذه التغطية المكثّفة على المجتمع الفرنسي ومنظومته القيَمية.

شعار "المعهد الوطني للسمعي البصري" INA (إينا)

الأرقام المُذهلة

الأرقام لا تكذب، وهي تؤكد بما لا يدَع مجالاً للشكّ أن القضايا الجنائية أصبحت جزءاً أساسياً من النظام الإعلامي للفرنسيين. فقد كشف استطلاع رأي أجرته مؤسسة «فيافوس» بمناسبة «المؤتمر السنوي للصحافة» في مدينة تور، بوسط فرنسا، عام 2025، عن أن 69 في المائة من الفرنسيين يتابعون بانتظام التغطية الإعلامية للحوادث والقضايا الجنائية. والأكثر دلالة أن 71 في المائة من هؤلاء المهتمّين يبحثون بشكل استباقيّ ومتعمّد عن معلومات حول القضايا الجنائية، بينما يتابع 26 في المائة منهم هذه الأخبار بشكل يوميّ ومُنتظم.

هذه المؤشّرات تنفي الزَّعم القائل بأن الاهتمام بالجريمة مجرّد فضول عابر أو اهتمام سطحي، بل هو سلوك متجذِّر وعميق يشكِّل جزءاً من الروتين اليومي لشريحة واسعة من المجتمع الفرنسي.

وعلاوة على ذلك، أكّد 62 في المائة من المُستجوَبين أنه «من الضروري» أن يتطرّق السياسيون إلى الحوادث الجنائية في خطاباتهم وبرامجهم، ما يوضح كيف تحوّلت هذه القضايا من مواضيع إعلامية بحتة إلى قضايا ذات أبعاد سياسية واجتماعية تشكّل الرّأي العام وتؤثّر في الخيارات الانتخابية.

التوسّع الكمّي في التغطية الإعلامية

من جهة ثانية، كشفت دراسة أخرى أجراها «المعهد الوطني للسمعي البصري» (INA) في فرنسا عن تطوّر مثير للقلق، فقد ازدادت حصّة الحوادث الجنائية في المساحة التحريرية لوسائل الإعلام بنسبة 73 في المائة بين عامي 2002 و2021.

هذه الزّيادة الهائلة تعني أن ما يقرُب من ثلاثة أرباع المساحة الإضافية في النشرات الإخبارية والبرامج أصبحت تخُصص لتغطية الجرائم والحوادث.

وتكشف المعطيات الجديدة عن منطق تجاريّ واضح، هو أن مثل هذه البرامج تحقّق نسب مشاهدة عالية، وبالتالي، تجني عوائد إعلانية ضخمة. وهذا ما يفسّر التفاوت في تغطية القنوات، فبينما تكاد الحوادث الجنائية تنعدم في القنوات العمومية والثقافية، كقناة «آر تي» الثقافية التي تخصّص أقل من 1 في المائة للأخبار الجنائية، فإنها تمثّل أكثر من 9 في المائة من تركيبة القنوات الإخبارية الخاصة كقناة «تي إف أو إم 6» مع تركيز خاص على أعمال العنف ضد الأشخاص، ولا سيما النساء والأطفال. وللعلم، هذا التفاوت ليس عبثياً، بل يعكس نموذج التمويل والضّغوط التجارية التي تخضع لها كل قناة. ذلك أن القنوات الأكثر اعتماداً على المنطق التجاري والإعلانات - إضافة إلى وسائل الإعلام المحلّية - تميل إلى منح حيّز أكبر لهذا النوع من الأخبار.

السبب بسيط، وهو أن الحوادث الجنائيّة سهلة الإنتاج، بسبب تعاون المصادر الأمنية والقضائية بسهولة مع الصحافيين، الأمر الذي يجعل كلفة إنتاج هذا المحتوى منخفضة بالمقارنة مع كلفة إنتاج التحقيقات الاستقصائية الأخرى، كما أن أرباحها كبيرة.

شعار قناة "دوبل في 9" (آ ف ب/غيتي)

مصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

وبالفعل، غدت البرامج المتخصّصة في القضايا الجنائية مصدر إيرادات رئيس للقنوات الصغيرة بفضل أرقام المشاهدة الاستثنائيّة التي تحقّقها. وكمثال، هناك قناة «آر إم سي» التي استطاعت أن تتصدر المشهد لسنوات بفضل برنامج «أدخلوا المتهم»، وهو برنامج انطلق عام 2000 ووصل إلى موسمه السادس والعشرين عام 2024.

ويتناول هذا البرنامج القضايا الجنائية الكبرى في فرنسا، مستعيناً بإعادة تمثيل الأحداث وشهادات المحقّقين والخبراء، مع أسلوب سردي درامي يُصور في ديكورات مُظلمة توحي بالغموض.

الأرقام كشفت عن أن حلقات الموسم الثالث والعشرين من البرنامج حققت نحو 513.000 مشاهدة لكل حلقة، وهذه أرقام وإن بدت متواضعة مقارنة بالبرامج الترفيهية الكبرى، فإنها استثنائية بالنسبة لقناة صغيرة.

الوضع نفسه ينطبق على قناة صغيرة أخرى تدعى «دوبل في 9» التي نجحت بفضل برنامج «تحقيقات جنائية» في تحقيق نسب مشاهدة عالية؛ إذ سجلت حلقة من ديسمبر (كانون الأول) 2020 رقماً قياسياً هو 1.3 مليون مشاهدة، مع متوسط نِسَب مشاهدة عامة تصل إلى 600 ألف في الحلقة الواحدة. هنا أيضاً يقدّم البرنامج تحقيقات معمّقة في قضايا جنائيّة معقدة، مع تركيز خاص على الجوانب الإنسانية والنفسيّة للجرائم، وقد تكون استمرارية البرنامج لأكثر من 15 سنة، على الهواء، دليلاً قاطعاً على نجاحه التجاري وقدرته على الاحتفاظ بجمهوره.

قنوات أخرى كبيرة، مثل «تي إف1» و«كنال بلوس» و«فرانس 2»، لم تتخلف عن الركب، بل أطلقت هي الأخرى برامج متخصّصة، أو أفردت حيّزاً كبيراً ضمن برامجها الوثائقية لتغطية القضايا الجنائية، في سباق محموم للاستحواذ على حصّة من هذه السوق الإعلامية المربحة.

يوتيوب: ثورة رقمية في تغطية قضايا الإجرام

على صعيد موازٍ، إذا كانت القنوات التلفزيونية التقليديّة قد استثمرت بكثافة في برامج الجريمة، فإن منصّات التواصل الاجتماعي، وتحديداً «يوتيوب»، شهدت ثورة حقيقية في هذا المجال.

صانعو المحتوى الرقمي أدركوا مبكّراً حجم الطلب الجماهيري على القصص الجنائية، وتمكّنوا من بناء إمبراطوريات إعلامية مستقلّة تنافس القنوات التقليديّة. موقع «ترو كرايم» الفرنسي سجّل وجود أكثر من 67 قناة فيديو متخصّصةً في محتوى الجريمة، ما يعكس حجم هذه الصناعة الإعلامية الناشئة.

«ماك سكيز»

في هذا السياق، يُعد صانع المحتوى الفرنسي الشاب «ماك سكيز» النموذج الأبرز لهذا النجاح الرقمي؛ إذ أطلق قناته على «يوتيوب» عام 2018، وفي غضون ست سنوات فقط، وصل عدد المُشتركين إلى ما يقارب مليوني مشترك بحلول عام 2024، وهذا رقم يفوق حجم جمهور العديد من البرامج التلفزيونيّة المتخصّصة. ثم إن محتواه الأسبوعي يحصد بانتظام ملايين المشاهدات، ما يجعله أحد أنجح صانعي المحتوى الفرنسي على الإطلاق.

طبعاً، هذا النجاح لم يأتِ من فراغ، ذلك أن كل حلقة تحتاج لما بين 7 و10 أيام من البحث والتحضير، ويعمل معه فريق محترف يضمّ محرّرين للفيديو، وخمسة رسّامين، وثلاثة فنّانين متخصّصين في الرسوم الثّلاثية الأبعاد.