حين انقضت «الطيور» على البشر بلا سبب ظاهر

مصدران لواحدٍ من أهم أفلام هيتشكوك

TT

حين انقضت «الطيور» على البشر بلا سبب ظاهر

خلال قرابة 60 سنة، تداول أكاديميون ونقاد ومخرجون ومنظرون وأساتذة جامعات، أفلام ألفرد هيتشكوك المختلفة؛ خصوصاً تلك التي حققها من عام 1948 (حبل) وحتى عام 1963 (الطيور)، مروراً بأفلامه الأخرى في هذه الفترة الثرية من حياته السينمائية، وشملت: «غريبان في قطار» (1951)، و«نافذة خلفية» (1954)، و«فرتيغو» (1958)، ثم «شمال شمالي- غرب» (1959)، ووصولاً إلى «سايكو» (1960)، من بين أفلام أخرى.
«الطيور» كان آخر أفلام هذه الحقبة؛ إذ تبعته خمسة أفلام (حتى سنة 1976) لم يصل أحدها إلى قيمة الأفلام المذكورة أعلاه، وإن حافظت على مقادير الإجادة عموماً. وكون «الطيور» كان آخر أفلام أهم مراحل هيتشكوك الإبداعية، جعله - وأفلام أخرى - مصدر اهتمام كبير لدى دارسي سينما المخرج والمعجبين به.
«الطيور» هو فيلم الرعب الوحيد لهيتشكوك الذي تناول نوعاً معيناً من المخلوقات التي تبدو أليفة، أو على الأقل غير متوحشة، لتنقلب فجأة إلى مصدر خوف وموت. نجاحه الكبير كعمل جماهيري من ناحية، وكفيلم مبدع من ناحية ثانية، كان بداية تدافع هوليوود لإنتاج أفلام حول كل شيء تعرفه الحياة المدنية والريفية من مخلوقات مألوفة الحضور تنقلب إلى متوحشة. فكان هناك «الضفادع» و«الوطاويط» و«الجرذان» و«النمل» و«الكلاب» و«النحل» و«العناكب» و«الديدان» و«الأرانب»، وكل ما يخطر على بال من اعتاد وجود هذه المخلوقات بيننا كتحصيل حاصل.

- مصادر مختلفة
أصول فيلم هيتشكوك الثامن والأربعين نبعت من مصدرين: واحد واقعي، والآخر أدبي.
في الشهر الثامن من سنة 1961 هاجمت ألوف الطيور، ولسبب غامض؛ بلدة سانتا كروز، على ساحل ولاية كاليفورنيا. قيل إن الضباب الكثيف جعلها تفقد قدرتها على الرؤية، فارتطمت بالمباني والنوافذ، ما يعني أن الهجوم لم يكن عن عمد؛ لكن هذه النظرية لم تجد ما يؤكدها، وبقي الحدث بلا تفسير علمي معروف.
أثارت اهتمام ألفرد هيتشكوك هذه الحادثة، وتذكر أن لديه حقوق رواية قصيرة كانت الكاتبة الروائية دافني دو مورييه قد وضعتها قبل سنوات، وتتحدث عن هجوم طيور على منزل في مزرعة نائية. وفي كل الأحوال وجد المخرج الذي كان يبحث عن مشروع جديد يضاهي به فيلمه السابق «سايكو» (1960) في الجمع بين الحادثة الواقعية والرواية الخيالية ضالته، واتصل بكاتب سيناريو «سايكو»، جوزف ستيفانو، لكي يشركه في المشروع الجديد؛ لكن ستيفانو لم يتحمس له. هنا اتصل بالروائي إيفن هنتر وطلب منه كتابة سيناريو الفيلم.
في مطلع شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1961، أنجز هنتر سيناريو فيلم «الطيور»، وأرسله إلى هيتشكوك. في الثلاثين من الشهر نفسه، بعث هيتشكوك إلى الكاتب رسالة بثه فيها ملاحظاته على السيناريو. فقد اعتبره طويلاً؛ خصوصاً في نصفه الأول، ويشكو ضعفاً في تطور شخصياته (خصوصاً شخصيتي بطليه). انتقدت الرسالة مشاهد اعتبرها هيتشكوك لا داعي لها. كتب: «هي ليست أكثر من وصلات بين المشاهد الأساسية» وهو أمر كان هيتشكوك يرفضه. مشاهد «لا شكل لها»، كما كتب في رسالته.
الفيلم بالنسبة لهيتشكوك كان عليه أن يكون مثيراً من البداية وإلى النهاية. الفيلم الذي يفشل في ذلك هو من خارج سرابه. لم يكن التشويق، بالنسبة إليه، فعلاً مرحلياً، ولم يكن انتقائياً حسب المشهد الذي يحدث فيه هجوم أو قتل أو حالة اعتداء؛ بل عليه أن يكون منتشراً طوال مدة العرض من دون تراجع. وإذا ما شاهدنا «الطيور» من جديد فسندرك مقصد هيتشكوك؛ بل مدرسته كلها.
قام هنتر بالتغييرات المطلوبة، وفي مطلع ربيع عام 1962 بوشر التصوير، وامتد حتى منتصف صيف العام ذاته، مسجلاً بعض الصعوبات في التنفيذ. لم يكن من السهل مثلاً تطويع الطيور لكي تتصرف على أي نحو وحسب، أنهكها المخرج كلما لم يعجبه تصرف، أو وجد أنه بالإمكان تحسين أحد المشاهد ليؤدي غرضه. من بين المصاعب أن بطلة الفيلم تيبي هدرن التي اختارها المخرج عندما شاهدها في دعاية تلفزيونية، لم تكن تعرف أي شيء يُذكر عن التمثيل، لذلك كتب هيتشكوك لاحقاً: «كل أداء لها، كل لمحة، من صنعي».

- أتون المواجهة
يفتح هيتشكوك فيلمه على شارع في مدينة سان فرنسيسكو. ميلاني (تيبي هدرن) تنظر إلى السماء؛ حيث تتكاثر طيور سوداء زاعقة. نظرتها متسائلة عن السبب الذي يُثير هذه الطيور على هذا النحو، ثم تمضي خطوات قليلة وتدخل محل بيع طيور في الوقت الذي يخرج فيه رجل قصير بدين مع كلبين صغيرين. إنه هيتشكوك ذاته. هناك تلتقي بالمحامي ميتش (رود تايلور) الذي سيكون السبب وراء قيام ميلاني بزيارته في بلدته الساحلية الصغيرة.
ستختفي هذه الطيور لنحو عشرين دقيقة، خلال ذلك تكون ميلاني خلالها انتقلت لزيارة ميتش ووالدته وشقيقته في بلدته بمناسبة عيد ميلاد شقيقته الصغيرة.
ستمضي من الفيلم 52 دقيقة قبل أن نشهد الهجوم الفعلي الأول للطيور على البشر. يحدث ذلك بينما تحضر ميلاني حفلة عيد ميلاد الشقيقة في المنزل القائم خارج البلدة (فوق لسان بحري). في الحفلة هناك أم ميتش (جسيكا تاندي) وآني (سوزان بليشيت) المدرسة في مدرسة «بوديغا باي» للأطفال، وعدد من الأطفال وأمهاتهم. إنه هجوم سريع وخاطف، ويتم تدبير مدخل له (فتاة تلعب الاستغماية بعصابة على عينيها، وتعتقد أن أحد الأولاد رمى شيئاً على رأسها). تنال المفاجأة من الجميع؛ لكن لا إصابات كبيرة. هذه متروكة لمشاهد أخرى لاحقة.
قبل هذا المشهد هناك توطين الحكاية في موقعها المكاني والعاطفي: آني تحب ميتش من طرف واحد. كانت على علاقة وثيقة به؛ لكنها تعتقد الآن أن والدته ليديا هي التي تسببت في إبعادها عنه. تصف لها رد فعلها كلما التقت آني بها، وهو رد الفعل الحذر والبارد ذاته الذي ووجهت به ميلاني عندما التقت بأم ميتش للمرة الأولى.
ستعترف الأم بأن موقفها هو خوفها من البقاء وحيدة إذا ما تركها ابنها وتزوج من امرأة أخرى. لكن في رحى هذه الدقائق سيبدو الفيلم كما لو أنه دراما اجتماعية- عاطفية. صحيح أن قصة الحب ليست موجودة تحت أي تقاليد محتملة أو معتادة؛ لكن هيتشكوك (وكاتبه، وربما باستيحاء من رواية دو مورييه) يشتغلان على هذا المنحى الدرامي الخالي من حدة التشويق لما قبل نصف مدة الفيلم (119 دقيقة) قبل أن يضع كل شخصياته في أتون من المواجهة والدفاع عن النفس ضد إرهاب الطيور.
عندما يقع الهجوم الكبير الأول ترتفع حدة الفيلم لتبلغ قمة تأثيرها؛ لكن مزيداً من هجمات الطيور يكمن في ذلك النصف الثاني من الفيلم، وهو النصف الذي تبرز فيه الأسئلة حول ما الذي يمكن أن ترمز إليه تلك الطيور؟ لماذا تهاجم البشر؟ هل هناك علاقة بين ميلاني وبين تلك الطيور، إذ بدأت هجماتها مع وصول ميلاني إلى البلدة؟
تبقى الأسئلة في الأذهان طويلاً، وتتعدد الإجابات والتحليلات في كل مرة يتم فيها إعادة النظر إلى هذا الفيلم البديع.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

البحرية الأميركية تهدي توم كروز أعلى وسام مدني

توم كروز مع الجائزة (أ.ب)
توم كروز مع الجائزة (أ.ب)
TT

البحرية الأميركية تهدي توم كروز أعلى وسام مدني

توم كروز مع الجائزة (أ.ب)
توم كروز مع الجائزة (أ.ب)

حصل الممثل توم كروز على أعلى وسام مدني من البحرية الأميركية، اليوم الثلاثاء، عن «مساهماته الفنية المتميزة في البحرية ومشاة البحرية» في فيلم «Top Gun» وأفلام أخرى.

ووفقاً لـ«رويترز»، حصل كروز، في أثناء عمله بالمملكة المتحدة، على جائزة الخدمة العامة المتميزة من وزير البحرية الأميركي كارلوس ديل تورو في حفل أقيم في استوديوهات لونغ كروس بالقرب من لندن.

وقال الممثل البالغ من العمر 62 عاماً إنه فخور بتلقي «التقدير الاستثنائي» الذي جاء مع ميدالية وشهادة.

وقال كروز: «أنا معجب بكل العسكريين... أعرف أن القيادة تعني الخدمة، وأرى ذلك في العسكريين».

ومن جهتها، قالت البحرية إن كروز «زاد من الوعي العام والتقدير لأفرادنا المدربين تدريباً عالياً والتضحيات التي يقدمونها في أثناء ارتداء الزي العسكري».

لقد حقق فيلم «Top Gun» الذي صدر عام 1986 نجاحاً كبيراً، وهو يدور حول أبطال الطيران في أثناء الحرب الباردة وجعل من كروز نجماً، كما أدى إلى زيادة كبيرة في أعداد الملتحقين بالجيش.

تجدد الاهتمام بالفيلم عام 2022 «Top Gun: Maverick»، حيث قام كروز بإلهام جيل جديد من الطيارين النخبة.

وقالت البحرية إن الفيلم التكميلي «أعاد الحنين إلى الجماهير الأكبر سناً فيما استهدف بشكل كبير اهتمام الجمهور الأصغر سناً بالمهارات والفرص التي يمكن أن توفرها البحرية».