«أوبك»: فهم الملك عبد الله لسوق النفط ساهم في استقرار الأسعار بعد 2008

ما يحدث اليوم في سوق النفط يشبه كثيرا ما حدث في عام 2008 عندما انهارت الأسعار بشكل فجائي وكبير وفي غضون أشهر بسيطة. ولا يمكن أن تتذكر منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في نفس العام دون أن تذكر اجتماع جدة للطاقة الذي دعا إليه الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في صيف ذلك العام وجمع فيه الدول المستهلكة والمنتجة للنفط، لبحث حلول للارتفاع الجنوني لأسعار النفط في تلك السنة.
لقد كان اجتماع جدة الذي عقد يوم 22 يونيو (حزيران) 2008 دليل على السياسة النفطية المعتدلة التي تنتهجها المملكة والتي تراعي دوما مصالح الدول المستهلكة قبل الدول المنتجة، إذ إن الهدف الرئيسي الذي كانت وما زالت تسعى إليه المملكة هو أن يظل النفط في حدود سعر مقبول يشجع على نمو الاقتصاد العالمي والاستهلاك ولا يضر بالمستهلكين وأن يكون سعرا مشجعا كذلك للمنتجين في أن يواصلوا الإنتاج والاستثمار.
وها هي «أوبك» في رحيل الملك عبد الله تتذكر ذلك الدور الذي لعبه في تلك السنة التي وصلت فيها أسعار النفط إلى أعلى مستوى لها في تاريخها عند 147 دولارا في شهر يوليو (تموز) قبل أن تنهار وتهبط إلى أقل من 40 دولارا قبل نهاية العام.
وقالت «أوبك» في نعي رسمي لها عن الملك عبد الله: «لقد كان لفهمه العميق للسوق النفطية الأثر البالغ في استقرار أسعار النفط حيث دعا في عام 2008 إلى اجتماع عالمي لمناقشة المضاربات الحادة في السوق والتقلبات في الأسعار والذي كان المحفز في استقرار الأسعار للسنوات التي تلت ذلك الاجتماع».
وأضافت «أوبك» في نعيها أن العالم فقد «مثالا للحكمة والموعظة، الأمر الذي مكنه من قيادة المملكة على المستوى الداخلي والخارجي بكل جدارة». وساهم الملك عبد الله في دعم مسيرة «أوبك»، حيث استضافت المملكة قمة ناجحة لرؤساء الدول الأعضاء في المنظمة في عام 2007.
وحتى بعد مرور كل تلك السنوات لا يزال خطاب الملك في اجتماع جدة أحد أهم محطات السياسة النفطية السعودية، إذ إنه في ذلك الاجتماع واجه ارتفاع الأسعار من خلال مبادرة لتأسيس صندوق الطاقة للفقراء بمبلغ مليار دولار لمساعدة الدول النامية في الحصول على الطاقة وإقامة المشاريع التنموية.
وأعلن في كلمته التي ألقاها في افتتاح الاجتماع عن تقديم السعودية مبلغ نصف مليار دولار كقروض ميسرة عن طريق الصندوق السعودي للتنمية لمساعدة الدول الفقيرة في مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة.
وأكد استعداد السعودية لزيادة طاقتها الإنتاجية لتلبية الطلب العالمي على النفط وتوفير أي إمدادات نفطية ضرورية في المستقبل، لافتا إلى التزام المملكة بسياستها النفطية المتوازنة منذ إنشاء منظمة أوبك وانتهاجها سياسة عادلة لا تضر بالمنتجين والمستهلكين على حد سواء بما يحقق مصالح العالم كله.
وأشار حينها إلى أن السعودية و«أوبك» بشكل عام تعرضت للهجوم والأذى رغم التزامها بهذه السياسة التي خصصت لتنفيذها جزءا كبيرا من الدخل القومي لتحقيق المشاريع التنموية في مجال الطاقة. ومن أجل تحقيق الاستقرار للسوق النفطية فقد رفعت المملكة الإنتاج من 9 ملايين برميل إلى 9.5 مليون برميل يوميا في ذلك الوقت.
ودافع الملك عبد الله عن «أوبك» حين قال: «وعلى رغم هذه الحقائق وعلى رغم أن (أوبك) لم تصدر قرارا بالتسعير منذ عقود طويلة وتركت مسألة السعر للسوق وعلى رغم أنها حرصت على تلبية الطلب المتزايد إلا أننا نجد من يشير بأصابع الاتهام إلى (أوبك) وحدها».
وعزا الملك الراحل حينها الارتفاع في أسعار النفط إلى المضاربات لتحقيق مصالح أنانية وزيادة الاستهلاك في الاقتصادات الصاعدة وكذلك الضرائب المتصاعدة في عدد من الدول المستهلكة مشيرا إلى حرص «أوبك» على عدم التدخل في السوق لتحديد الأسعار.
وأكد العاهل السعودي أن مهمة المشاركين في الاجتماع تتمثل في كشف اللثام عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الارتفاع في أسعار النفط دون الالتفات إلى الأقاويل والإشاعات المغرضة وعرضها بكل شفافية ووضوح على الرأي العام العالمي حتى يطلع على الحقيقة كاملة.
وقال مخاطبا الدول المنتجة والمستهلكة: «في ضوء ذلك تتضح مهمتكم الكبيرة وهي كشف اللثام عن وجه الحقيقة، مهمتكم هي أن تستبعدوا الأقاويل والإشاعات المغرضة وأن تصلوا إلى الأسباب الحقيقة الكامنة وراء ارتفاع السعر وكيفية التعامل معه وأن يكون ذلك بوضوح وشفافية، وأن تعرض النتائج على شعوب الدنيا كلها حتى لا يؤخذ البريء بجريرة المسيء وبحيث لا يصح إلا الصحيح».
وترجم وزير البترول السعودي علي النعيمي رسالة الملك عبد الله في خطابه إلى خطوات عملية عندما أعلن عن أن المملكة سترفع من طاقتها الإنتاجية إلى 12.5 مليون برميل يوميا لتحقيق الاستقرار للسوق العالمية من خلال توفير كميات أكبر من النفط لمواجهة نمو الطلب العالمي.
وقال النعيمي حينها: «ومع إننا نملك قدرة فعلية على المحافظة على استمرار الزيادة الحالية التي أضفناها إلى مستويات الإنتاج دون عناء لعدة سنوات أخرى، فإن المملكة ستواصل تنفيذ مجموعة مشاريع جديدة لزيادة طاقتها الإنتاجية من الزيت الخام وهي المشاريع التي من شأنها أن تزيد الطاقة الإنتاجية القصوى للمملكة إلى 12.5 مليون برميل في اليوم بنهاية العام القادم (2009)». وأضاف النعيمي: «وسوف يمكننا ذلك من مواصلة الحفاظ على طاقتنا الإنتاجية الاحتياطية، لمصلحة استقرار السوق العالمية ولمصلحة الجميع».
ولم تتوقف المملكة في تطمين السوق بذلك الحد بل أبدت استعدادها لرفع الطاقة إلى 15 مليون برميل يوميا، إذا ما دعت الحاجة من خلال مجموعة من المشاريع الكبرى المستقبلية التي ستحقق زيادة إنتاجية إجمالية قدرها 2.5 مليون برميل في اليوم. وشملت تلك المشاريع المحتملة برنامج زيادة الإنتاج بمقدر 900 ألف برميل في اليوم من حقل الظلوف وبمقدار 700 ألف برميل في اليوم من حقل السفانية وبمقدار 300 ألف برميل في اليوم من حقل البري، وبمقدار 300 ألف برميل في اليوم من حقل خريص وبمقدار 250 ألف برميل في اليوم من حقل الشيبة.
واليوم لا يزال العالم يدين بالفضل لسياسة المملكة التي اتخذتها في ذلك الوقت في الاستثمار في الطاقة الإنتاجية، إذ إنه من خلال إبقاء طاقة احتياطية فائضة تقدر بنحو 3 ملايين برميل يوميا حاليا تستطيع السعودية أن تتدخل في السوق لسد أي عجز كبير من أي منتج، إذ إن الطاقة الاحتياطية الفائضة للمملكة تقارب إنتاج دول كاملة نفطية في «أوبك» مثل الكويت وأقل قليلا من العراق أو إيران.
لقد رحل عام 2008 ورحلت تلك الأزمة الخانقة ولكن ما فعلته المملكة تحت قيادة الملك عبد الله منذ ذلك الحين والسياسة النفطية المعتدلة التي انتهجتها هي الباقية في ذاكرة السوق وفي ذاكرة الأمانة العامة لـ«أوبك» والتي قالت عنه في نعيها: «لقد خسر العالمان العربي والدولي قائدا مغوارا. وإنه لا يخفى على الجميع أن الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله قد حاز طيلة حياته الحافلة بالنجاح بدعم ومحبة الشعب السعودي».