مصر لتطوير «بني حسن» الأثرية بالتعاون مع المعهد الهولندي

تضم 39 مقبرة من الدولة الوسطى

مصر لتطوير «بني حسن» الأثرية بالتعاون مع المعهد الهولندي
TT

مصر لتطوير «بني حسن» الأثرية بالتعاون مع المعهد الهولندي

مصر لتطوير «بني حسن» الأثرية بالتعاون مع المعهد الهولندي

في محاولة لتنشيط حركة السياحة، ووضع مزارات جديدة على خريطة الجولات السياحية، إضافة إلى المزارات التقليدية في القاهرة والأقصر وأسوان، تعتزم مصر، ممثلة في وزارة السياحة والآثار، البدء في مشروع لتطوير منطقة آثار «بني حسن»، بمحافظة المنيا (صعيد مصر)، بالتعاون مع المعهد الهولندي بالقاهرة.
وتمهيداً لبدء مشروع التطوير، زار وفد من الوزارة والمعهد المنطقة أمس، وقالت إيمان زيدان، مساعد وزير السياحة والآثار لتطوير المتاحف والمواقع الأثرية، إن «مشروع التطوير يتضمن وضع لوحات إرشادية في الموقع توضح تاريخ المقابر الأثرية الموجودة به، وعمل مسارات للزيارة، مع الالتزام بضوابط السلامة الصحية، إضافة إلى توفير خدمات سياحية مثل كافيتريا ودورت مياه ذاتية التنظيف، ومطبوعات عن المنطقة بعدة لغات»، مشيرة إلى أن «هذه هي المرحلة الثانية من مشروع التعاون بين الوزارة والمعهد الهولندي، حيث شملت المرحلة الأولى تدريب عدد من الآثاريين على الأسلوب العلمي لإدارة وتطوير الخدمات السياحية بالمتاحف والمواقع الأثرية على يد خبراء هولنديين، وتنظيم زيارات ميدانية لعدد من المواقع الأثرية لدراسة الوضع الراهن لتلك المواقع، ووضع مقترحات لتطويرها، حيث وقع الاختيار على منطقة بني حسن الأثرية لتطبيق الجزء العملي من المشروع».
وتقع منطقة آثار بني حسن في الجهة الشرقية من نهر النيل، على بعد 20 كيلومتراً من مدينة المنيا، وسميت بهذا الاسم نسبة لإحدى القبائل العربية التي سكنت المنطقة، وتضم 39 مقبرة صخرية لحكام الإقليم السادس عشر من أقاليم مصر العليا الذي يرمز له بحيوان الوعل، وتعود جميع المقابر لعصر الدولة الوسطى (1650-2055 قبل للميلاد).
ومن المقابر الـ39، هناك 4 فقط مفتوحة للزيارة، وهي مقابر خيتي وباقت الثاني من الأسرة الحادية عشرة، وخنوم حتب الثاني وأمنمحات من الأسرة الثانية عشرة، بحسب جمال أبو بكر، مدير عام آثار مصر الوسطى، الذي أوضح في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «خيتي هو حاكم إقليم الوعل، من الأسرة الحادية عشرة، وتضم مقبرته مناظر للمصارعة والتدريبات العسكرية، والحلاقة، والزواج، وصناعة الذهب، والعلاج الطبيعي. أما خنوم حتب الثاني، فهو حاكم الإقليم من الأسرة الثانية عشرة، قائد الجيوش بالصحراء الشرقية، وتضم مقبرته نقوشاً توضح زيارة الآسيويين (عائلة إبشا) إلى مصر، ومناظر لصيد الطيور والأسماك والحيوانات الصحراوية، وعلاج الماشية، ورحلة الحج إلى أبيدوس، وصناعة الأثاث المنزلي، وصناعة السفن، إضافة إلى السيرة الذاتية لصاحب المقبرة»، مشيراً إلى أن «العالم الإنجليزي بيرس نيوبري هو أول من نشر عن آثار المنطقة في الفترة من عام 1898 حتى 1900».
وتتطلب زيارة مقابر بني حسن صعود درج طويل جداً، وهو ما يجعل زيارتها مرهقة بعض الشيء، وفقاً لخبراء الآثار، وهو ما دفع وزارة السياحة والآثار لوضع مشروع تطوير يتضمن تحديد مسار للزيارة يتيح للسائح الصعود من سلم لزيارة المقابر الأثرية مرة واحدة، والنزول من سلم آخر تكون في نهايته بازارات وخدمات سياحية، لكن المشروع لم يتم تنفيذه حتى الآن بسبب عدم توافر الاعتمادات المالية اللازمة له، وفقاً لمسؤولي الآثار. وكانت هناك أفكار تتعلق بإنشاء تلفريك أو مصاعد كهربائية، لكن الدراسات الهندسية أثبتت صعوبة تنفيذها في الوقت الحالي.
وتنقسم مقابر بني حسن الأثرية إلى قسمين: الأول المقصورة، ويضم النقوش الأثرية، وهو الجزء المفتوح للزيارة؛ والثاني غرفة الدفن الموجودة أسفل بئر يصل عمقه أحياناً إلى 24 متراً، وعادة لا تكون منقوشة.
ولا تقتصر عمليات التطوير في المنيا على منطقة بني حسن، حيث أوضحت زيدان أنها «بحثت مع وفد المعهد الهولندي إمكانية استغلال منطقة البازارات والكافتيريات والممشى والساحات الفارغة الممتدة على طول نهر النيل في متحف المنيا في تقديم الخدمات السياحية للزائرين لكي تكون تجربتهم ممتعة ثرية بالمعلومات عن الحضارة المصرية العريقة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)