مايكل أبتد... مخرج جيد رحل بلا ضجيج

رصد حياة الناس خيالاً وواقعاً

بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»
بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»
TT

مايكل أبتد... مخرج جيد رحل بلا ضجيج

بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»
بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»

المخرج مايكل أبتد، الذي توفي في السابع من هذا الشهر، كان من بين السينمائيين الكثيرين الذين أنجزوا أفلاماً جيدة نالوا عليها مدحاً مُستحقاً، لكن كان عليهم البرهان على جدارتهم في كل عمل لاحق.
لم يكن صاحب مدرسة ولا حتى أسلوب فني لا يُضاهى، لكنه كان جيداً في معظم ما حققه من أفلام وكثير منها، في الثمانينات والتسعينات سجل نجاحاً تجارياً كبيراً كحال فيلم «العالم ليس كافياً” (The World is Not Enough) واحد من الأفلام الأربعة التي قام بيرس بروسنان فيها بأداء شخصية جيمس بوند، وذلك سنة 1999.
وٌلد أبتد في مدينة أيلسبوري في إنجلترا بتاريخ العاشر من فبراير (شباط) 1941. درس مايكل أبتد في البداية القانون والتاريخ في جامعة كامبردج، إنجلترا. لكنه عندما اختار العمل بدأ كاتباً لمشاريع تلفزيونية سنة 1963. في عام 1964 عمل مساعداً لمخرج تلفزيوني كندي اسمه بول ألموند على مشروع فيلم تسجيلي للتلفزيون بعنوان Seven Up الذي عمد إلى تصوير حياة 14 ولداً في سن السابعة. بعد ذلك قام أبتد بالعودة إلى هؤلاء الأولاد بعد سبع سنوات ثم كل سبع سنوات بعد ذلك، مما شكل حتى الآن تسعة أفلام وثائقية تلفزيونية تتابع مراحل نمو وحاضر كل فترة زمنية في الأعوام 1964 و1970 و1977 و1984 و1991 و1998 و2005 و2012 و- آخرها - 2019.
هي سلسلة غريبة الشكل في الواقع حاول المخرج الأميركي ريتشارد الاحتذاء بها في سلسلة روائية عرفت باسم The Befores وشملت Before Midnight وBefore Sunrise وBefore Sunset وذلك ما بين 2013 و2004.
لكن منحى أبتد التسجيلي كان أطول نفساً وهو يرصد التغيّرات الفردية والاجتماعية التي تنامت على مر العصور من عام 1964 إلى سنة 2019. وفي كل مرّة كان يضع مشاهديه أمام شغف متابعة شخصيات عادية مبيّناً ما حدث معها كل سبع سنوات.
أخرج أبتد حلقات روائية من السلسلة البريطانية الشهيرة ‫ «كورونيشن ستريت» بالغة النجاح (ما زالت معروضة على ذات نظامها الإنتاجي من 1960) تدور حول شخصيات متعاقبة في مراتب اجتماعية شعبية في الأساس وتعكس، طوال تلك السنوات من حياة المسلسل، تعاقب أجيال مختلفة في مشاكل عاطفية واجتماعية متعددة. من بين أعماله التلفزيونية الأخرى Haunted (‬«مسكون»، 1967) وDustbinmen («الزبالون»، 1969) وPlay for Today («مسرحية اليوم”، 1972). هذا المسلسل الأخير استمر حتى عام 1977 وشمل تقديم عدد كبير من المسرحيات على شاشة BBC البريطانية التي انتقل إليها من بعد عمله في محطة ITV المنافسة.

خطوات أولى
خلال ذلك نقل أبتد خبرته الممتزجة بين الدراما والتسجيلي إلى السينما وحافظ عليها فحقق أفلاماً تسجيلية كما أفلاماً روائية. أول أعماله السينمائية كان روائياً بعنوان The Triple Echo («الصدى الثلاثي»، 1972) الذي وجد ردود فعل إيجابية مهدت له البقاء في العمل السينمائي منذ حينها ولو أنه لم يتخل كذلك عن تحقيق برامج وأفلام تلفزيونية كلما سنحت الفرصة.
في «الصدى الثلاثي (The Triple Echo) نجد زوجة اسمها أليس (غليندا جاكسون) أمّ زوجها الحرب العالمية الثانية الدائرة ولم يعد بعد وتشرف وحدها على المزرعة الصغيرة التي تملكها. ذات يوم تستقبل هارباً من الجندية اسمه بارتون (برايان ديكون) ولكي تخفيه تقترح عليه ارتداء ثياب نسائية. هذا التنكر يقود جندياً آخر (أوليفر ريد) للوقوع في حبه - حبها. لم يسع أبتد لخلق حالة كوميدية (ولا يوجد بين أفلامه إلا فيلمين كوميديين)، بل اكتفى بمتابعة الظرف الذي نشأ عن هذه الخدعة التي تنكشف بعد حين. فيلمه اللاحق Stardust (من بطولة المغني ديفيد أسكس، 1974) نوع من البيوغرافي المتخيلة ولم يترك أثراً يُـذكر لكن فيلمه الثالث كان أنضج وأنجح. عنوانه The Squeeze (تعبير إنجليزي شائع لوصف البوليس) حققه سنة 1977 من بطولة ديفيد همنغز والأميركيين ستايسي كيتش وستيفن بويد. بوليسي يتعامل مع حكاية فتاة شابّـة (كارول وايت) تم اختطافها لتكون رهينة بينما تدبّـر العصابة أمر سرقة شاحنة مصرفية. منحى المخرج التسجيلي يمكن ملاحظته هنا على كل الفيلم، خصوصاً في المشاهد المغلقة كالمشهد الذي يتم فيه التخطيط والاستعداد للعملية. توزيع الشخصيات وحركتها والتصوير غير المشروط بتقاليد كما مونتاج اللقطات داخل المشهد.
رابع أفلام أبتد كان الفيلم الأول له من إنتاج أميركي ولو أن التصوير بكامله دار في بريطانيا. الفيلم هو «أغاثا» (Agatha) ويدور حول مرحلة من حياة المؤلّـفة البوليسية أغاثا كريستي. ففي عام 1926 اختفت الكاتبة لأسباب ما زالت غامضة إلى اليوم قبل أن يُـكتشف وجودها في فندق صغير تحت اسم مستعار. يومها قيل أن خلافها مع زوجها الذي أقام علاقة عاطفية مع سكرتيرتها هو السبب. في الفيلم يتبرع السيناريو بتوفير مسببات وأحداث غير موثّـقة. فينيسا ردغراف رائعة كعادتها في أي دور، لكن دستن هوفمن أقل من جيد في دور الصحافي الأميركي الذي يتحرّى عن مكان وجود كريستي. المشكلة نبعت من تدخل الممثل في السيناريو واستسلام المخرج لذلك تحت ضغط شركة وورنر المموّلة. هوفمن أراد الفوز بنصيب أكبر من الظهور وكان له ذلك إنما على حساب الفيلم الذي قام بتصويره الإيطالي فيتوريو ستورارو.

بطولات نسائية
في كل الأحوال، قاد هذا الفيلم مايكل أبتد لتصوير أول عمل له في الولايات المتحدة وهو «ابنة عامل منجم» (The Coal Miner‪’‬s Daughter) سنة 1980‪.‬ هذه المرة السيرة الغنائية ليست متخيلة بل مستمدة من الواقع: قصّة حياة لوريتا لِـن التي ولدت في مطلع الثلاثينات في بيئة اقتصادية جافّـة كابنة عامل منجم ثم تحوّلت إلى واحدة من أكثر مغنيات نوع «كنتري أند وسترن» نجاحاً. لعبت سيسي سبايسك الدور وأمّن أبتد للفيلم محيطه الاجتماعي المعاش وأجواء الفترة والمكان جيداً والأوسكار في السنة التالية كان من نصيب سبايسك عن دورها في هذا العمل.
من «أغاثا» و«ابنة عامل منجم» رعى المخرج بضعة أعمال من بطولة نسائية في محيط حاد البيئة. هو جيد في إدارة شخصياته النسائية كما في Gorillas in the Mist («غوريللات في الضباب»، 1988) و«طرفة عين” (Blink) مع مادلين ستاو في البطولة (1994).
لعبت سيغورني ويفر بطولة «غوريللات في الضباب» المستوحى من حياة العالمة دايان فوسي التي قصدت دراسة الغوريللات في أفريقيا ودفعت حياتها ثمناً لمواقفها ضد الذين يؤذون حيواناتها المفضلة.
أما مادلين ستاو فقد أدّت دور امرأة عمياء تستعيد بعض بصرها وتشاهد شبح قاتل. هي الشاهدة الوحيدة والتحري (إيدن كوِن) لا يأخذ أقوالها على محمل الجد أولاً، لكنه لاحقاً ما يدرك بأنها باتت مهددة من قِـبل القاتل. يرمي المخرج نظرة بانورامية لمدينة باردة الأوصال (شيكاغو) ليضم هذه النظرة إلى حسنات الفيلم الأخرى.
يقف «غوريللات في الضباب» على مسافة قريبة من فيلم آخر لأبتد يتعامل والمرأة والغابة هو Nell («نل»، 1994). هنا حكاية فتاة (جودي فوستر) تم اكتشافها في بعض المجاهل المعزولة في إحدى الولايات تعني بها الباحثة باولا (نَتاشا رتشردسون) وتحاول نقلها من حياة همجية إلى أخرى مدنية.
ليس غريباً أن أحبّـت الممثلة جنيفر لوبيز منه التعاون معها في مشروع فيلم كتبه نيكولاس كازان، ابن المخرج الراحل إيليا كازان، تحت عنوان Enough («كفاية»، 2002) كونه يتحدّث عن امرأة تواجه خطر حدة طباع، ثم شرور زوجها (بيلي كامبل). كعادته في مثل هذه الأفلام التشويقية، أم المخرج العمل بعدته الكاملة من إجادة تنفيذ المشاهد ومنح الحكاية عناصر الحدث الذي تتطلّـبه.
لكن مشاكل المرأة على الشاشة لم يحل دون معالجته مواضيع أخرى وجدها تستحق الاهتمام على نحو متساوٍ في قضاياها وجدّيتها. أتحدّث تحديداً عن فيلمين مهمّين حققها المخرج في عام واحد (1992) هما Thunderheart وIncident at Oglala في «ثندرهارت»، الذي اشترك روبرت دي نيرو بإنتاجه نجد فال كيلمر (الذي هو نصف شيروكي في الواقع) يؤدي دور محقق هجر جذوره الهندية إلى أن يجد نفسه مطالباً بالتحقيق في جريمة قتل ضحيتها فرد من القبيلة التي ينتمي إليها (سيوكس). التحقيق نافذته صوب تاريخه وإدراكه بموقعه. لكن الفيلم فيه أكثر من هذا الخط إذ يتعامل مع الوضع المعيشي الصعب لسكان المناطق الممنوحة للقبائل وسط ظروف عيش مهملة.
أما «حادثة في أوغلالا» فهو تسجيلي عن المواطنين الأميركيين الأصليين قام روبرت ردفورد بالتعليق على ما يرد فيه. وهو يتعامل مع حادثة فعلية وقعت عام 1975 إثر خلاف بين محققين من الـ«أف بي آي» وأفراد من قبيلة سيوكس نتج عنها مقتل اثنين من المحققين. هذا تبعه مسلسل طويل من التحقيقات والمحاكمات ادعت فيها السلطات على ثلاثة مواطنين لكنها عمدت إلى إغفال حقائق عدّة من بينها استفزاز المحققين للقبيلة وسقوط أحد أفرادها. ما ينجح أبتد في الكشف عنه هنا هو الوضع الاجتماعي المتأزم لشعب وجد نفسه، بفعل التجاهل، خارج التاريخ والحاضر.

غوركي وبوند
هناك فيلمان آخران بارزان من بين مجموع أفلامه.
أولهما «غوركي بارك» الذي حققه سنة 1983 عن رواية وضعها مارتن كروز سميث بالعنوان نفسه ولاقت رواجاً كبيراً وأصبحت «بست سلر» في مدى أيام قليلة.
الفيلم، كما الرواية، حكاية من الغموض والتشويق البوليسيين لكن الأكثر جذباً هو أن أحداثها تدور في موسكو. في مطلع الثمانينات كان العالم يتغير ولن تمر إلا فترة سنوات قليلة قبل أن ينهار الحكم الشيوعي بأكمله. يضعنا الفيلم في الأجواء المتوترة قبل سنوات قليلة من ذلك الانهيار. بطله التحري الروسي رينكو (ويليام هيرت) الذي يتم استدعاؤه لكشف ملابسات ثلاث جثث وُجدت مطمورة قليلاً في ثلج الشتاء، وكل جثة منها تم محو بصماتها وملامح وجهها حتى لا يتسنى لأحد معرفة صاحبها. تقوده التحقيقات إلى الكشف عما هو أكبر من الجريمة المُـكتشفة: الجريمة المنظمة والموازية التي تُـدار من وراء الستار. عندما يبلغ التحري مستوى من التحقيقات تبدأ الضغوط عليه، لكن رنكو ليس من النوع الذي يتراجع وبقدر ما يُصـبح مهدداً بقدر ما يُـصبح تهديداً.
إدارة مايكل أبتد للأحداث تسير جيداً وبهدوء. لا يستعجل الحدث لكي يقع وعندما يقع لا يستعجل المضي عنه. لتحقيق هذا التجسيد ولتقديم مدينة ملبّـدة بالغموض، كان لا بد من خمسة عناصر عمد أبتد إلى تأمينها جيداً: تصوير رالف د. بود وتوليف دنيس فيركلر وتصميم مناظر بول سيلبرت وتمثيل ويليام هارت. وكل واحد من هؤلاء أمّـن ما ينشده أبتد المتأني في فيلم لا يزال يختلف عن أي فيلم آخر من حكايات التحري الذي لا ينصاع للأوامر. وموسيقى جيمس هورنر هي العنصر المهم الخامس الذي يتجلّـى في تغطية المدينة (تم التصوير في أوسلو) وأجوائها بموسيقى زاخرة وفي بعضها تعتمد على الأبواق النحاسية لتصوّر وحدة شخصيات الفيلم.
الفيلم الثاني في هذه المراجعة هو «العالم ليس كافيا» (1999)، الفيلم التاسع عشر في سلسلة جيمس بوند والفيلم الوحيد لمايكل أبتد في السلسلة والثالث للممثل بيرس بروسنان الذي يحاذي شون كونيري في حضوره وروجر مور في حذقه ويضيف عليهما تمكّنه من الجمع بين درامية الموقف وخطره وبين بلورته لما قد نسمّيه بالسخرية السوداء. كذلك هو ثاني إطلالة للممثلة جودي دنش في دور الرئيسة. بوند يحقق في ثروة يجمعها صاحب مؤسسة نفطية (ديفيد كولدر) لكن سريعاً ما يتحوّل التحقيق إلى شرير اسمه رينارد (روبرت كارلايل) كان خطف ابنة القتيل (صوفي مارسو) التي هربت واحتلت مكاناً متوسطاً بين بوند ورينارد في سلسلة من المواقف الغامضة.
أبتد، كما في غالبية أعماله قبل هذا الفيلم وبعده، برهن عن تلك الموهبة في الجمع بين الإخراج ذي الرؤية والتنفيذ الدقيق.
أبتد حقق آخر فيلم له سنة 2017 تحت عنوان «غير مُقفل» (Unclocked) من بطولة ناوومي راباس وأورنالدو بلوم. لم ينل النجاح الذي كان يستحقه لكنه فعلياً أحد أعمال أبتد المدروسة والمثيرة رغم إنه، كقصّة، لا يُضيف كثيراً فوق المعتاد في أفلام التجسس والإرهاب. ربما حان الوقت لإلقاء نظرة ثانية عليه… أو أولى على الأقل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)