مايكل أبتد... مخرج جيد رحل بلا ضجيج

رصد حياة الناس خيالاً وواقعاً

بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»
بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»
TT

مايكل أبتد... مخرج جيد رحل بلا ضجيج

بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»
بيرس بروسنان وصوفي مارسو في «العالم ليس كافياً»

المخرج مايكل أبتد، الذي توفي في السابع من هذا الشهر، كان من بين السينمائيين الكثيرين الذين أنجزوا أفلاماً جيدة نالوا عليها مدحاً مُستحقاً، لكن كان عليهم البرهان على جدارتهم في كل عمل لاحق.
لم يكن صاحب مدرسة ولا حتى أسلوب فني لا يُضاهى، لكنه كان جيداً في معظم ما حققه من أفلام وكثير منها، في الثمانينات والتسعينات سجل نجاحاً تجارياً كبيراً كحال فيلم «العالم ليس كافياً” (The World is Not Enough) واحد من الأفلام الأربعة التي قام بيرس بروسنان فيها بأداء شخصية جيمس بوند، وذلك سنة 1999.
وٌلد أبتد في مدينة أيلسبوري في إنجلترا بتاريخ العاشر من فبراير (شباط) 1941. درس مايكل أبتد في البداية القانون والتاريخ في جامعة كامبردج، إنجلترا. لكنه عندما اختار العمل بدأ كاتباً لمشاريع تلفزيونية سنة 1963. في عام 1964 عمل مساعداً لمخرج تلفزيوني كندي اسمه بول ألموند على مشروع فيلم تسجيلي للتلفزيون بعنوان Seven Up الذي عمد إلى تصوير حياة 14 ولداً في سن السابعة. بعد ذلك قام أبتد بالعودة إلى هؤلاء الأولاد بعد سبع سنوات ثم كل سبع سنوات بعد ذلك، مما شكل حتى الآن تسعة أفلام وثائقية تلفزيونية تتابع مراحل نمو وحاضر كل فترة زمنية في الأعوام 1964 و1970 و1977 و1984 و1991 و1998 و2005 و2012 و- آخرها - 2019.
هي سلسلة غريبة الشكل في الواقع حاول المخرج الأميركي ريتشارد الاحتذاء بها في سلسلة روائية عرفت باسم The Befores وشملت Before Midnight وBefore Sunrise وBefore Sunset وذلك ما بين 2013 و2004.
لكن منحى أبتد التسجيلي كان أطول نفساً وهو يرصد التغيّرات الفردية والاجتماعية التي تنامت على مر العصور من عام 1964 إلى سنة 2019. وفي كل مرّة كان يضع مشاهديه أمام شغف متابعة شخصيات عادية مبيّناً ما حدث معها كل سبع سنوات.
أخرج أبتد حلقات روائية من السلسلة البريطانية الشهيرة ‫ «كورونيشن ستريت» بالغة النجاح (ما زالت معروضة على ذات نظامها الإنتاجي من 1960) تدور حول شخصيات متعاقبة في مراتب اجتماعية شعبية في الأساس وتعكس، طوال تلك السنوات من حياة المسلسل، تعاقب أجيال مختلفة في مشاكل عاطفية واجتماعية متعددة. من بين أعماله التلفزيونية الأخرى Haunted (‬«مسكون»، 1967) وDustbinmen («الزبالون»، 1969) وPlay for Today («مسرحية اليوم”، 1972). هذا المسلسل الأخير استمر حتى عام 1977 وشمل تقديم عدد كبير من المسرحيات على شاشة BBC البريطانية التي انتقل إليها من بعد عمله في محطة ITV المنافسة.

خطوات أولى
خلال ذلك نقل أبتد خبرته الممتزجة بين الدراما والتسجيلي إلى السينما وحافظ عليها فحقق أفلاماً تسجيلية كما أفلاماً روائية. أول أعماله السينمائية كان روائياً بعنوان The Triple Echo («الصدى الثلاثي»، 1972) الذي وجد ردود فعل إيجابية مهدت له البقاء في العمل السينمائي منذ حينها ولو أنه لم يتخل كذلك عن تحقيق برامج وأفلام تلفزيونية كلما سنحت الفرصة.
في «الصدى الثلاثي (The Triple Echo) نجد زوجة اسمها أليس (غليندا جاكسون) أمّ زوجها الحرب العالمية الثانية الدائرة ولم يعد بعد وتشرف وحدها على المزرعة الصغيرة التي تملكها. ذات يوم تستقبل هارباً من الجندية اسمه بارتون (برايان ديكون) ولكي تخفيه تقترح عليه ارتداء ثياب نسائية. هذا التنكر يقود جندياً آخر (أوليفر ريد) للوقوع في حبه - حبها. لم يسع أبتد لخلق حالة كوميدية (ولا يوجد بين أفلامه إلا فيلمين كوميديين)، بل اكتفى بمتابعة الظرف الذي نشأ عن هذه الخدعة التي تنكشف بعد حين. فيلمه اللاحق Stardust (من بطولة المغني ديفيد أسكس، 1974) نوع من البيوغرافي المتخيلة ولم يترك أثراً يُـذكر لكن فيلمه الثالث كان أنضج وأنجح. عنوانه The Squeeze (تعبير إنجليزي شائع لوصف البوليس) حققه سنة 1977 من بطولة ديفيد همنغز والأميركيين ستايسي كيتش وستيفن بويد. بوليسي يتعامل مع حكاية فتاة شابّـة (كارول وايت) تم اختطافها لتكون رهينة بينما تدبّـر العصابة أمر سرقة شاحنة مصرفية. منحى المخرج التسجيلي يمكن ملاحظته هنا على كل الفيلم، خصوصاً في المشاهد المغلقة كالمشهد الذي يتم فيه التخطيط والاستعداد للعملية. توزيع الشخصيات وحركتها والتصوير غير المشروط بتقاليد كما مونتاج اللقطات داخل المشهد.
رابع أفلام أبتد كان الفيلم الأول له من إنتاج أميركي ولو أن التصوير بكامله دار في بريطانيا. الفيلم هو «أغاثا» (Agatha) ويدور حول مرحلة من حياة المؤلّـفة البوليسية أغاثا كريستي. ففي عام 1926 اختفت الكاتبة لأسباب ما زالت غامضة إلى اليوم قبل أن يُـكتشف وجودها في فندق صغير تحت اسم مستعار. يومها قيل أن خلافها مع زوجها الذي أقام علاقة عاطفية مع سكرتيرتها هو السبب. في الفيلم يتبرع السيناريو بتوفير مسببات وأحداث غير موثّـقة. فينيسا ردغراف رائعة كعادتها في أي دور، لكن دستن هوفمن أقل من جيد في دور الصحافي الأميركي الذي يتحرّى عن مكان وجود كريستي. المشكلة نبعت من تدخل الممثل في السيناريو واستسلام المخرج لذلك تحت ضغط شركة وورنر المموّلة. هوفمن أراد الفوز بنصيب أكبر من الظهور وكان له ذلك إنما على حساب الفيلم الذي قام بتصويره الإيطالي فيتوريو ستورارو.

بطولات نسائية
في كل الأحوال، قاد هذا الفيلم مايكل أبتد لتصوير أول عمل له في الولايات المتحدة وهو «ابنة عامل منجم» (The Coal Miner‪’‬s Daughter) سنة 1980‪.‬ هذه المرة السيرة الغنائية ليست متخيلة بل مستمدة من الواقع: قصّة حياة لوريتا لِـن التي ولدت في مطلع الثلاثينات في بيئة اقتصادية جافّـة كابنة عامل منجم ثم تحوّلت إلى واحدة من أكثر مغنيات نوع «كنتري أند وسترن» نجاحاً. لعبت سيسي سبايسك الدور وأمّن أبتد للفيلم محيطه الاجتماعي المعاش وأجواء الفترة والمكان جيداً والأوسكار في السنة التالية كان من نصيب سبايسك عن دورها في هذا العمل.
من «أغاثا» و«ابنة عامل منجم» رعى المخرج بضعة أعمال من بطولة نسائية في محيط حاد البيئة. هو جيد في إدارة شخصياته النسائية كما في Gorillas in the Mist («غوريللات في الضباب»، 1988) و«طرفة عين” (Blink) مع مادلين ستاو في البطولة (1994).
لعبت سيغورني ويفر بطولة «غوريللات في الضباب» المستوحى من حياة العالمة دايان فوسي التي قصدت دراسة الغوريللات في أفريقيا ودفعت حياتها ثمناً لمواقفها ضد الذين يؤذون حيواناتها المفضلة.
أما مادلين ستاو فقد أدّت دور امرأة عمياء تستعيد بعض بصرها وتشاهد شبح قاتل. هي الشاهدة الوحيدة والتحري (إيدن كوِن) لا يأخذ أقوالها على محمل الجد أولاً، لكنه لاحقاً ما يدرك بأنها باتت مهددة من قِـبل القاتل. يرمي المخرج نظرة بانورامية لمدينة باردة الأوصال (شيكاغو) ليضم هذه النظرة إلى حسنات الفيلم الأخرى.
يقف «غوريللات في الضباب» على مسافة قريبة من فيلم آخر لأبتد يتعامل والمرأة والغابة هو Nell («نل»، 1994). هنا حكاية فتاة (جودي فوستر) تم اكتشافها في بعض المجاهل المعزولة في إحدى الولايات تعني بها الباحثة باولا (نَتاشا رتشردسون) وتحاول نقلها من حياة همجية إلى أخرى مدنية.
ليس غريباً أن أحبّـت الممثلة جنيفر لوبيز منه التعاون معها في مشروع فيلم كتبه نيكولاس كازان، ابن المخرج الراحل إيليا كازان، تحت عنوان Enough («كفاية»، 2002) كونه يتحدّث عن امرأة تواجه خطر حدة طباع، ثم شرور زوجها (بيلي كامبل). كعادته في مثل هذه الأفلام التشويقية، أم المخرج العمل بعدته الكاملة من إجادة تنفيذ المشاهد ومنح الحكاية عناصر الحدث الذي تتطلّـبه.
لكن مشاكل المرأة على الشاشة لم يحل دون معالجته مواضيع أخرى وجدها تستحق الاهتمام على نحو متساوٍ في قضاياها وجدّيتها. أتحدّث تحديداً عن فيلمين مهمّين حققها المخرج في عام واحد (1992) هما Thunderheart وIncident at Oglala في «ثندرهارت»، الذي اشترك روبرت دي نيرو بإنتاجه نجد فال كيلمر (الذي هو نصف شيروكي في الواقع) يؤدي دور محقق هجر جذوره الهندية إلى أن يجد نفسه مطالباً بالتحقيق في جريمة قتل ضحيتها فرد من القبيلة التي ينتمي إليها (سيوكس). التحقيق نافذته صوب تاريخه وإدراكه بموقعه. لكن الفيلم فيه أكثر من هذا الخط إذ يتعامل مع الوضع المعيشي الصعب لسكان المناطق الممنوحة للقبائل وسط ظروف عيش مهملة.
أما «حادثة في أوغلالا» فهو تسجيلي عن المواطنين الأميركيين الأصليين قام روبرت ردفورد بالتعليق على ما يرد فيه. وهو يتعامل مع حادثة فعلية وقعت عام 1975 إثر خلاف بين محققين من الـ«أف بي آي» وأفراد من قبيلة سيوكس نتج عنها مقتل اثنين من المحققين. هذا تبعه مسلسل طويل من التحقيقات والمحاكمات ادعت فيها السلطات على ثلاثة مواطنين لكنها عمدت إلى إغفال حقائق عدّة من بينها استفزاز المحققين للقبيلة وسقوط أحد أفرادها. ما ينجح أبتد في الكشف عنه هنا هو الوضع الاجتماعي المتأزم لشعب وجد نفسه، بفعل التجاهل، خارج التاريخ والحاضر.

غوركي وبوند
هناك فيلمان آخران بارزان من بين مجموع أفلامه.
أولهما «غوركي بارك» الذي حققه سنة 1983 عن رواية وضعها مارتن كروز سميث بالعنوان نفسه ولاقت رواجاً كبيراً وأصبحت «بست سلر» في مدى أيام قليلة.
الفيلم، كما الرواية، حكاية من الغموض والتشويق البوليسيين لكن الأكثر جذباً هو أن أحداثها تدور في موسكو. في مطلع الثمانينات كان العالم يتغير ولن تمر إلا فترة سنوات قليلة قبل أن ينهار الحكم الشيوعي بأكمله. يضعنا الفيلم في الأجواء المتوترة قبل سنوات قليلة من ذلك الانهيار. بطله التحري الروسي رينكو (ويليام هيرت) الذي يتم استدعاؤه لكشف ملابسات ثلاث جثث وُجدت مطمورة قليلاً في ثلج الشتاء، وكل جثة منها تم محو بصماتها وملامح وجهها حتى لا يتسنى لأحد معرفة صاحبها. تقوده التحقيقات إلى الكشف عما هو أكبر من الجريمة المُـكتشفة: الجريمة المنظمة والموازية التي تُـدار من وراء الستار. عندما يبلغ التحري مستوى من التحقيقات تبدأ الضغوط عليه، لكن رنكو ليس من النوع الذي يتراجع وبقدر ما يُصـبح مهدداً بقدر ما يُـصبح تهديداً.
إدارة مايكل أبتد للأحداث تسير جيداً وبهدوء. لا يستعجل الحدث لكي يقع وعندما يقع لا يستعجل المضي عنه. لتحقيق هذا التجسيد ولتقديم مدينة ملبّـدة بالغموض، كان لا بد من خمسة عناصر عمد أبتد إلى تأمينها جيداً: تصوير رالف د. بود وتوليف دنيس فيركلر وتصميم مناظر بول سيلبرت وتمثيل ويليام هارت. وكل واحد من هؤلاء أمّـن ما ينشده أبتد المتأني في فيلم لا يزال يختلف عن أي فيلم آخر من حكايات التحري الذي لا ينصاع للأوامر. وموسيقى جيمس هورنر هي العنصر المهم الخامس الذي يتجلّـى في تغطية المدينة (تم التصوير في أوسلو) وأجوائها بموسيقى زاخرة وفي بعضها تعتمد على الأبواق النحاسية لتصوّر وحدة شخصيات الفيلم.
الفيلم الثاني في هذه المراجعة هو «العالم ليس كافيا» (1999)، الفيلم التاسع عشر في سلسلة جيمس بوند والفيلم الوحيد لمايكل أبتد في السلسلة والثالث للممثل بيرس بروسنان الذي يحاذي شون كونيري في حضوره وروجر مور في حذقه ويضيف عليهما تمكّنه من الجمع بين درامية الموقف وخطره وبين بلورته لما قد نسمّيه بالسخرية السوداء. كذلك هو ثاني إطلالة للممثلة جودي دنش في دور الرئيسة. بوند يحقق في ثروة يجمعها صاحب مؤسسة نفطية (ديفيد كولدر) لكن سريعاً ما يتحوّل التحقيق إلى شرير اسمه رينارد (روبرت كارلايل) كان خطف ابنة القتيل (صوفي مارسو) التي هربت واحتلت مكاناً متوسطاً بين بوند ورينارد في سلسلة من المواقف الغامضة.
أبتد، كما في غالبية أعماله قبل هذا الفيلم وبعده، برهن عن تلك الموهبة في الجمع بين الإخراج ذي الرؤية والتنفيذ الدقيق.
أبتد حقق آخر فيلم له سنة 2017 تحت عنوان «غير مُقفل» (Unclocked) من بطولة ناوومي راباس وأورنالدو بلوم. لم ينل النجاح الذي كان يستحقه لكنه فعلياً أحد أعمال أبتد المدروسة والمثيرة رغم إنه، كقصّة، لا يُضيف كثيراً فوق المعتاد في أفلام التجسس والإرهاب. ربما حان الوقت لإلقاء نظرة ثانية عليه… أو أولى على الأقل.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».