في منتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2004، جلست ديب هالاند على مائدة الغداء وهي تحدق بعلبة شبه فارغة من الفاصوليا المعلبة ووعاء فيه بقايا من الطحين. وبسرعة، انهمرت دموعها لأنها ما كانت تتمكن، كغيرها من الأميركيين الذين يحتفلون بـ«يوم الشكر» في هذا الوقت من العام من توفير الوليمة التقليدية لابنتها الوحيدة «سوما»، كذلك ما كانت تستطيع تأمين أي طوابع معيشية للحصول على إعانات غذائية. لكن هالاند تجلس اليوم في مكتبها في الطابق الثاني من مبنى لونغوورث التابع للكونغرس الأميركي، وتتذكر حياتها السابقة، وتتطلع قدماً إلى ما يخبئه مستقبلها السياسي.
على الرغم من أن وضع هالاند المالي لم يتحسن كلياً؛ إذ إنها ما زالت حتى اليوم تسدد أقساطها الجامعية، فإن الإنجازات التي حققتها حتى اليوم تخطت كل توقعاتها. فبعدما فازت في انتخابات مجلس النواب (أحد مجلسي الكونغرس) في عام 2018 عن ولاية نيو مكسيكو لتغدو أول نائبة برلمانية من السكان الأصليين (المعروفين سابقاً بمسمى «الهنود الحمر») تنتخب في مجلس النواب، تلقت صباح الخميس في السابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) الحالي 2020 اتصالاً غيّر حياتها: الرئيس المنتخب جو بايدن اختارها لتكون وزيرة الداخلية في إدارته المقبلة. وبالتالي، ستصبح في حال المصادقة على تعيينها، أول وزير من الأميركيين الأصليين في تاريخ الولايات المتحدة.
تبوؤ منصب وزير موقع مهم للغاية لشخص مثل ديب هالاند، ليس فقط لأنها من خارج أوساط النخب السياسية أو لكونه منصباً مرموقاً في الإدارة فحسب، بل لأن حقيبة الداخلية، التي تشمل في الولايات المتحدة حماية الأرياف والأنهار والثروات الطبيعية، معنية مباشرة بالإشراف على شؤون الأميركيين الأصليين ومحمياتهم. وحقاً، تعهدت هالاند بعد اختيارها، قائلة «إن صوتاً كصوتي لم يصل أبداً في الماضي إلى مناصب في الإدارة، أو إلى منصب وزير للداخلية... سأكون قوية نيابة عنكم وعن أرضنا وكلّ محمياتنا الطبيعية».
واقع الأمر، أن هالاند لا تمثل الأميركيين الأصليين فحسب، بل هي تمثل أيضاً شريحة كبيرة من الأميركيين الذين يعانون من أوضاع معيشية صعبة. إذ قاست هالاند، وهي أم بلا زوج، الأمرّين لتأمين حياة متواضعة لابنتها سوما التي رُزقت بها وهي في الرابعة والثلاثين من العمر. والحقيقة أن سوما ولدت بعد أربعة أيام فقط من تخرّج أمها من جامعة نيومكسيكو، حيث درست الإنجليزية. ويومها اضطرت الأم إلى فتح شركة لصنع الصلصة لإعانة نفسها وابنتها. ولكن لم يكن لديها ما يكفي من الأموال لتحمّل تكلفة الإيجار فلجأت إلى بعض الأصدقاء لمساعدتها ومكثت في منازلهم. كذلك عمدت إلى قيادة سيارتها برفقة ابنتها في الولايات لبيع الصلصة.
وتذكر هالاند أن ابنتها صدمتها ذات يوم عندما قالت لها «نحن كنا مشردتين يا أمي». وتنبهت إلى أن ما قالته ابنتها صحيح، فعلى الرغم من أنها لم تضطر إلى النوم في الشارع فهي لم تملك منزلاً يأويها، بل اعتمدت على مساعدة أصدقائها، ومكثت مع ابنتها في غرفة واحدة لفترة طويلة. وعن تلك الفترة تقول «كنت أحاول أن أبقي رأسي مرفوعاً، وأن أربّي ابنتي على النظر بإيجابية للأمور، والحرص على أنها لن تتنبه إلى صعوبة وضعنا المعيشي». وتضيف «هذا صعب للغاية؛ فوظيفة الأم تشمل طمأنة الأولاد في هذه المراحل الصعبة من حياتهم».
ولعلّ هذا الوضع الصعب، بالذات، هو ما دفعها للالتحاق بجامعة نيومكسيكو لدراسة لحقوق في عام 2000، حيث حصلت على إجازة في الحقوق عام 2006، ثم أصبحت أول امرأة تنتخب لرئاسة مجلس إدارة «مؤسسة تنمية لاغونا»، وهي شركة تملكها قبيلة لاغونا بويبلو للسكان الأصليين التي تنتمي إليها هالاند، وتعنى بدعم مجتمع لاغونا واقتصاده. وبحكم موقعها هذا أشرفت على أعمال القبيلة في ولاية نيومكسيكو، وتمكنت من ترويج سياسات ترفق بالطبيعة.
نائبة عن نيومكسيكو
لعلّ تجربة هالاند في الحياة كأم بلا زوج، إضافة إلى أصولها التي تمثل السكان الأصليين شكلت أساساً للسياسات التي دفعت بها في الكونغرس. فقد دعمت خطة تأمين الرعاية الصحية لجميع الأميركيين، وعملت جاهدة لسن قانون يرغم كبريات شركات سيارات الأجرة كـ«أوبر» و«ليفت» على شراء التأمين الصحي والضمان الاجتماعي للسائقين فيها. وكذلك دفعت باتجاه تمرير مشروع قانون يعاقب التنمّر على أولاد المدارس الذين يعتمدون على الوجبات المقدمة في المدرسة. ويسهّل المشروع حصول هؤلاء الأولاد على الوجبات من دون الاضطرار إلى الوقوف في صف منفصل عن زملائهم. وهنا تشرح هالاند قائلة «أردت الحرص على أننا لن نهين الأولاد عبر فصلهم لأن أهلهم لا يستطيعون تحمل تكلفة غدائهم». وتشدد متعهدة «سأكافح دوماً للدفاع عن هؤلاء. أعتقد أن وظيفة أي حكومة تقضي بجعل حياة مواطنيها أفضل؛ فلهذا نحن ندفع ضرائبنا. نريد طرقات جيدة، نريد جسوراً متينة، ونريد ملاعب جميلة كي يلعب فيها أولادنا. ونريد مجتمعات آمنة. ولا نريد أن يجوع جيراننا. أريد للأشخاص أن يكتشفوا طعم النجاح».
هذه الأجندة فسّرها كثيرون على أنها «تقدمية» يسارية، وتعكس توجهات يساريي الكونغرس أمثال السيناتور بيرني ساندرز وزميلته إليزابيث وارين. ولهذا ستواجه هالاند معارضة شرسة من الجمهوريين رغم ضمانها المصادقة على تعيينها في مجلس الشيوخ، وذلك بعدما كسب الديمقراطيون الغالبية في خلال هذا الأسبوع .
فهالاند داعمة شرسة لمشروع قانون «الاتفاق الأخضر الجديد» الذي طرحه عدد من التقدميين في مجلس النواب على رأسهم النائبة ألكسندريا أوكآسيو كورتيز. ويعارض هذا المشروع عمليات الحفريات للتنقيب عن النفط وغيرها من الموارد الطبيعية، ويدعم ما يسمى
بـ«الطاقة البديلة النظيفة”. وهنا تشرح هالاند مواقفها بالقول «كامرأة من الأميركيين الأصليين الذين تعرضت أرض جدودهم للاعتداء من قبل شركات التنقيب عن النفط، أنا أدعم الاتفاق الأخضر الجديد 100 في المائة وتشكيل لجنة مناخية في الكونغرس»، وكان جو بايدن قد قال في سبب اختياره هالاند «ستعمل ديب عن كثب مع المجتمعات التي تحملت نتيجة وعبء غياب العدالة البيئية، بمن فيهم المجتمعات القبلية والملونون والشباب الذين سيعيشون تبعات التغيير المناخي».
ويسلط خيار بايدن هذا الضوء على نيته استعادة ثقة القبائل من السكان الأصليين، التي عمدت إدارة ترمب إلى تحديها عبر رفع الحماية عن بعض الأراضي القبلية المقدسّة التابعة لها من خلال السماح بالتنقيب عن النفط فيها، مثل موقع «بيرز أيرز» في ولاية يوتاه، والمحمية الطبيعية القطبية في ولاية ألاسكا، حيث يعيش السكان الأصليون ويصطادون طعامهم. وهنا تقول هالاند «لم تكن إدارة ترمب متسامحة مع بلاد القبائل الهندية. فقد رمى بعادة استشارة القبائل في قرارات من هذا النوع بعرض الحائط». وتتفهم هالاند أهمية موقفها هذا، فهي تأتي من ولاية غنية بالنفط والغاز، حيث يعتمد السكان بشكل كبير على الأعمال التي توفرها شركات النفط، وتوضح «أنا من نيومكسيكو. هذه ولاية كبيرة مشهورة بالغاز والنفط. وأنا أهتم بكل فرصة عمل». إلا أن هذه التصريحات لم تقنع مؤسسة النفط والغاز في الولاية التي أشارت إلى أن عمليات التنقيب في الأراضي الحكومية تؤمّن 800 مليون دولار من العائدات سنوياً لحكومة الولاية. وقالت المؤسسة «نأمل أن تعتمد النائبة هالاند مقاربة تقدر حاجة كل من يعتمد على الأراضي الحكومية، بمن فيهم آلاف الرجال والنساء الذين تعتمد عائلاتهم على الأراضي العامة لتأمين مواردهم».
في أي حال، ستكون هالاند بحكم موقعها وزيرةً للداخلية - في حال المصادقة على تعيينها - مسؤولة عن العشرات من قضايا الطاقة والبيئة، وستعنى مباشرة بتطبيق تعهدات بايدن بوقف عمليات التنقيب الجديدة على الأراض العامة؛ وذلك لعكس سياسة ترمب بتوسيع هذه العمليات. وحتماً، سيكون أكبر تحدٍ أمامها في ولايتها التي ترتبط فرص العمل فيها بعمليات التنقيب هذه، لكن هالاند تصر على أن مشاريع الطاقة البديلة كفيل بخلق فرض عمل كثيرة، وأنها ستساهم في الوقت نفسه في مكافحة التغير المناخي، مضيفة «أود أن أنظر في جعل أراضينا العامة مفتوحة أمام الأشخاص وأن تكون نظيفة فلا نلوثها».
من ناحية ثانية، تعدّ مرشحة بايدن للتوزير من الداعمين الشرسين لملف الهجرة؛ إذ إنها غالباً ما تقول في خطاباتها بأن الولايات المتحدة هي بلد بُنيت على أيدي المهاجرين، وتقول في برنامجها السياسي «أريد وقف عمليات الترحيل، وحماية (الحالمين) وسأقاتل من أجل تحقيق إصلاحات شاملة لقوانين الهجرة، بما فيها طريق نحو الحصول على الجنسية لأكثر من 11 مليون مهاجر غير شرعي في الولايات المتحدة».
النشأة والمعاناة
ولدت ديب هالاند يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) 1960 في مدينة وينسلو في ولاية أريزونا لعائلة عسكرية. فوالدتها ماري تويا، وهي من السكان الأصليين خدمت في البحرية الأميركية في حين كان والدها ضابطاً برتبة ميجر (رائد) اسمه دتش هالاند، النرويجي الأصل، يخدم في سلاح مشاة البحرية «المارينز» ويحمل «النجمة الفضية» لخدمته في فيتنام. ولقد ووري الثرى بعد وفاته عام 2005 في مقبرة آرلينغتون الوطنية القريبة من الكونغرس حيث تعمل ابنته اليوم.
العائلة تنقلت باستمرار من قاعدة عسكرية إلى أخرى، ودرست ديب وأخواتها الثلاث وأخوها في أكثر من 13 مدرسة حكومية قبل الاستقرار في مدينة آلبوكيركه، كبرى مدن ولاية نيومكسيكو، لتكون قريبة من العائلة التي تنتمي إلى قبيلة لاغونا بويبلو. وعندما تتحدث هالاند عن طفولتها، تقول «تنقلنا كثيراً، لكن حيثما كنا، كان أبي حريصاً على أن نقوم بأنشطة في الهواء الطلق، فكنا نتسلق الجبال وسط العواصف الاستوائية، وكنا نزور الشواطئ أينما ذهبنا». وفي الواقع، أمضت الوزيرة المرشحة طفولتها خلال عطل الصيف في منزل متواضع لجدها وجدتها في قرية ميسيتا الواقعة في المناطق التابعة لقبيلتها بولاية نيومكسيكو. وفي سن الخامسة عشرة عملت في مخبز «زين» في مدينتها آلبوكيركه. ولقد عانت بشكل كبير من إدمان الكحول، وأوقفت مرتين بتهمة قيادة السيارة تحت تأثير الكحول. وهي اختارت أن تسلط الضوء على مشكلتها هذه لتجذب الاهتمام إلى قضية الادمان. وفي هذا الشأن تشرح «لقد عانيت كثيراً في الجامعة وكأم بلا زوج، واليوم مضت 30 سنة على توقفي عن معاقرة الكحول نهائياً. هذا الصراع جعلني أقوى».
وزارة الداخلية ومهامها
ختاماً، علاقة ديب هالاند وثيقة جداً، وعندما اختارها بايدن لمنصب وزير الداخلية، فهو جعلها مسؤولة عن وزارة تبلغ من العمر 171 سنة. غير أن العلاقة التي جمعت الوزارة بقبائل السكان الأصليين في الولايات المتحدة كانت دائماً متشنجة. فهذه الوزارة تشرف على أقسام مختلفة في الحكومة الأميركية معنية بالنظر في شؤون السكان الأصليين، مثل مكتب الشؤون الهندية ومكتب الثقافة الهندية. ولذا؛ يحمل خيار بايدن للنائبة - البالغة من العمر 60 سنة - في طياته معاني ضخمة للسكان الأصليين الذين يتأثرون بشكل مباشر بقرارات وزارة الداخلية. كذلك، تعنى الوزارة بإدارة نحو خُمس الأراضي الأميركية، بما فيها الإشراف على 75 مليون فدان من الأراضي البرية و422 متنزها عاماً، بالإضافة إلى الآثار الوطنية والمحميات الطبيعية. ويضاف إلى ما سبق، أن الوزارة تشرف على الحفاظ على أكثر من ألف صنف من الحيوانات المهددة بالانقراض، وتدير مشاريع ماء ضخمة في الغرب للمساعدة على الحفاظ على المزارع وتوفير مياه شرب لمدن مثل لاس فيغاس ولوس أنجليس.