يشن «إسلاميون» ودعاة محسوبون على نظام الرئيس المعزول عمر البشير، حملات تحريض ووعيد، بلغت حد التهديد بالقتل وتحريم تدريس منهج أكاديمي، تستهدف مدير المناهج والبحث التربوي السوداني عمر أحمد القراي، لاحتواء كتاب التاريخ المقرر للصف السادس «أساس» على صورة للوحة «خلق آدم» للفنان الإيطالي الشهير «مايكل أنجلو»، التي اعتبرتها الإسلاميون «تجسيداً» للذات الإلهية.
ويدفع القراي ومؤيدوه بأن اللوحة عمل فني «مهم» يعبر عن مرحلة من مراحل تاريخ الفن تستحق الدراسة، وأنها مجرد عمل فني لا علاقة له بالتفاسير الدينية، وأن الحملة يقودها أنصار النظام المعزول الذين صاغوا المناهج التعليمية وفقاً لرؤاهم الدينية، تتخذ من اللوحة ذريعة للحيلولة دون المساس بالمناهج التي أعدوها.
واشتعلت وسائط التواصل الاجتماعي بحملات متباينة، تطالب الأولى بإقالة مدير المناهج، وتتهمه باستغلال المناهج لنشر «الفكر الجمهوري» لمؤسسه محمود محمد طه، الذي أعدم خلال فترة حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري إبان تحالفه مع التيار الإسلامي بقيادة الدكتور حسن الرتابي، وأطلقت وسم «إزالة القراي»، بينما ترى الحملة الأخرى المؤيدة للقراي في إعادة كتابة المناهج ذات الصبغة «الإخوانية» واحداً من أهداف الثورة التي أسقطت النظام الإسلاموي الذي كان يحكم السودان، وإزالة ظلاله «المتطرفة» التي حاول النظام المعزول فرضها على التدين السوداني المتسامح.
واختار رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، الخبير التربوي د. عمر القراي، مديراً للمركز القومي للمناهج والبحث التربوي، التابع لوزارة التربية السودانية، وأوكل له مهمة إعادة كتابة المناهج المدرسية وتطويرها وتنقيتها من «الآيديولوجيا الإخوانية» التي اتسمت بها طوال ثلاثين عاماً من حكم الإسلاميين للسودان. ويحوز «القراي» على سيرة ذاتية ثرية في المجال التربوي والمناهج، فهو حاصل على دكتوراه التربية من جامعة أوهايو في تخصص علم المناهج، وعمل في العديد من المنظمات المحلية والدولية والجامعات كأستاذ مشارك، إلى جانب عمله مستشاراً خاصاً في مجال التعليم والمرأة وحقوق الإنسان.
ويستخدم مناوئو القراي من الإخوان وأعوان النظام المعزول، انتماءه للفكر «الجمهوري» الذي أعدم الرئيس الأسبق جعفر النميري مؤسسه الأستاذ «محمود محمد طه» بتهمة الردة، ذريعة للانتقاص منه وللإبقاء على «مناهجهم»، لكن الرجل يرد دائماً بأنه لا يكتب المناهج. يشار إلى أن محكمة أخرى عقدت بعد سقوط نظام النميري، برأت «طه» واعتبرت الحكم باطلاً وأنه استند على حيثيات سياسية ليست قانونية. ومنذ أسابيع ظل الرجل يتعرض لهجوم عنيف، وحملات تكفير واسعة استخدمت فيها منابر المساجد، ومنصات التواصل الاجتماعي، استندت فيها على كتاب التاريخ للصف السادس بمرحلة أساس، الذي يحتوي على لوحة «خلق آدم»، باعتبارها تجسيداً للذات الإلهية، بشكل أساس، بجانب مواد اعتبرها مناوئو الرجل من الإخوان وحلفائهم مناوئة للدين الإسلامي.
وفي مؤتمر صحافي عقده الرجل الأسبوع الماضي، قال القراي إن الكتاب موضوع الانتقاد يتضمن باباً يتحدث عن تاريخ نهضة الفنون في أوروبا، وإن اللوحة وردت مع عدد من اللوحات التي رسمت في تلك الفترة التاريخية المهمة، وإن الحملة ضده تستخدم اللوحة ذريعة للإبقاء على مناهج «الإخوان» التي يسعى وفريقه لتغييرها وكتابة مناهج جديدة عصرية، بدون حمولة فكرية «آيديولوجية» محددة.
وأصدر «مجمع الفقه الإسلامي» - تابع لوزارة الشؤون الدينية - فتوى بتحريم تدريس منهج التاريخ الذي أعده فريق القراي، وقال إن الكتاب وجه إساءة قبيحة للذات الإلهية، بتصويرها مجسدة للتلاميذ، وصور الإسلام كدين إرهاب وعنف، ومجد الحضارة الغربية على حساب الحضارة الإسلامية، إلى جانب احتوائه على مضامين وصور توصل رسالة خاطئة في العقيدة والثقافة والتاريخ.
وتبعاً لذلك استخدم أئمة مساجد ورجال دين وسياسيون محسوبون على «الإخوان»، وموالون لنظام الإنقاذ، حملات منسقة للحط من المناهج التي يعدها فريق القراي، واتهموا فيها الرجل بالكفر والزندقة، وطالبوا بإقالته وإلغاء المناهج التي أعدها فريقه، ووصفوه بأنه يسعى لنشر «الفكر الجمهوري» عن طريق المناهج التي يعمل على إعادة كتابتها.
ونقلت تقارير صحافية محلية، أن الرجل دون بلاغات جنائية ضد خطيب المسجد الكبير «كمال رزق» - المحسوب على الإخوان - اتهمه فيها بتهمة تكفيره والتحريض على قتله، وأنه شرع في إجراء بلاغ ضد خطيب مجمع الفتح الإسلامي محمد الأمين إسماعيل.
وبمواجهة الحملة التي تستهدفه، قال مدير المناهج والبحث التربوي، إنه سيظل في وظيفته ولن يستقيل، ولن يخيفه أو يرهبه الهجوم المتطرف ضده، ورهن استقالته من منصبه بتغيير المناهج التي يعمل على إعادة كتابتها، أو صدور قرار بإقالته من قبل رئيس الوزراء.
ووصف الحملة ضده، بأنها «جائرة وغير نزيهة وغير شريفة الخصومة»، وقال بحسب وكالة الأنباء الرسمية «سونا»، إن صورة «خلق آدم» لم تأت معرفة ومشروحة، وإنما قدمت ضمن نماذج للوحات فنية عديدة، وإنها لم تظهر لأول مرة في السودان، وكانت تدرس في منهج الفنون بالجامعة الإسلامية، دون أن ينتقدها أحد.
وانتقد القراي تدخل مجمع الفقه الإسلامي في شؤون المناهج، ونقلت عنه «سونا» قوله: «إنه يرفض كون مجمع الفقه هو الجهة التي تجيز المناهج، وإن الجهة الوحيدة التي تجيز المناهج هي المركز القومي للمناهج، وليس مجمع الفقه».
وهو ما وافقه عليه القيادي في الجبهة الثورية «ياسر عرمان» وفقاً لتغريدة على صفحته على «تويتر»، جاء فيها: «الهجوم على القراي تقوده الثورة المضادة، مع بعض الاستثناءات النادرة. قضية المناهج طالها تخريب النظام السابق، وتحتاج لمؤتمر لجميع المختصين، وتوسيع دائرة الحوار حولها»، وأضاف: «بروفسور محمد الأمين التوم - وزير التربية - بشجاعته المعتادة رفض الخنوع وفصل القراي».
وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر في مجلس الوزراء، أن هناك اتجاها لإقالة الرجل، لأسباب لا علاقة لها بالجدل حول «اللوحة»، وإنما بسبب ظهوره المتكرر في وسائل الإعلام بما يخالف طبيعة وظيفته، وتناوله لقضايا خلافية لا علاقة لها بالمناهج، بيد أن المصادر أكدت للصحيفة تمسك وزير التربية والتعليم محمد الأمين التوم بمدير المناهج ورفضه لاستقالته أو إقالته.
وتعد لوحة «خلق آدم» التي أثارت كل هذه الجدل، واحدة من أعظم الكنوز الفنية في العالم، وهي معلقة على سقف كنيسة «سيستين» في الفاتيكان، وفسرها نقاد الفن بأنها «صورة تشريحية دقيقة للدماغ البشري مرسومة على شكل الإله»، وقالوا إنها تجسد التكوين التشريحي الداخلي للدماغ، بما يجعل «يد الإله» الممتدة لآدم دون أن تلمسه، تبدو كإشارة دماغية تنقل الحياة للرجل الذي يمثل «آدم».
مدير المناهج السودانية في عين العاصفة بسبب لوحة لمايكل أنجلو
القراي انتقد الحملة ضده ووصفها بـ«الجائرة»... واتجاه لإقالته ووزير التعليم متمسك به
مدير المناهج السودانية في عين العاصفة بسبب لوحة لمايكل أنجلو
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة