قصص خيالية عن لقاح «كورونا»... أبرز الأخبار الكاذبة في 2020

شائعات عديدة طالت لقاح «كورونا» عام 2020 (أ.ف.ب)
شائعات عديدة طالت لقاح «كورونا» عام 2020 (أ.ف.ب)
TT

قصص خيالية عن لقاح «كورونا»... أبرز الأخبار الكاذبة في 2020

شائعات عديدة طالت لقاح «كورونا» عام 2020 (أ.ف.ب)
شائعات عديدة طالت لقاح «كورونا» عام 2020 (أ.ف.ب)

عاش العالم في عام 2020 جائحة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث قلبت الحياة فيه رأساً على عقب، لكنها وعلى فداحة آثارها الصحيّة والاقتصاديّة والاجتماعية لم تحجب كثافة الأحداث الكبيرة في العالم، وخصوصاً في المنطقة العربية وما حولها، حيث توالت النزاعات والاضطرابات والكوارث والتحوّلات السياسية الكبرى.
على وقع هذه المستجدّات، غرقت مواقع «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» و«تيك توك»، إضافة إلى تطبيق «واتساب» ببحر من الأخبار الكاذبة، سواء لتأييد مواقف سياسيّة أو نظريات مؤامرة علميّة أو لمجرّد جذب المشاهدات والتفاعلات لأسباب تجاريّة، جعلت مصدّقيها يعيشون في عالم مواز منفصل عن الوقائع السياسية والحقائق الطبية والعلميّة. وهذه أبرز الأخبار الكاذبة التي ضجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي في عام 2020، حسبما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية:
*جثة سليماني
في الثالث من يناير (كانون الثاني) قتل الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس»، في «الحرس الثوري» الإيراني، بضربة من طائرة أميركية من دون طيّار في بغداد. وسبق ذلك هجوم على السفارة الأميركية من قبل متظاهرين عراقيين موالين لإيران.
بعد ساعات قليلة، ظهرت على مواقع التواصل صورة قيل إنها تُظهر جثّة سليماني أو نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس الذي قتل معه، لكن الصّورة في الحقيقة للجنرال الذي قتل على يد تنظيم «داعش» في سوريا في عام 2015.
في 8 يناير، ردّت إيران بإطلاق صواريخ على قواعد تأوي جنوداً أميركيين في العراق. كذلك، أسقطت «عن طريق الخطأ» طائرة ركاب أوكرانية بعد ساعات على ذلك، ما أدى إلى مقتل 176 شخصاً. وإزاء توعّد إيران بردّ مناسب على مقتل سليماني، ظهرت أخبار وصور ومقاطع تدّعي تنفيذ هذا التهديد، منها صور قيل إنها تظهر جنوداً أميركيين في حالة من الذعر بسبب القصف الإيراني، لكن الصور في الحقيقة منشورة في أوقات سابقة وفي مناسبات مختلفة.
*مؤامرة «كورونا»
اعتباراً من شهر فبراير (شباط)، دخل العالم نفقاً غامضاً لم يسبق له مثيل مع انتشار فيروس كورونا المستجدّ. إزاء ذلك، غرقت شبكة الإنترنت في كلّ أنحاء العالم بسيل من المعلومات الطبية والعلميّة المضلّلة، ونظريات المؤامرة حول نشأة الفيروس، أو شائعات اجتماعية ودينيّة تتعلّق به، يمكن الاطلاع على أكثر من مائة وعشرين منها في أعده صحافيو تقصّي صحّة الأخبار.
لكن مواقع التواصل باللغة العربية ضجّت أيضاً بنوع آخر من هذه الأخبار المضللة تحدّثت عن انهيار الحضارة الغربية وعن إقبال كثيف لغير المسلمين على اعتناق الإسلام أو الاستنجاد به في ظلّ انتشار الوباء في العالم، ومن أكثر الشائعات تداولا في هذا السياق قيل إنه يُظهر إيطاليين ينضمّون لصلاة المسلمين في ظلّ فقدان حكومتهم السيطرة على انتشار الوباء. لكن الفيديو الذي انطلى على عشرات آلاف المستخدمين لا علاقة له في الحقيقة بشيء من كلّ ذلك، بل هو يصوّر عام 2017 تضامناً معهم بوجه قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي اعتبرت معادية للمهاجرين والمسلمين.
* آيا صوفيا
في يوليو (تموز)، أشعل قرار السلطات التركيّة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، فتيل تراشق بالأخبار الكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي باللغة العربية، بين تبرير القرار باستحضار صور لكنائس قيل إنها «بُنيت من جماجم المسلمين»، وبين مهاجمة القرار والحديث عن «غضب إلهي» مناخي على تركيا وتهديد روسي بمحوها عن الخارطة. لكن هذه الأخبار، وغيرها حول قضية آيا صوفيا، لا أساس لها من الصحّة، فلا الصور تُظهر كنائس بنيت من جماجم المسلمين، ولا الرئيس الروسي هدّد تركيا بل هو اعتبر قرارها «شأناً داخلياً». أما الفيديو المنتشر على أنه يُظهر غضب الطبيعة في تركيا بعد القرار، فهو مصوّر قبل سنوات أثناء فيضانات في أنقرة.
*انفجار مرفأ بيروت
في 4 أغسطس (آب)، وقع انفجار هائل في مرفأ بيروت سُمع دويّه في جزيرة قبرص، ناجم عن تخزين أطنان من نيترات الأمونيوم من دون وقاية. أسفر الانفجار عن دمار تامّ في المرفأ والأحياء المجاورة له، وخراب كبير في العاصمة، وأوقع مائتي قتيل و6500 جريح.
منذ اللحظات الأولى للانفجار، وفيما كان اللبنانيون ما زالوا تحت هول الصدمة والعشرات منهم تحت أنقاض الأحياء المجاورة للمرفأ في عاصمتهم المنكوبة، كانت الأخبار الكاذبة تغزو مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف اللغات وصولاً إلى إندونيسيا وماليزيا، سواء لتعزيز موقف سياسي أو تحليل أمني، أو لمجرّد جذب التفاعلات على منشورات غير صحيحة توظّف تعاطف المستخدمين حول العالم واهتمامهم بهذه الكارثة، لكن أبرز ما طبع الأخبار الكاذبة عن انفجار بيروت، هو الصور والمقاطع المركّبة التي تُظهر صاروخاً يهوي على المرفأ قبل الانفجار، لتعزيز فرضيّة أن إسرائيل هي من يقف وراء الانفجار.
ومن أكثر الأخبار تداولاً في هذا السياق، فيديو قيل إنه بالتصوير الحراري وإنه يُظهر صاروخاً يصيب المرفأ قبل الانفجار. لكن المقطع معدّل من فيديو نشرته شبكة «سي أن أن»، وقد تلاعب مروّجو الخبر الكاذب بالألوان لجعل الفيديو يبدو وكأنه بالتصوير الحراري، ثم أضافوا الصاروخ لتأييد فرضيّتهم. وغزا هذا الخبر الكاذب مواقع التواصل باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية.
* فيديو الأقصى
في 15 سبتمبر (أيلول)، وقّعت الإمارات العربية المتحدة والبحرين اتفاقي تطبيع مع إسرائيل في البيت الأبيض، ثم حذا كلّ من السودان والمغرب حذوهما بعد أسابيع. إثر ذلك، ظهرت على مواقع التواصل باللغة العربية أخبار مضلّلة ذات صلة، منها فيديو يصوّر العربية استخدمه مروّجو الأخبار الكاذبة على أنه احتفال باتفاق السلام، أو استخدمت للقول إنها تُظهر هجمات انتقامية في الإمارات وخارجها. وظهر فيديو قيل إنه يُظهر فلسطينيين يدخلون إلى المسجد الأقصى للصلاة بفرح عارم بعد شيوع خبر الاتفاق بين الإمارات وإسرائيل. إلا أن الادّعاء خطأ والفيديو منتشر قبل نحو شهرين وهو يصور فلسطينيون يدخلون المسجد الأقصى بعد شهرين من الإغلاق بسبب تفشي فيروس كورونا المستجدّ.
* ألعاب إلكترونية في معركة قره باغ
على وقع المعارك التي اندلعت أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي بين أذربيجان المدعومة من تركيا والانفصاليين المدعومين من أرمينيا في إقليم قره باغ وما حوله، تحوّلت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي باللغة العربيّة إلى ساحة اشتباك بين مؤيّدي الطرفين وميدان تراشق بالأخبار الكاذبة حول مجريات القتال وسياسات الأطراف المتنازعة وتدخّل دول الإقليم. وحشد مؤيّدون للسياسة التركية صوراً ومقاطع قالوا إنها تُظهر انتصارات للجيش الأذربيجاني أو مواقف إنسانيّة ودينيّة موثّرة، لكن معظم ما انتشر في هذا السياق كان مضلّلاً أو قديماً أو متلاعباً به.
في المقابل، حشد مناصرو المعسكر الثاني صوراً ومقاطع قالوا إنها تُظهر انتصارات الأرمن أو تظاهرات ترفع أعلام إسرائيل في أذربيجان أو مشاركة مرتزقة سوريين في النزاع، كانت بمعظمها مضلّلة أو خارج السياق.
ومن الأمور اللافتة في هذا السياق، استخدام مقاطع من ألعاب إلكترونية للقول إنها تُظهر انتصارات عسكرية لهذا الطرف أو ذاك، على غرار هذا المقطع الذي قيل إنه يصوّر إسقاط طائرة أذربيجانية، فيما هو في الحقيقة مقطع من لعبة «آرما 3».
* حوادث فرنسا
«فرنسا أعلنت أن منفّذ هجوم نيس ليس مسلماً»، و«قاتل المدرّس الفرنسي لاقى تشييع الأبطال قبل دفنه»، أما الرئيس الفرنسي فما زال يعاني من «تظاهرات تحت بيته» ويتلقّى «توبيخ الأطفال له في المدارس على مواقفه الأخيرة من رسوم الكاريكاتور»، في الوقت الذي «تتعرّض فيه المحجبات الفرنسيات لعنف الشرطة وإكراههنّ على خلع الحجاب«، و«يقتحم الأمن الفرنسي المساجد مروّعاً من فيها»...هكذا بدت صورة ما يجري في فرنسا في العالم الموازي من الأخبار والصور والمقاطع الكاذبة التي أغرقت مواقع التواصل الاجتماعي باللغة العربية في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، على إثر الجرائم التي نفّذها متشددون في باريس ونيس، ومواقف الرئيس إيمانويل ماكرون المدافعة عن حرية نشر رسوم كاريكاتوريّة للنبي محمد.
وقد أصدرت خدمة تقصّي صحّة الأخبار في وكالة الصحافة الفرنسية جمعت فيه 25 من هذه الأخبار والصور والفيديوهات الكاذبة التي كانت من الأكثر انتشاراً بين المستخدمين العرب.
ومن أكثر المنشورات تداولاً في هذا السياق جمع أكثر من مليون و600 ألف مشاهدة قيل إنه يُظهر فتاة فرنسية مسلمة توبّخ الرئيس الفرنسي. لكن هذا المقطع مركّب في الحقيقة من مشاهد عدّة، منها لزيارة إلى مكتبة حيث رحّبت به الفتاة الظاهرة في الفيديو ورقصت معه.
*الانتخابات الأميركية
ظلّت الأنظار في العالم العربي متّجهة إلى ما يصدر من أنباء عن نتائج الانتخابات الأميركية، لما لهذه النتائج من انعكاسات سياسية مباشرة على المنطقة.
وفي هذا السياق، ظهرت على مواقع التواصل أخبار انطلت رغم غرابتها على آلاف المستخدمين، منها فيديو قيل إنه يُظهر ترمب مستعيناً بمشعوذين لجلب الحظ، لكن الفيديو في الحقيقة يعود لعام 2017، ويصوّر صلاة أقيمت في البيت الأبيض لضحايا إعصار هارفي.
وتداول عشرات آلاف المستخدمين بشتّى اللغات حول العالم قيل إنه يُظهر ترمب وهو يحطّم مكتبه بعد صدور النتائج وهزيمته أمام المرشّح الديمقراطي جو بايدن. لكن هذا الفيديو مقتطع من ساخر وليس حقيقياً.
* لقاح كورونا
مع اقتراب عام 2020 من أيامه الأخيرة، وفي وقت تتهيّأ فيه بلدان المنطقة العربية لحملات التلقيح ضدّ فيروس كورونا، وجد مواطنوها أنفسهم أمام زخم من الأخبار المقلقة التي تحاصرهم بين مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات «واتساب» مروراً بأحاديث الشارع ووصولاً إلى ما يُلقى على بعض وسائل الإعلام حول مخاطر مزعومة لهذه اللقاحات وقصص خياليّة معقّدة تعزّز نظريات المؤامرة المتّصلة به.
أحصت خدمة تقصّي صحّة الأخبار في وكالة الصحافة الفرنسية في أبرز الشائعات المتداولة عن اللقاح، منها الحديث عن احتوائه على شرائح لجمع معلومات، وهو ما يستحيل بحسب خبراء مستقلين، أو أنه مصنّع من خلايا أجنّة مجهضة وأنه يسبب العقم لدى النساء، أو أنه يسبب تغييراً جينياً لدى الإنسان، وهو ما وصفه خبراء بأنه «هذيان تام».
وفي سياق غير بعيد، ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي باللغات الهولندية والألمانية والفرنسية والسلوفاكية والإسبانية، إضافة إلى العربية، قصّة معقّدة عن علاقة خفيّة بين مختبر ووهان في الصين الذي تتهمه شائعات بـ«تصنيع» الفيروس، وشركات إنتاج اللقاح وشركات التأمين وبعض أثرياء العالم، بما يوحي بوجود مؤامرة متشعّبة الأطراف تمتدّ خيوطها في أرجاء القارات الخمس. لكن هذه الحبكة ليست سوى قصّة يختلط فيها شيء قليل من الوقائع بكمّ كبير من الهذيان والأضاليل.


مقالات ذات صلة

صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.

آسيا رجل يرتدي كمامة ويركب دراجة في مقاطعة هوبي بوسط الصين (أ.ف.ب)

الصين ترفض ادعاءات «الصحة العالمية» بعدم التعاون لتوضيح أصل «كورونا»

رفضت الصين ادعاءات منظمة الصحة العالمية التي اتهمتها بعدم التعاون الكامل لتوضيح أصل فيروس «كورونا» بعد 5 سنوات من تفشي الوباء.

«الشرق الأوسط» (بكين)

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟