«الكسكس» كرنفال غذائي يقتحم لائحة «اليونيسكو» للتراث

استجابة لطلب مغاربي مشترك

«الكسكس» كرنفال غذائي يقتحم لائحة «اليونيسكو» للتراث
TT

«الكسكس» كرنفال غذائي يقتحم لائحة «اليونيسكو» للتراث

«الكسكس» كرنفال غذائي يقتحم لائحة «اليونيسكو» للتراث

أعلنت «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة» (يونيسكو)، أول من أمس، عن تسجيل «المهارات والخبرة والممارسات المتعلقة بإنتاج واستهلاك (الكسكس)» في قائمة «اليونيسكو للتراث الثقافي غير المادي»، استجابةً لطلب مغاربي مشترك من المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا.
وأوضحت المنظمة الأممية، عبر موقعها الرسمي، أن إدراج «المهارات والخبرة والممارسات المتعلقة بإنتاج واستهلاك «الكسكس» في القائمة العالمية للتراث الثقافي غير المادي، الذي يدخل في عداد الملفات الستة عشر متعددة الجنسيات التي قُدّمت إلى «لجنة اليونيسكو للتراث غير المادي» في عام 2020، يعترف بـ«القيمة الاستثنائية لـ(الكسكس) وللمهارات والخبرة والممارسات المتعلقة بإعداده»، كما يجسد «التعاون الثقافي بين أربعة بلدان لديها هذا التراث المشترك»، ويشهد على «الجهود الخاصة التي تبذلها (اليونيسكو) من أجل تشجيع الإدراج المشترك بين عدة بلدان بغية تحقيق التقارب بين الشعوب والثقافات».
ونقل الموقع عن أودري أزولاي المديرة العامة لـ«اليونيسكو»، قولها إن هذا الإدراج المشترك يعتبر «نجاحاً عظيماً»، وذا «دلالة مهمة على الاعتراف الثقافي»، كما أنّه «نجاح دبلوماسي حقيقي يتناول موضوعاً يحمل أهمية ورمزية كبيرة للشعوب في هذه المنطقة بمجملها، بل ويتجاوزها أيضاً». فيما «يتبيّن من توافق الآراء هذا أنّ التراث الثقافي يمكن أن يكون شخصياً واستثنائياً في الوقت نفسه، ويتجاوز الحدود».
وشددت «اليونيسكو» في سياق احتفائها بـ«تقاليد (الكسكس)» على الكيفية التي يعمل بها التراث على تحقيق التقارب بين الشعوب، مشيرة إلى أن إدراج «المهارات والخبرة والممارسات المتعلقة بإنتاج واستهلاك (الكسكس)» جاء ثمرة ترشيح مشترك بين المغرب والجزائر وموريتانيا وتونس. وزادت أن هذا الإدراج المشترك لأحد عناصر التراث المشتركة، يبين إلى أي حدّ «يمكن للتراث الثقافي غير المادي أن يكون موضوعاً يجمع الدول ويحضّها على التعاون»، مشيرة إلى أن جوهر عمل «اليونيسكو» يتمثل في «بناء الجسور بين الشعوب، والعمل على تقاربها من خلال الممارسات والمعارف المشتركة بينها».
وتوسعت «اليونيسكو» في الحديث عن تاريخ «الكسكس»، مشيرة إلى أنه «ليس ضارباً في القدم وحسب»، لأنه كان معروفاً منذ العصور الوسطى على أقل تقدير، وإنّما «مركب وشديد التنوع». واستحضرت، في هذا السياق، الجدل الذي سبق الطلب المغاربي المشترك، خصوصاً بين المغرب والجزائر، مشيرة إلى أنه «كان من الصعب البتّ في تاريخ هذا الطبق، حيث دارت نقاشات بين الخبراء الذين أعدوا ملف الترشيح»، قبل أن تتفق جميع «الأطراف المعنية في النهاية على النتيجة نفسها»، والمتمثلة في أن «أفضل (كسكس) هو الذي تعدّه أمي».
وتحدثت «اليونيسكو» عن «روح الكسكس» و«التعبير عن الحياة الاجتماعية»، مشيرة إلى أن «الكسكس» يبقى «طبقاً يميّز حياة شعوب هذه البلدان الأربعة وأكثر»، حيث «لا يوجد زفاف أو عيد أو اجتماع عائلي من دون (الكسكس)»، فــ«هو في الوقت نفسه طبق الأيام العادية والمناسبات الاستثنائية، وطبق الأفراح والأتراح، ويؤكل في المنزل وخارجه، وفي الزوايا (وهي أماكن تقليدية للعبادة) على سبيل المثال، أو حتى في الهواء الطلق، وبمناسبة تقديم الذبائح وتبادل الهبات»، حيث «يرافق النساء والرجال والشيب والشباب والسكان المستقرين والرحّل، وأبناء الريف وأبناء المدينة والشتات، من المهد إلى اللحد»، كما «لا يمكن اختصاره بالمكونات المميزة له»، إذ هو «أكثر من مجرد طبق»، إنّه «أوقات مميزة وذكريات وتقاليد ومهارات وحركات تتناقلها الأجيال»؛ ولذلك «هناك وصفات لتحضير (الكسكس) بعدد العائلات التي تُعده، وهناك مجموعة لا متناهية من الفروق الدقيقة بين المناطق»، كما تختلف مكوناته باختلاف النظم الإيكولوجية، من سهل أو جبل، من واحة أو صحراء، من ساحل أو جزيرة، مما يجعل من «(الكسكس) مرآة للمجتمعات التي تطهوه».
وحيث إنه «أكثر من مجرد طبق»، يبقى «(الكسكس) سلسلة من المعارف والمهارات والتقاليد»، من منطلق أن «تحضير حبات (الكسكس) احتفالي»، و«يتبع عدداً من الخطوات التقليدية، إذ يُطحن السميد بالطاحونة اليدوية أو الآلية (التي كانت في السابق موجودة كجزء من أثاث المنزل، وهي تعمل باليد بواسطة ذراع)، ثمّ يُفرك السميد بين أيدي النساء، بحسب التقاليد، في أطباق مصنوعة من الفخار والخشب والقش، وأخيراً أصبحت الأطباق مصنوعة من المعدن، من أجل الحصول على حبات يعيّر حجمها باستخدام منخل خشبي، كانت تُصنع شباكه من الأمعاء أو من القش، وأصبحت تُصنع حالياً من المعدن». وبالتالي، فالكسكس ينطوي على «طيف من المهارات التي تضطلع بها المرأة بدور أساسيّ». بل «لا يقتصر دور المرأة في هذا السياق على عملية تحضير الكسكس واستهلاكه، بل يمتد ليشمل أيضاً إحياء منظومة القيم والدلالات المتعلقة بهذا الطبق والحفاظ عليها».
وبالإضافة إلى ذلك، «يضم (الكسكس) مجموعة من الخبرات والحرف اليدوية: بدءاً من الحرفيين الذين يصنعون الأدوات المتعلقة بالكسكس، والمزارعين الذين ينتجون الحبوب، وعمال المطاحن الذين يطحنون هذه الحبوب ويحولونها إلى سميد، والتجار، وحتّى أصحاب الفنادق. ومن هنا، نرى أنّ (الكسكس) عالم ينطوي على نسيج اجتماعي كامل متكامل». فيما كانت «صناعة الكسكس» والطقوس المختلفة لتحضيره، ولا تزال، كما تضيف «اليونيسكو»، «رمزاً للتعددية التي تمتاز بها المعارف والمهارات التي تُتناقل شفوياً من خلال المراقبة، ثم التطبيق، الأمر الذي يستدعي صونها».
ويوصف «الكسكس»، كما نقرأ للكاتب المغربي سعد سرحان في مؤلفه «ديوان المائدة»، بالكرنفال الغذائي، الذي «لا أحد يعرف مَنْ أطلق عليه اسم (الكسكس)»، هو الذي تجعل منه تركيبته شبه الكاملة «طعام الأطعمة»، بحيث يصير «المعادل الغذائي لكتاب الكتب عند بورخيس».
وبالنسبة لسرحان، فليس «الكسكس» طعاماً، «إنه الطعام (بتسكين الطاء) كما تنطقه العامة في غير منطقة من المغرب. وإذا كان (الكسكس) طعاماً جامعاً تقريباً، فإنه جماعي تماماً. ذلك أن قصعته لا ترضى بأقل من حلقة عائلية تُغذّي دفئها من حرارته. فتجد هذا يناول مما يليه ذاك، وتلك تغدق على هذه، والكبير يُلقِّم الصغير... في درس عن ثقافة التشارك لا أوضح منه خارج حصة (الكسكس)».
يشير سرحان إلى أن «الكسكس» يُقدم يوم الجمعة مأدبة، وفي العرس وليمة، وفي المأتم وضيمة، وحوله تنعقد حلقات الذكر، وأنه «يبارك ويعزّي ويُحسن ويُسبِّح مفصحاً، هكذا، عن مكارم الأخلاق وعمق الورع. وكما أنه ليس طعاماً بل الطعام، فهو ليس معروفاً فقط بل المعروف الذي لا يُؤْمَر به، وإنما يُسدى لكل ذي مسغبة. وكأي جدٍّ طاعنٍ في السن، فإن لـ(الكسكس) أبناءً وأحفاداً وأسباطاً يحملون الكثير من ملامحه. ولنا فقط أن نتملّى في السميدة والبَلْبولَة والعَصيدَة والصّيكوكْ والبرْكوكْش والدشيشة... لنرى كيف تفرّقت خريطته الجينية عشوائياً على نسله... إنه مفرد بصيغة الجمع.
والفضل في ذلك يعود إلى النساء اللواتي برعن وأبدعن في جنسه بما توافر لهن من خيرات الأرض. فلأصابعهن أسرار البلاغة والبيان التي تجعل من (الكسكس) سحراً، ولها لذّتها التي تصيبه فتعرّض آكله لقضم أصابعه من فرطها. فسلام عليهن، على النساء وهنَّ يَفْتِلْنه، وهن يُبَخِّرنه، وهن يطبخن لحمه وخضره، وهن يسقينه، وسلام عليهن إذ يُقدِّمنه طَبَقاً شهيّاً. إنه جمع بصيغة المفرد، فهو الكسكس باللحم والخضر، والكسكس المدفون، والكسكس المسقوف، والكسكس برأس الغنم، والكسكس بذيل البقر، والكسكس بالفول الأخضر، والكسكس بالقرْع الأحمر، والكسكس بالحمّص والزبيب، والكسكس بالقرفة والحليب... وكلما ابتعد عن المراكز والحواضر، استفحلت لذّته، وكأنه لا يكون رائقاً إلا قرب ربوعه الأولى حيث الحقل أسفل الحاكورة والساقية تتحدر إليهما معاً من مرتفعات الثغاء».


مقالات ذات صلة

كيف وأين تتناول طعاماً رائعاً وبأسعار مناسبة حول العالم؟

مذاقات ديكور مطعم فلوريج الجميل (الشرق الاوسط)

كيف وأين تتناول طعاماً رائعاً وبأسعار مناسبة حول العالم؟

ليس بالضرورة أن تنفق ثروة في تجربة مطعم رائد عالميّاً: إحدى طرق لتحقيق ذلك هي اختيار قائمة الغداء، التي غالباً ما تكون نسخة أقصر وأقل تكلفة من قائمة تذوق الطعام

«الشرق الأوسط» (لندن)
مذاقات بطاطس محشوة بالجبن ومقلية (الشرق الأوسط)

البطاطس حاضرة دائماً في كل مطبخ

تظهر البطاطس دائماً كبطلة متعددة الأدوار على المائدة، وتفرض حضورها بقوة في كل مطبخ، لتتألق في الوجبات كافة، سواء كطبق جانبي أو رئيسي.

محمد عجم (القاهرة)
مذاقات دفء الالوان يذكرك بمقاهي إيطاليا (الشرق الاوسط)

«إل غاتوباردو»... لمسة من السينما الإيطالية على موائد لندن

في قلب حي مايفير الأنيق في لندن، حيث تتقاطع الفخامة مع الذوق الرفيع، يبرز مطعم إل غاتوباردو (Il Gattopardo) كوجهة إيطالية تحمل سحر البحر الأبيض المتوسط.

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات من أكلات الخريف في اسطنبول (شاترستوك)

الخريف موسم السفر وتذوّق نكهات العالم

من الأطعمة المطهية على نار هادئة، والأسواق الزاهية بالألوان، إلى الأطباق المنزلية الدافئة، تتحوّل بعض المدن خلال هذا الفصل إلى جنّات حقيقية لعشّاق الطعام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق مجموعة من الأطباق الإيطالية واللبنانية من تنفيذ الشيف مارادونا يوسف (السفارة الإيطالية)

المطبخ الإيطالي يحتفل في بيروت بنسخته العاشرة

تقليد سنوي يُنظَّم حول العالم، وحطَّ رحاله في بيروت للسنة العاشرة على التوالي.

فيفيان حداد (بيروت)

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».