وثائق جميل مردم بيك تفنّد مزاعم إسرائيلية بأنه «عميل مزدوج»

تنشر مضمون أوراق أحد رجال الاستقلال السوري... ووصف الإنجليز له بأنه «زئبقي» ومحاولة الفرنسيين قتله

TT

وثائق جميل مردم بيك تفنّد مزاعم إسرائيلية بأنه «عميل مزدوج»

نُشر في صحف إسرائيلية الشهر الماضي، مقال للكاتب الإسرائيلي مائير زامير، زعم فيه أنه عثر على وثائق في الأرشيف الفرنسي تثبت أن رئيس الوزراء السوري في عهد الاستقلال جميل مردم بك، والمعروف كأحد أهم الشخصيات الوطنية السورية، كان في الواقع «عميلاً مزدوجاً» لبريطانيا وفرنسا، وأنه أعطى لشخص يهودي من دمشق، هو إلياهو ساسون، «معلومات مهمة عن ضعف الجيوش العربية مكّنت اليهود من الانتصار في حرب 1948».
جرى تداول المقال في مواقع إلكترونية عدة دون التحقق من صحة المعلومات الواردة. ومن يعلم كيف ينجز البحث الأكاديمي الموضوعي، يُلاحظ أن «الدلائل الدامغة» التي تحدث زامير أنه اطلع عليها وأنه سينشرها في كتابه الذي لم يصدر بعد، لم تكن مسندة بعد، وأن الأسلوب العام للمقال لا يرتقي إلى مستوى مقال عن دراسة تاريخية جادة وموضوعية.
ربما لم يخطر في بال زامير، أن جميل مردم بك من الشخصيات السياسية القليلة في الوطن العربي التي احتفظت بأوراقها كافة. ترك في منزله الأخير في القاهرة ما يزيد على عشرة آلاف وثيقة حول كل الأحداث المهمة التي مرت عليه أثناء تولّيه المناصب السياسية العليا من وزير المالية، ثم وزير الخارجية، ثم رئيس الوزراء، وأخيراً وزيراً للدفاع. احتفظ بكل ورقة شخصية أو رسمية كان من المفروض أن يودعها في مركز أرشيف حكومي في سوريا، لكن بعدما شاهد الانقلابات في بلده، قرر أن يبقيها في حوزته. وبعد وفاته حرصت العائلة على حماية هذه الأوراق على أنها ملك الشعب السوري، فأوكلتني العائلة بهذه المهمة. قمت بالعمل مع مركز أرشيف مختص من أجل تنظيمها بشكل مهني، ومن ثم ترقيمها لتشكل مجموعة محفوظات ترقى إلى مستوى الأرشيف المتوفّر في البلدان المتطورة، وسوف تصبح متاحة للمؤرخين قريباً.
تتشكل هذه المجموعة من مراسلات ومحاضر اجتماعات رسمية وخطابات ومذكرات وتقارير عن رحلات رسمية وتقارير سياسية تحليلية، كان يكتبها مردم بك بخط يده من وقت لآخر حول قضية أو حدث مهم. نجد أيضاً إيصالات مالية وتعليمات بتحويلات إلى جهات مختلفة، بينها إيصال بأمر تحويل مليون ليرة سورية إلى الصندوق الخاص لدى الجامعة العربية لمساعدة عرب فلسطين عام 1947.

تعمّد الكاتب الإسرائيلي تلويث سمعة مردم بك المعروف كشخصية وطنية عربية اشتهرت بمهارتها في العلاقات الدبلوماسية ومساهمتها الاستثنائية في الكفاح من أجل تحرير الأراضي العربية من الاستعمار، وخاض معارك سياسية ضارية من أجل استعادة الاستقلال والسيادة غير المشروطة للدولة السورية، وكذلك اتصالاته وجهوده التي بذلها بلا كلل من أجل إنقاذ فلسطين.
تشير غالبية المراسلات مع ممثلي الحكومة البريطانية إلى حرص مردم بك على إقامة علاقة قوية مع بريطانيا التي كانت في ذلك الوقت الدولة العظمى عالمياً، ومع بدء الحرب العالمية الثانية كان جيشها، يحمي منطقة الشرق الأوسط برمّتها ضد الجيش الألماني وقوى المحور النازي. أما فرنسا فكانت قد فقدت سيادتها واستسلمت لألمانيا النازية، وكان قائد المقاومة الفرنسية شارل ديغول آنذاك الذي لجأ إلى لندن، ليطلق منها المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي يعيش تحت رحمة الإنجليز، ومصيره السياسي مرتبط برضاهم عليه وحمايتهم له. كانت القوات الفرنسية المتواجدة في المنطقة موضع تصارع بين حكومة ڤيشي المتعاونة مع المحتل النازي من ناحية وبعض القوى التي اختارت المقاومة إلى جانب ديغول.

- جلاء... وشكوك
بين الملفات، مجموعة الوثائق حول العلاقات مع فرنسا منذ عشرينات القرن الماضي وحتى جلاء قواتها عام 1946. جزء كبير منها يخص المفاوضات حول المعاهدة التي تم إبرامها في 1936، والتي كان من المفروض أن تنهي الانتداب الفرنسي، لكن البرلمان الفرنسي لم يصدّق عليها، إضافة إلى ملف عن العلاقات مع بريطانيا بين الثلاثينات وحتى أواخر الأربعينات. وكانت سلمى مردم بك قد نشرت كتاباً استند إلى بعض هذه الملفات. هناك أيضاً وثائق حول علاقته بالدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي اتُهم بـ«العمالة لصالح البريطانيين»، بينما كان يهاجم جميل مردم بك ويحرض على المعاهدة التي توصل إليها الوفد المفاوض السوري بقيادة مردم بك مع فرنسا. لا مجال للتوسّع هنا فيما جاء في الوثائق، نكتفي بالقول، إن العداء السياسي الذي نما بين الرجلين يشكل مؤشراً آخر لتبرئة مردم بك من العمالة للبريطانيين، ويحوي الملف الرواية الكاملة حول اغتيال الشهبندر، واتهام رجال الكتلة الوطنية ومن بينهم مردم بك، ثم المحاكمة التي أدت إلى تبرئتهم بالكامل.
محاضر اللقاءات مع الفرنسيين والبريطانيين مكتوبة أو مطبوعة على ورق رسمي بعضها لرئاسة الوزراء وأخرى لوزارة الخارجية. وتكشف عن العلاقة التنافسية والمحفوفة بالشكوك بين فرنسا وبريطانيا آنذاك، وتشير إلى مباحثات حول مصالح بريطانيا في المنطقة والتي كانت المعلومات حولها متناقضة؛ إذ كان رئيس الوزراء ونستون تشرشل يصرّح بأنها تقتصر على ضمان خط مواصلات آمن بين جبل طارق والمحيط الهندي، وأن خارج ذلك يبقى العرب أحراراً في تنظيم أوضاعهم الداخلية والعلاقات فيما بينهم، بينما كان بعض أعضاء البرلمان والشخصيات الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية يسعون إلى التدخل في الحياة السياسية الداخلية السورية واللبنانية خلافاً لتعليمات رئيس وزرائهم.
اتفق القادة الوطنيون على الاستعانة بالإنجليز، وعلى رأسهم مردم بك بحكم منصبه وزير خارجية ثم رئيس وزراء، من أجل التصدي للضغط الذي كانت تمارسه فرنسا آنذاك، وكان يسعى باستمرار لحشد الدعم الدولي للتخفيف من ضغوط فرنسا وإجلاء جيشها من سوريا، فهناك رسائل إلى ممثلي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والدول العربية، بعضها بتوقيع مردم بك، وأخرى مشتركة من مردم بك وقادة لبنانيين، يحتجّون فيها على سلوك فرنسا في الوقت الذي كان قد تم الاعتراف باستقلال سوريا وأصبحت عضواً في هيئة الأمم.

- «عمالة» مزعومة
أما عن «عمالة مردم بك للفرنسيين»، فإن الأدلة التي يزعم زامير أنه وجدها في الأرشيف الفرنسي في لبنان تناقضه أحداث لا مجال للتأويل حولها. بعد أن كانت فرنسا قد وعدت بالاعتراف باستقلال سوريا كدولة ذات سيادة كاملة في 1941، ثم أصبحت الجمهورية السورية (اسم الدولة آنذاك) عضواً في هيئة الأمم المتحدة، أخذت فرنسا تتراجع عن التزامها وحاولت ممارسة ضغوطات على المسؤولين السوريين من أجل إبقاء القوات العسكرية الخاصة تحت قيادة فرنسية بينما كان مردم بك - بصفته وزيراً للدفاع في 1945 - يرفضها رفضاً قاطعاً، ويتهم الفرنسيين بالسعي إلى حرمان سوريا من جيش وطني والفرض عليها أن تكتفي بمجرد قوات درك وحرس حدود، ويطالب بإنهاء الدور العسكري الفرنسي ونقل قيادة القوات الخاصة لتصبح بأمرة السوريين. وقاومت فرنسا مساعي بريطانيا التي كانت تحظى بتأييد الولايات المتحدة، لحل القضية السورية - اللبنانية كما يطمح الشعبان ودون تقديم امتيازات للفرنسيين.
كيف لمردم بك أن يكون عميلاً للفرنسيين بينما يكتب ديغول في مذكراته، أنه كان على قناعة بأن البريطانيين يتآمرون مع القادة السوريين لطرد فرنسا من سوريا؟ لقد تحول مردم بك إلى عدو لدود للفرنسيين إلى درجة أن المندوب السامي الفرنسي الجنرال بيني تحدث عن فقدان الأمل منه ومن باقي القادة الوطنيين السوريين، وضرورة التخلص منهم باستبدالهم برجال تعاونوا مع فرنسا في الماضي.
من سوء حظ مردم بك، أنه وجد هو وزملاؤه الوطنيون أنفسهم وحيدين في مواجهة النمردة الفرنسية. في محضر جلسة مع مسؤولين بريطانيين بتاريخ 14 فبراير (شباط) 1945 استنكروا الضغوط والتهديدات التي كانت تمارسها فرنسا، ووعدوا مردم بك بأن بريطانيا ستستخدم نفوذها لضمان أن تجري المفاوضات مع الفرنسيين بشكل نزيه ودون ضغوط تمارسها فرنسا، لكن سرعان ما تراجعت بريطانيا قائلة في وثيقة أخرى، إن فرنسا عادت لتصبح دولة مستقلة ذات سيادة كاملة بعد تحريرها في 1944، وإنه يصعب على بريطانيا الضغط عليها، وبالتالي على القادة السوريين أن يجدوا سبل الاتفاق معها.
لم يكن للبريطانيين رغبة في مساعدة السوريين على تحقيق الاستقلال من دون ثمن، ألا وهو التبعية لهم عن طريق ضم سوريا إلى المملكة الهاشمية، وهذا ما وصفه مردم بك بـ«النفاق والغدر البريطاني».

- رجل «زئبقي»
بدأ البريطانيون يعبّرون عن انزعاجهم من مردم بك الذي لقبوه بوزير الخارجية «الزئبقي»، ثم غضبوا منه بشكل كامل حيال ما اعتبروه موقفاً متشدداً من الفرنسيين، وكان فقدان الثقة بينه وبين الإنجليز متبادلاً. وتشير وثائق عديدة في الخارجية البريطانية إلى أن البريطانيين سعوا في مناسبات عدة إلى تجاوز مردم بك والتوجه مباشرة إلى رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء.
بلغت حدة الخلاف بين القادة السوريين وفرنسا ذروتها في 1945، وأدت إلى قيام فرنسا بعدوان عسكري همجي؛ إذ قصف الطيران الفرنسي المباني الرسمية في دمشق ومنها البرلمان، واستهدف وزارة الخارجية تحديداً في محاولة لقتل مردم بك بعدما ألقى خطاباً متشدداً في البرلمان هاجم فيه الفرنسيين وهدد البريطانيين بفضح وثائق تشير إلى ضغوط مارسوها على القادة السوريين ليقبلوا بالشروط الفرنسية.
أي عميل هذا الذي يهاجم ويهدد علناً الدول العظمى، وكيف له ألا يخشى من أن يفضحوا عميلهم بدورهم؟ ولو كان مردم بك «عميلاً مزدوجاً»، فأين هي الخدمات التي قدمها إلى الفرنسيين أو البريطانيين أو الصهاينة الذين أعجبوا في البداية بدماثته ومهاراته الدبلوماسية، لكن سرعان ما غضبوا منه واعتبروه عدواً لدوداً حينما بدأ يستخدم مواهبه السياسية لمحاربة مصالحهم؟
وعن موقف مردم بك من مشروع إقامة «سوريا الكبرى» بقيادة هاشمية، تكشف أوراق مردم بك عن أنه حينما حاول السفير الأردني في دمشق عبد المنعم الرفاعي حشد دعم شعبي في سوريا للمشروع استدعاه مردم بك ليوبّخه وطلب منه إيقاف هذه البروباغاندا على الفور. وتؤكد الوثائق البريطانية هذه الرواية. فكيف يكون مردم بك متواطئاً من البريطانيين من أجل إنشاء «سوريا الكبرى» تحت الحكم الهاشمي؟
في محضر جلسة مع الجنرال سبيرز عام 1943 يؤكد مردم بك أن مصالح بريطانيا لا تتعارض مع مصالح العرب، وأن العرب يرغبون في أن تبقى بريطانيا حليفة لهم، بل الحليف الطبيعي. لكنه يضيف «لا شيء يعكّر صفو العلاقات بين الجهتين إلا فلسطين». وكان رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل قد بدأ يعبّر علناً في ذلك الوقت عن دعمه لقيام دولة يهودية وعن مشاعره المعادية للعرب.
نجد ضمن أوراق مردم بك حزمة من المراسلات الرسمية الموجهة إلى الحكومة البريطانية عن طريق السفارة السورية في لندن ورسائل إلى أعضاء في البرلمان البريطاني محسوبين من أصدقاء سوريا يناشدهم فيها الضغط على فرنسا كي تحترم ما تعهدت به للسوريين أمام بريطانيا بخصوص استقلال سوريا غير المشروط. وكان يطلب من الإنجليز أن يتواجدوا مع السوريين والفرنسيين أثناء مفاوضاتهم كي يضمنوا التزام الفرنسيين بإنهاء دورهم في قيادة القوات الخاصة ونقلها إلى قادة عسكريين سوريين.
كما تشمل الأوراق رسالة من وزير الخارجية الأميركي إلى الزعماء السوريين يؤكد فيها دعم بلاده نقل قيادة القوات العسكرية الخاصة التي تقودها فرنسا لتصبح جيشاً بقيادة سوريا.

- الوكالة اليهودية
أما عن دور جميل مردم بك في الملف الفلسطيني، فكان مثل غيره من الشخصيات الوطنية العربية يعي أن المشروع الصهيوني أصبح له دعم من الدول العظمى كافة، بل أصبح موضع توافق دولي، وأنه لن يصلح التعامل معه على أنه محض اعتداء على أرض عربية يمكن مقاومته بالسلاح وبسالة المقاتلين العرب فراحوا يبذلوا جهود دبلوماسية جبارة لمحاولة استدراك الخطر وأجروا مباحثات مكثفة في العقد ما بين 1936 و1946 مع كبار المسؤولين من الوكالة اليهودية، وكل من يستطيع التأثير فيهم من بريطانيين وأميركيين؛ سعياً لإنقاذ الأراضي العربية من المشروع الصهيوني. كان جميل مردم بك من بين هؤلاء وكان يؤمن بأنه يتوجب بذل أقصى الجهود في المجال الدبلوماسي من أجل تجنّب العرب حرباً قد تعود عليهم بنتائج كارثية.
لم يستمتع الوطنيون السوريون طويلاً بالاعتراف الدولي بسيادة الدولة السورية الفتية وقبولها عضواً في الأمم المتحدة إلا ووجدوا أنفسهم أمام خطة تقسيم فلسطين إلى دولتين عام 1947، والتي رفضوها مثلما رفضتها الغالبية الساحقة من القادة والشعوب العرب، وتلتها حرب وهزيمة للعرب، ثم اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل فور إعلانها عن استقلالها عام 1948.
يشير الدكتور نيل كابلان، وهو مؤرخ كندي من جامعة مونتريال مختص في الصراع العربي - الإسرائيلي، مستنداً إلى الأرشيف الإسرائيلي في كتابه حول الدبلوماسية الفاشلة في الصراعات إلى محاولات عديدة قامت بها شخصيات أغلبها من العرب، غير الفلسطينيين، والبريطانيين للوساطة بين عرب فلسطين والصهاينة. ويذكر من بين الأسماء التي عثر عليها في الأرشيف البريطاني والإسرائيلي جميل مردم بك وعبد الرحمن الشهبندر، واللبنانيين رياض الصلح وأميل إدّة، والمصري إسماعيل صدقي والبريطاني الشهير الكولونيل لورنس، كلها محاولات لإيجاد حل مقبول بين اليهود وعرب فلسطين من خلال عشرات اللقاءات التي دوّنها مردم بك بالكامل في أوراقه الرسمية. وحول هذه المساعي الحميدة كتب إلياهو ساسون، أن مردم بك، «تحول في أعين الصهاينة من متفهّم لضرورة إيجاد حل سلمي إلى اعتباره من أشرس أعداء الصهاينة».
كتب كابلان عن جميل مردم بك، أنه «في فترة الثلاثينات سعى أحد العملاء الصهاينة إلى ابتزاز مردم بك من خلال محاولة استغلال خوفه من النفوذ اليهودي لدى الحكومة الفرنسية (حيث كان البرلمان الفرنسي يناقش المعاهدة الثنائية للمصادقة عليها)؛ وذلك من أجل كسب دعم مردم بك في كبح النشاطات المناصرة للفلسطينيين من قبل بعض الشخصيات القيادية السورية... لكن مردم بك لم يتجاوب مع هذه المحاولات، بينما تعاون زعماء لبنانيون بشكل فعال في دعم جهود الصهاينة للحد من نشاطات المفتي حج أمين الحسيني وأتباعه».
يقول بعض المراقبين العقلاء بأنه لا يجوز الحكم على مرحلة تاريخية بأعين وذهنية مرحلة أخرى، وهذا فيه شيء من الصحة. لكن عمل المؤرخ الجاد هو تحديداً البحث في مجموعات عديدة من الأرشيف لاستيعاب كل معطيات الحقبة التاريخية التي يدرسها وفهم الظرف الذي قاد شخصيات تاريخية إلى القيام بخطوات معيّنة واتخاذ قرارات بشؤون حساسة، وهذا جهد يستغرق سنوات طويلة.
يعلم الباحثون في تاريخ فلسطين أن المؤرخين الإسرائيليين قاموا بنشر كتب عديدة حول تاريخ الحركة الصهيونية وظروف إنشاء الدولة اليهودية مستندين إلى أرشيف تحفظه المؤسسات الإسرائيلية. بعضهم عمل بصدق وكشف عن خطة طرد الفلسطينيين من بلادهم بينما كانت الحكومات الإسرائيلية المتتالية تنفيها، وبعضهم تحول إلى نجوم بفضل كتاباته، لكن البعض الآخر عمل بنوايا خبيثة فالمدعى زامير معروف لدى المؤرخين المحترمين، ومنهم مؤرخ فرنسي عريق ألف مجلدات عن هذه الحقبة التاريخية ومطّلع على الأرشيف الفرنسي بأكمله، بأن زامير مؤرخ يفتقد للمصداقية، وأنه معروف بمحاولاته السابقة لتزييف المعلومات، وأنه يجيّر كل ما يطّلع عليه ليحوله إلى روايات استخباراتية وحكايات عن العمالة. وبهذا يسعى إلى إثبات السردية الإسرائيلية القائلة، إن القادة العرب، وخاصة كبار الشخصيات الوطنية، كانوا في الواقع لا يعارضون قيام الدولة اليهودية ومعنيين بمصالحهم وطموحاتهم الشخصية، وقد باعوا قضية عرب فلسطين منذ ذلك الزمن.
- باحثة أكاديمية سورية





الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!