«لزوم ما لا يلزم»... صندوق فرجة من نوع آخر

معرض يلقي الضوء على أدوات تشهد لحقبات زمنية مضت

نراجيل وأزياء قديمة في معرض «لزوم ما لا يلزم»
نراجيل وأزياء قديمة في معرض «لزوم ما لا يلزم»
TT

«لزوم ما لا يلزم»... صندوق فرجة من نوع آخر

نراجيل وأزياء قديمة في معرض «لزوم ما لا يلزم»
نراجيل وأزياء قديمة في معرض «لزوم ما لا يلزم»

الشّعور بالحنين لأيام غابرة وكل ما يلفها من ذكريات وأجواء خاصة بها، هي بمثابة فسحة فكرية نركن إليها في كل مرة نرغب بالانفصال عن حاضرنا ولو للحظات قليلة، وعادة ما يرافقها عبارة «رزق الله»، فنردّدها لاشعورياً لنعبّر عن اشتياقنا لتلك المحطات التي نرفض أن ننساها.
اليوم في زمن التطور الإلكتروني نفتقد إلى أدوات وأغراض يدوية وحرفية اندثرت مع الوقت وما عادت تلزمنا. وإذا ما رأيناها صدفة معلّقة في بيت قديم أو معروضة في متجر للأنتيكا تستوقفنا وكأنّها تنتسب إلى عالم آخر.
ويندرج معرض «لزوم ما لا يلزم» الذي أطلقته دار النمر للفن والثّقافة تحت عنوان «صندوق الفرجة»، على لائحة أيام عالبال. ويجمع أكثر من 200 قطعة فنية وأدوات حرفية وصناعات قديمة أصبح من النادر مصادفتها حالياً.
لكل قطعة معروضة قصّتها وحكايتها وبينها ما يعود تاريخها إلى مئات السنين، وأخرى إلى ماضٍ حديثٍ يقع في القرن التاسع عشر. أغراض من الحقبة العثمانية، وأخرى من فلسطين، وثالثة من مدن لبنانية تتوزع على محتويات المعرض. بعضها كان رائجاً اقتناؤه في البيوت، وربما لا يزال قابعاً في علياتها. جزء آخر يضمّ مجموعة حرفية من المستوى الرفيع فصارت تشكّل عنصراً من ديكورات منازلنا نفتخر بها. وبموازاة الأدوات والأغراض يخصّص المعرض أركاناً تحكي عن شخصيات خلّفت إرثاً ثقافياً أو فنياً أو سياسياً وراءها.
عند مدخل المعرض تستقبلك لوحتان إحداها زيتية وأخرى مائية تحكيان عن الباخرتين فيكتوريا وشامبوليون. الأولى غرقت قبالة بحر طرابلس في عام 1893، والثانية على ساحل الأوزاعي في عام 1952. كارثتان بحريتان نتذكرهما من خلال معرض «لزوم ما لا يلزم» ونطّلع على تفاصيل صغيرة رافقت النزلاء في لوائح الطّعام المحضرة من مطبخ إحدى أشهر البواخر الفرنسية وأفخمها (شامبوليون) التي كان على متنها 230 راكباً بينهم 26 شخصاً لقوا حتفهم.
ومقابل هاتين اللوحتين يقع نظرك على ساعة خشبية ضخمة تعود إلى القرن السابع عشر، كانت تعرف بالـ«باندول»، من ثمّ أخذت اسم «ساعة الجدّ». تضم هذه الساعة التي صُنعت في هولندا بين عامي 1715 و1750، قرصاً لأطوار القمر وعقرباً للثواني، وقوام الساعة مصنوع من الخشب الملبّس. أمّا صندوقها فهو ذو شكل تقليدي تزينه مجسمات أشخاص تتحرك وتنشر الموسيقى عند مرور كل ساعة من الوقت.
وتختلف الأغراض المعروضة في فناء الصّالة الأولى من الطّابق الثاني لدار النمر في بيروت. فتشمل قناع الموت الذي كان متبعاً في قرون ماضية لإحياء ذكرى الشّخص الرّاحل. وكذلك أعمال منحوتة للفنان التشكيلي السوري مصطفى علي، وهي كناية عن مقصلة خشبية تحوطها الرؤوس الخشبية المقطوعة بواسطتها. وعلى لوحة مصنوعة من الخزف والخشب نشاهد مجموعة ممرضات تابعات لمؤسسة الهلال الأحمر يقمن بمهمتهن في أحد مستشفيات فلسطين.
وفي واجهات زجاجية استحدثتها دار النمر خصّيصاً لعرض بعض المقتنيات، تلفتنا ألعاب للأطفال مصنوعة من خشب سفن وسيارات، وقطار مصنوع من النّحاس، وصندوق موسيقى خشبي، وآخر لتخزين العملات المعدنية يعرف بـ«القجة»، وجميعها يعود تاريخها إلى قرون ماضية.
وبين فتاة الـ«مانيكان» الخشبية التي كانت بمثابة لعبة تُهدى إلى الفتيات الصغيرات الأرستقراطيات، وعلب سجائر معدنية تعرض إلى جانب كدسات ورق لف التبغ، تدور بجولتك في هذا المعرض الجامع، لتجد أشكالاً وألواناً من التحف والأغراض. كما يحتوي المعرض على أقسام خاصة بالسينما من خلال ماكينة قديمة لعرض الأفلام السينمائية وبطاقات صالات سينمائية وأخرى مسرحية كـ«شوشو بك في صوفر» و«لولو» للسيدة فيروز. فيما نشاهد أوراق ياناصيب وكتيبات صغيرة وبورتريه لناصيف اليازجي في ناحية أخرى. ويحضر في المعرض أيضاً صابون من فلسطين وحقيبة يد تذكارية عليها قبة الصّخرة والمسجد الأقصى وقبعات نسائية حديدية وأخرى رجالية، تعود إلى التراث التركي القديم.
وتشير المشرفة على المعرض مهى القبيسي في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنّ بعض محتويات المعرض تعود لدار النمر للثّقافة والفن، فيما أخرى استعيرت من أشخاص كانوا يحتفظون بها وكأنها كنز قيم. وتضيف: «هذه الأغراض لها دلالات لحالات اجتماعية ولقطاعات عمل ومهن حرفية زالت. كما تلقي الضوء على تاريخ مدينة بيروت من خلال لوحات وكتيبات تحكي بعضها عن شارع المتنبي في وسط العاصمة».
وتختم جولتك في المعرض وأنت تتفرّج على آلة طباعة قديمة (دكتيلو) وزجاجات مشروبات غازية، اشتهرت في السبعينات «كندا دراي» و«جلول» و«كراش». كما نجد ملصقات إعلانية وأخرى خاصة بأفلام سينمائية من بطولة صباح وعمر خورشيد (غيتار الحب). ولعزت العلايلي وناهد شريف (ذئاب لا تأكل اللحم)، وملصق إعلاني آخر لفيلم «أبطال وفاء» من بطولة الأخوين سعادة، اللذين اشتهرا في رياضة المصارعة الحرة في السبعينات.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)