انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

واجه «الحرس القديم» وأحكم قبضته على أذربيجان... وعيّن زوجته نائباً للرئيس

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف
TT

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

لم يكن رئيس أذربيجان إلهام علييف الذي يتربع على سدة الحكم في بلاده منذ نحو عقدين، في حاجة إلى نصر عسكري حاسم في إقليم ناغورنو قره باغ من أجل تثبيت أركان حكمه. ذلك أنه نجح عبر أربع ولايات رئاسية متتالية، في إضعاف خصومه، وفرض سلطات مطلقة في الجمهورية القوقازية السوفياتية السابقة.
إلا أن الزعيم القوي الذي عاش طوال حياته في جلباب أبيه حيدر علييف، الرئيس القومي صاحب لقب «صانع الاستقلال»، كان يحتاج بقوة إلى رفع رايات «نصر عظيم» ليعزز صورته وإنجازاته كبطل قومي، ليكون أول مرسوم رئاسي يصدره بعدما وضعت «حرب قره باغ» الأخيرة أوزارها تحديد العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام «عيداً للنصر». هذه الهالة التي سيدخل علييف الابن سجلات تاريخ البلاد من بوابتها، تشكل سلاحاً إضافياً لتثبيت مقعده الرئاسي مدى الحياة، مهما بلغت حدة التعقيدات والصراعات في الفضاء المحيط. بعبارة أخرى، لم يعد الزعيم الذي يطلق عليه البعض صفة «الملك المتوّج» يخشى تداعيات «الثورات الملوّنة» التي هزّت الكراسي في بلدان مجاورة، وأطاحت كثيرين من زملائه السابقين... فمن ذا الذي يجرؤ الآن على تحدي «بطل الانتصار العظيم»؟
لا شك أن للنصر الذي حققت القوات الأذربيجانية في إقليم ناغورنو قره باغ الذاتي الحكم على الانفصاليين الأرمن، رمزية خاصة للرئيس الأذري، الذي ارتبط تاريخ عائلته بالنزاع المزمن مع أرمينيا. إذ إن والده، حيدر علييف، أول رئيس لأذربيجان بعد «إعلان الاستقلال» في نهاية العهد السوفياتي (والقيادي البارز سابقاً في السلطة السوفياتية)، ولد في ناخيتشيفان (نخجوان)، الإقليم الأذري الواقع داخل الأراضي الأرمينية. ثم إن عائلة علييف نفسها تتحدّر من قرية جومارتلي في منطقة زانجيزور، التي سميت فيما بعد سيسيان. والمنطقة كانت في مرحلة من التاريخ جزءاً من أذربيجان، لكنها الآن مدينة سيونيك في أرمينيا.
- نشأة مثيرة وظروف تاريخية
ولد الهام علييف في عام 1961، ونشأ في أحضان السلطة السوفياتية؛ إذ كان والده رئيساً لجهاز الاستخبارات الرهيب المعروف اختصاراً باسم الـ«كي. جي. بي». في أذربيجان. ثم ترأس الجمهورية كسكرتير أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية، قبل أن ينتقل إلى موسكو، حيث عمل نائباً لرئيس مجلس الوزراء (الحكومة) في الاتحاد السوفياتي المنحل.
لذا؛ لم يكن صعباً بالنسبة إلى إلهام الذي تخرّج عام 1977 من المدرسة الثانوية أن يلتحق فوراً بـ«معهد العلاقات الدولية» في موسكو، وهو المعهد المرموق التابع لوزارة الخارجية، الذي تخرّج فيه أبرز رموز الدبلوماسية الروسية، وبينهم رئيس الوزراء الراحل يفغيني بريماكوف ووزير الخارجية حالياً سيرغي لافروف.
في وقت لاحق سوف يتذكر إلهام علييف تلك المرحلة ليقول لأحد الصحافيين «تم قبولي على أساس شهادة تنص رسمياً على أنه في غضون خمسة أشهر فقط سأبلغ من العمر 16 سنة. كانت السنة الأولى من الدراسة هي الأكثر مسؤولية. إن الدراسة في باكو (عاصمة أذربيجان) لابن السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأذربيجاني شيء... والدراسة في موسكو شيء آخر تماماً، في بيئة مختلفة، وحتى في هذه السن المبكرة. لكنني لم أخيّب ظن والدي، فقد درست جيداً في المعهد، ثم نجحت في الدراسات العليا».
في عام 1985، بعدما دافع إلهام عن أطروحته للحصول على درجة مرشح العلوم التاريخية، عمل في التدريس بالمعهد الدبلوماسي ذاته، لسنوات محدودة عاد بعدها إلى باكو عام 1991 عندما كان الاتحاد السوفياتي يلفظ أنفاسه الأخيرة. غير أن تلك الفترة كانت مهمة جداً، لكونها مهّدت لبروز نجم «ابن الرئيس الأذري» داخل الأوساط الدبلوماسية الروسية، وهي المرحلة التي تلتها خطوة أخرى لا تقل أهمية، مهّدت لبناء إلهام علييف علاقات وثيقة ظلت مستمرة لسنوات طويلة لاحقا مع تركيا.
حصل ذلك، بعدما انخرط إلهام علييف في الأعمال الخاصة. وسرعان ما أصبح رئيساً لشركة «أورينت» المتخصّصة في مجال النفط، لينتقل عام 1992 انتقل إلى إسطنبول، حيث ارتبط النشاط الرئيسي للشركة بتركيا. وفي العام التالي عاد إلهام إلى أذربيجان بعدما غدا والده رسمياً رئيساً للجمهورية الوليدة على أنقاض الدولة العظمى السابقة. ومنذ ذلك الوقت، لم يكن للحظة بعيداً عن السلطة في بلاده. ذلك أنه شغل في السنوات بين 1994 إلى 2003 منصب نائب الرئيس، ثم النائب الأول لرئيس SOCAR (شركة النفط الحكومية لجمهورية أذربيجان). ما يعني أنه شارك عملياً في تنفيذ «استراتيجية النفط لحيدر علييف».
خلال تلك الفترة، انتُخب عام 1995 نائباً في البرلمان، وظل في موقعه النيابي مع عمله في الشركة النفطية العملاقة، حتى تولى في أغسطس (آب) 2003 منصب رئيس وزراء جمهورية أذربيجان، وهو المنصب الذي بقي فيه مدة شهرين فقط، بتوصية من والده تمهيداً لانتقاله إلى مقعد الرئاسة.
- رئيساً لأذربيجان
حصل علييف الابن على أصوات نحو 80 في المائة من الناخبين، وسط تشكيك واسع من جانب مراقبين دوليين تحدثوا عن انتهاكات عديدة، ولم تعترف المعارضة الأذربيجانية بنتيجة الانتخابات. وفي اليوم التالي تحرك أكثر من 3000 من أنصار أحد مرشحي الرئاسة المعارضين من حزب المساواة على طول الشوارع المركزية بالعاصمة باكو، لكن التحرك قُمع بسرعة، وظهر علييف على شاشة التلفزيون الوطني ليقول:
«أؤمن بمستقبل سعيد لأذربيجان. أنا واثق من أن بلادنا ستستمر في التطور والتعزيز. ستحصل الديمقراطية في أذربيجان على مزيد من التطور، وسيصار إلى ضمان التعددية السياسية وحرية التعبير. ستصبح بلادنا دولة حديثة. لتحقيق كل هذا، يجب عمل الكثير في أذربيجان. ولكن من أجل تنفيذ كل هذا وتحويل أذربيجان إلى دولة قوية، من الضروري، أولاً وقبل كل شيء، مواصلة سياسة حيدر علييف في البلاد». هذه الكلمات كرّرها مرات عدة. وفي مقابلة مع صحيفة حكومية روسية، قال إن «أذربيجان اليوم هي عمل حيدر علييف، ويمكنك التحدث لساعات عما فعله للبلاد. ويجب أن نواصل مسيرته. لقد جاهدت دائماً وسأسعى لأكون مثل والدي».
عكست تلك العبارات جوهر المشكلة التي يواجهها الرئيس الشاب، الذي راكم خبرات عملية في شركات النفط، لكنه ما زال يفتقد الخبرات السياسية، كما أنه يفتقد «الكاريزما» التي كان يملكها والده. لقد ظل لسنوات يعيش على التركة السياسية لوالده صانع الاستقلال و«باني أذربيجان الحديثة».
لذا؛ سادت توقعات بأنه لن يكون قادراً على اتباع أسلوب قيادة صارم. لكن الأمر لم يقتصر على قدراته وخبراته؛ إذ اضطر إلهام علييف إلى الاعتماد كلياً على النخبة الحاكمة القديمة، وشغل أولئك الذين احتلوا مواقع مؤثرة في عهد الرئيس الأب جميع المناصب الوزارية المهمة. واستغرق الأمر سنتين للتحضير لتغيير الجهاز الرئاسي وتشكيل فريق مقرب منه.
- الانقلاب على الحرس القديم
في أكتوبر (تشرين الأول) 2005، أعلنت أذربيجان إحباط محاولة انقلاب، وجرى اعتقال 12 من أبرز الشخصيات في البلاد، بينهم وزير التنمية الاقتصادية ووزير المالية ووزير الصحة والرئيس السابق لأكاديمية العلوم في البلاد. وكان البعض، يعتقد وفقاً لتقارير، أن إلهام علييف لن يستطيع حكم البلاد. حتى أن أوساطاً اعتبرته شخصية انتقالية ستضمن انتقالاً ناجحاً إلى عضو آخر في النخبة الحاكمة. لكن اتضح أن إلهام كان سياسياً أكثر ذكاءً بكثير من تلك الافتراضات.
لقد أدرك أن التهديد الأكبر لحكمه لم يأت من المعارضة الهشة، بل من النخبة الحاكمة. فلقد أسفرت وفاة حيدر علييف عن إطلاق أيدي العديد من العناصر النافذة المؤثرة في «الحرس القديم» الذي ارتضى مرغما نقل السلطة إلى «شاب عديم الخبرة» كي يواصل التحكم بمفاتيح القرار في البلاد. وكان يترأس تلك المجموعة عمّ الرئيس، جلال علييف، وأقرب معاونيه علي إنسانوف وهو رئيس عشيرة إيراز (الأذربيجانيون من أرمينيا) ومؤسس حزب «أذربيجان الجديدة» الحاكم.
إلا أنه خلافاً لتوقعات الجميع، تعامل إلهام بقسوة مع خصومه السياسيين. إذ اعتقل إنسانوف وعدداً من أفراد عائلة علييف الممسكين بمواقع مهمة، بتهمة الوقوف وراء محاولة الانقلاب وأدينوا بالفساد والاختلاس. وأقدمت الحكومة على قمع المعارضة بعد الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2005.
هذه الإجراءات ساعدت، طبعاً، على محو صورة الرئيس على أنه ضعيف، وإن كانت قد نسفت في الوقت ذاته صورته كمصلح. ولكن المهم في اعتقال إنسانوف، زعيم إيراز، أنه بشّر بالنهاية الرمزية لحكم العشائر. ورغم أن بعض الشخصيات من إيراز واصلت الاحتفاظ بمعظم المناصب الرئيسية، فإن الولاء الشخصي والقرب من الرئيس أصبحا أكثر أهمية من الانتماء إلى عشيرة أو أخرى.
وعلى عكس والده، الذي اعتمد على عشيرته بالدرجة الأولى، اتجه إلهام إلى العمل مع أناس نشأوا في العاصمة باكو ونجحوا في العديد من الأحيان في الأعمال التجارية. وعموماً، ساهمت الإيرادات الكبيرة من صادرات النفط في تعزيز السلطة الرئاسية وتقوية هيمنة الأوليغارشية.
- تعديلات دستورية... ورئاسة مدى الحياة
أثناء الدورة الرئاسية الثانية أجرى إلهام علييف استفتاءً في البلاد لتعديل الدستور عام 2009، بمبادرة من حزب «أذربيجان الجديدة» الحاكم. وبحسب نتائج الاستفتاء صوّت 90 في المائة من المقترعين لصالح التعديلات. ومن التعديلات التي جرت الموافقة عليها منح الرئيس حق الترشح أكثر من مرتين. وهو ما مهد الطريق أمام إلهام لإنهاء الجدل الداخلي حول خلافته، مع أنه كان هناك اعتقاد شائع بأن الاستفتاء كان يهدف إلى توضيح للمتنافسين داخل النخبة الحاكمة أنه لا داعي للخوف من تغيير السلطة في المستقبل القريب. في أي حال، اتهمت المعارضة علييف بالعمل على تحويل أذربيجان إلى نظام حكم ملكي، واعتبرت المفوضية الأوروبية الاستفتاء «خطوة خطيرة إلى الوراء»، ووصفت منظمات دولية عدة، أذربيجان بأنها «بلد ركز فيه الرئيس سلطة واسعة بين يديه».
ووقع الاستفتاء الدستوري التالي خلال الولاية الرئاسية الثالثة عام 2016. هذه المرة بادر إلهام علييف نفسه إلى الطُلب من المواطنين التصويت لزيادة فترة الرئاسة من 5 إلى 7 سنوات، واستحدثت مناصب النائب الأول للرئيس ونواب الرئيس. وكان بين التغييرات المثيرة للجدل نقطتان أخريان تؤثران على أنشطة السلطتين التشريعية والتنفيذية. ففي عهد حيدر علييف - عندما كان إلهام رئيساً للوزراء - نظّم استفتاء نقلت على إثره نقل صلاحيات رئيس الدولة، في حال رحيله المبكر، ليس إلى رئيس مجلس النواب، بل إلى رئيس الوزراء. وفي هذه المرة، طُلب من المواطنين إقرار تعديل مختلف ينصّ على أنه إذا ما استقال الرئيس طواعية، فلا تنتقل صلاحياته إلى رئيس الوزراء، بل إلى النائب الأول للرئيس. ووفق على جميع التعديلات الـ29 في استفتاء عام 2016 بمستويات دعم تراوحت بين 90 و95 في المائة من الأصوات. ومجدداً، انتقد «مجلس أوروبا» هذا الاستفتاء، ووصفه بأنه ضربة جديدة للتطور الديمقراطي في البلاد.
ولكن، سرعان ما اتضحت بعد مرور ثلاثة أشهر على إقرار التعديلات الدستورية الجديدة، أهداف إلهام علييف منها. إذ أصدر في فبراير (شباط) 2017 مرسوماً رئاسياً بتعيين زوجته مهريبان لمنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية. وللعلم، كانت السيدة الأولى منذ 2005 نائبة في البرلمان، إلا أنها غدت مع التعديلات الدستورية صاحبة سلطة واسعة جدا، ومرشحة أكثر من محتملة للرئاسة في حال تعرّض الرئيس لأي طارئ. وبطبيعة الحال، آثار هذا التعيين عاصفة من الجدل في أوساط الباحثين.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.