قاعة جديدة للموسيقى الكلاسيكية في باريس بعد 45 عاما من النقاش و7 سنوات من الإنشاء

بلغت تكلفتها 455 مليون دولار وتتسع لـ2400 مشاهد

قاعة جديدة للموسيقى الكلاسيكية في باريس بعد 45 عاما من النقاش و7 سنوات من الإنشاء
TT

قاعة جديدة للموسيقى الكلاسيكية في باريس بعد 45 عاما من النقاش و7 سنوات من الإنشاء

قاعة جديدة للموسيقى الكلاسيكية في باريس بعد 45 عاما من النقاش و7 سنوات من الإنشاء

بعد نحو نصف قرن من النقاش والتخطيط والتعديل والتأخير افتتحت أمس أول قاعة جديدة للموسيقى الكلاسيكية بحضور رئيس الجمهورية الفرنسية فرنسوا أولاند وغياب صاحب الفكرة قائد الأوركسترا الفرنسي المرموق بيير بوليز (نحو 90 سنة) بسبب مرضه. ستصبح القاعة مقرا لأوركسترا باريس وأوركسترا راديو فرنسا ولحفلات المجموعة الحديثة التي أنشأها بوليز والفن الباروكي القديم (ليه أر فلوريسانت). يشعر الزائر لها لأول مرة بأنها تشبه «حديقة الموسيقى» في روما التي افتتحت قبل 15 عاما بعد تأخير مماثل.
وصلت تكلفة المشروع إلى 455 مليون دولار أو ضعف الميزانية الأصلية واستغرق البناء 7 سنوات ولم يكتمل تماما حتى الآن، ويتسع البناء الجديد إلى 2400 مشاهد كما صممه المهندس المعماري الفرنسي جان نوفيل (نحو 70 سنة) مصمم معهد العالم العربي في باريس عام 1987 وعدد كبير من الأعمال الرائعة في لندن والدنمارك وقطر.
وتجدر الإشارة إلى أن عاصمة النور والثقافة لم تشهد حدثا هاما مماثلا منذ عام 1989 حين افتتحت دار أوبرا الباستيل أثناء عهد رئيس الجمهورية الراحل فرنسوا ميتيران. التصميم كان على شكل طائر مهاجر وآلاف صفائح الألمنيوم على نمط طيران الحمائم. والمقاعد في الداخل موزعة بشكل دائري غير منتظم حول مقر الفرقة الموسيقية في الوسط بطريقة تشبه مقر أوركسترا برلين الفلهرمونية.
جرت حفلة الافتتاح تحت حراسة مشددة بعد الأحداث الدامية في العاصمة الفرنسية في الأسبوع الماضي لأن موقع «مدينة الموسيقى» الجديدة يكمن في ساحة نافورة الأسود (بلاس فونتين أو ليون بالفرنسية) في الشمال الشرقي لباريس بين الأحياء الشعبية الفقيرة والأحياء الغنية المترفة.
اشتمل برنامج الحفلة على القداس الذي ألفه الموسيقار الفرنسي غابرييل فوريه ثم على باليه دافني وكلويه للموسيقار الفرنسي موريس رافيل الذي قدم القطعة لأول مرة في الصالة القديمة للعزف صالة بليل بوسط العاصمة في عشرينات القرن المنصرم. قاد أوركسترا باريس ببراعة ملحوظة بافو يارفي وأصل عائلته من إستونيا ووالده نيمه يارفي قائد مشهور للأوركسترا في العالم.
كنت محظوظا في الشهر الماضي برؤية آخر حفل هام في قاعة بليل التي أنشئت عام 1839 وكانت تتسع لـ300 مقعد فقط ثم توسعت مؤخرا إلى 1900 مقعد، حيث استمعنا إلى السيمفونية الثالثة والكونشرتو الأول للبيانو لبراهمز. قائد الأوركسترا الهولندي برنارد هايتنك كان رائعا كالعادة في قيادة أوركسترا الغرفة الأوروبية وأكد تلك الروعة مجددا بمصاحبة عازف البيانو الأميركي الشهير إيمانويل إكس ذي الأصل البولندي.
وكان الموسيقار الألماني براهمز قد ذكر في عام 1872 أنه من الصعب تأليف السيمفونيات بعد ما أبدعه بيتهوفن في هذا المجال لكن سيمفونيته الثالثة نالت نجاحا باهرا في فيينا مما أنساه الجهد والتعب الذي بذله لتأليفها خلال عامين كاملين. طريقة هايتنك في تقديم هذه السيمفونية التقليدية كانت محكمة وسرعته كانت مثالية فلا هي سريعة أكثر من اللازم ولا بطيئة أكثر مما تحتمل. ولا شك أنه من أبرع قادة الأوركسترا الأحياء في العالم فلديه خبرة واسعة بعد بلوغه الخامسة والثمانين من العمر وحس موسيقي مرهف يبرز الطابع الأوروبي الشمالي لتلك القطعة بجوها القاتم أحيانا والبسيط والجدي أحيانا أخرى ثم النهاية الكلاسيكية الدرامية. أما براعة إيمانويل إكس في الكونشرتو الأول للبيانو فلا نظير لها فالقطعة كانت مثل سيمفونية يصاحبها البيانو لكن الأوركسترا تتبارى مع البيانو في عزف أرق وأقوى الألحان ثم تنتهي القطعة بحركة دائبة وروح شبابية متفائلة تعكس نفسية براهمز حين ألف القطعة في شبابه.
تستعد القاعة الجديدة لاستقبال كبار الفنانين والعازفين العالميين مثلما كانت تفعل قاعة بليل خلال 175 عاما لأن باريس ستبقى مع نيويورك أهم مركزين للثقافة والفن في العالم. المشكلة العملية الوحيدة الآن هي صعوبة الوصول إلى مدينة الموسيقى الجديدة وتكلفتها التي قد تصل إلى نفس سعر بطاقة الدخول تقريبا.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».