هل يعود المنفيون حقاً؟

رواية «عودة إلى وادي الخيول» لكريم كطافة

هل يعود المنفيون حقاً؟
TT

هل يعود المنفيون حقاً؟

هل يعود المنفيون حقاً؟

وادي الخيول أو «كلي هسبه» هو المكان الذي قُتل فيه قاسم علي جاسم، أو قاسم جمعية، واسمه الحركي هناك محمد، وهو كذلك وادٍ خلف سلسلة جبال «كارا» في دهوك - شمال العراق، حيث اتخذه فصيل شيوعي ضمن حركة الأنصار المعارضين لنظام صدام، في ثمانينات القرن الماضي، مقراً لهم، ومنطلقاً لعملياتهم العسكرية ضد القوات الحكومية. وإلى ذلك المكان الموحش المعادي بطبيعته الجبلية القاسية لكل شيء عاد كريم كطافة في روايته الأحدث «عودة إلى وادي الخيول» (دار «سطور»، بغداد، 2020). لكن «وادي الخيول» ليس ذلك الجبل الأجرد المتصل بحدود البلاد الشمالية فقط. إنه كذلك، وبتشديد خاص، العراق الذي لم يعدّ مسرحاً للخيول. في ليلة احتلال بغداد، وفي شقة المنفيين في روتردام بهولندا، يقرر المنفيون الأربعة العودة لبلادهم، وكأنه القرار المنتظر والمخبأ في زاوية ما من عقولهم. شاشة التلفزيون تعرض أمامهم مشاهد تقدُّم الدبابات على جسور بغداد، وتبقى معهم حتى تصل إلى لحظة إسقاط تمثال صدام في ساحة الفردوس وسط بغداد. انتهى المنفى إذن. ولم يعد هناك ما يمنع المنفيين من العودة إلى أهلهم وبلادهم.
ولكن إلى أي عوالم وأمكنة يعود المنفيون؛ إلى مدن غادروها قبل ثلاثين عاما مثلاً، أم يعودون إلى والدين ماتا أو لم يعد بصرهما يساعدهما على رؤية الداخلين عليهما، أم تراهم يعودون لأشقاء ماتوا في حروب البلاد الكثيرة، أم يعودوا إلى أبناء أشقاءٍ وشقيقاتٍ ولدوا بعدهم، فلا صلة ولا ذاكرة تجمعهم بهم؟ قد نقترح سؤالاً أكثر حرجاً: هل يعود المنفيون حقاً؟ تشتبك الرواية مع هذه الأسئلة ابتداء من عنوانها ذي الإشارات المضطربة، مروراً بعوالمها السردية، وليس ختاماً بحجمها المفرط وتأويلها الرمزي لاستحالة العودة ذاتها.
في الليلة الكبرى، ليلة احتلال بغداد، يعود الراوي، الشخصية الرئيسية التي تتولى نقل عوالم الرواية، بعد ليلة عاصفة وطويلة، إلى بيته في روتردام مشياً. تتردد المرأة الصينية التي فاتها الترام الأخير بمرافقته، ثم تلحقه. كان الراوي بحاجة لمن يسمعه دون مناكدة، كان بحاجة لتفريغ ذاكرته قبل أن يصل إلى الجنوب. وهي لحظة فائقة اختارها الكاتب بعناية بالغة؛ فلا لغة مشتركة تجمعه مع تلك المرأة الصينية سوى أنهما يسيران صوب الجنوب إلى بيتيهما، وأن كلا منهما يريد أن يمثِّل الآخر دور المستمع. في الساعة الأخيرة من عمر المنفى المتمثِّلة بسقوط من أجبر الراوي وغيره على مغادرة بلاده، لا يجد الراوي من يتحدث معه ويفهمه سوى امرأة صينية تتحدث معه، وهي تعرف أنه لا يفهمها، وهو كذلك يتكلم ويعرف أنها مجرد مستمع لا يفهم أمراً مما يسمع. هذه البداية تتوافق تماماً مع وصف سائق السيارة الذي عاد بالمنفيين الثلاثة إلى بغداد، وكان شرطهم عليه أن يوصلهم إلى أبواب بيوت أهلهم؛ لأنهم ببساطة جارحة لا يعرفون أين انتهى المطاف بهم. إنهم مجرد صيغة أخرى من أهل الكهف الذين ناموا طويلاً عن بلادهم في المنفى.
هاتان القضيتان المختارتان بعناية سيكون لهما تأثير بالغ في مجمل الاشتغال السردي في هذه الرواية السيرية؛ فالمنفي العائد لا يجد، بعد أن يتركه سائق السيارة بيد شقيقه، أن قصة منفاه ومقاومته للرئيس «الذي أخصى شعباً كاملاً» جديرة بالسرد، ويعمد إلى اختصارها تلبية لملحة أمه فيما يخص زوجته وأبناءه، ويجملها لشقيقه، مرتضى، في رحلتهما نحو الشمال لاستعادة رفات قاسم، حتى لحظة الحقيقة يتراجع عنها؛ عندما يخفي عن الجميع حقيقة انتحار قاسم جمعية، فيؤكد بطولته كونه مات شهيداً وهو يقاوم بالسلاح من دمر حياته وحياة غيره. ما الذي بقي إذن؟ لقد بقيت سرديات المنفي العائد كلها بلا نقصان، أو ربما بزيادة.
يعود المنفي ليسرد، لنفسه على الأقل، ما حصل للبلد الذي تركه وراءه قبل ثلاثين عاماً، ما حدث لأهله، لإخوته، للناس، للشوارع، هو ابن كهف بعيد يخرج منه «يعود» إلى عراء البلاد الشاسع. صحيح أنه يعود، في الخاتمة، إلى وادي الخيول، هناك في حضن الجبل القاسي، حاملاً رفات صديقه، لكنه يعرف، وهو يفتح كيس الطحين ويضع بداخله ما تبقى من قاسم جمعية، أنه يعود برفات بلاده. هذه الحقيقة تفرض نفسها علينا فرضاً. لنتأمل الدلالة المهيمنة للعنوان؛ فهو العودة إلى وادي الخيول، وقد جاءت في الأصل مجردة من «ال» تعريف، فهي عودة أخرى. ولكن هل المقصود بهذه العودة الوادي الحقيقي، هناك على حدود البلاد الشمالية؟ تتألف الرواية من 395 صفحة من القطع المتوسط. تنشغل 307 منها بإعادة اكتشاف الحياة في عراق ما بعد صدام، فيما يختص الباقي من صفحات الرواية البالغ عددها 88 صفحة فقط بقصة العودة إلى وادي الخيول الحقيقي. وحتى في لحظة العذاب القصوى، عندما يجري إخراج رفات قاسم جمعية، فإن الراوي يحملها بكيس طحين ويعود بها إلى أمه لتدفنه هناك في وادٍ آخر يدعى وادي السلام. ثم وهو يحملها على كتفه نجده يختم عودته بكلام موجه لصديقه المنتحر، معتذراً له عن عدم معرفته بجواب سؤال صديقه، قبل انتحاره: «ماذا سيحدث للوردة لو اقتلعت من غصنها ووضعت في كتاب؟»؛ فهو لا يعرف الجواب، حتى هنا، فإن عدم المعرفة وتعمُّد الراوي إيقاف الرواية وإنهاءها بكلام موجه لصديقه المنتحر؛ لأنه «عاجز عن وصف حزن أمك وحزن أخواتك الثلاث. سأكتفي بهذا...»، يعطي عنوان الرواية تأويلاً مختلفاً؛ فلا يعود الراوي ليحمل السلاح مجدداً ضد المحتل مثلاً، بل إن السيارة التي نقلته إلى الجبل مرت قرب القاعدة التركية المحتلة لأرض عراقية سبق له ولرفاقه أن قاتلوا لأجلها. لقد عاد كريم كطافة إلى وادي الخيول مجدداً لينقل ما تبقى من صديقه ويسلمه لأمه التي ستدفنه في وادٍ آخر وسط البلاد، كما لو أننا أمام صيغة أخرى لمقولة كاتب عراقي آخر عاد للبلاد، بعد احتلالها، فعنون ما كتب بعبارة صادمة جداً: «إنه الماضي، جئت لأدفنه».
تستمدُّ الرواية أغلب تفاصيل عالمها السردي من السيرة الشخصية للكاتب؛ فالراوي هو كريم كطافة كاتبها. هكذا سيناديه كريم حنش، الكتبي المشهور، في زيارته للمتنبي. وهو «أبو أمل» كما يُعرف عن «كريم كطافة» الشاب الذي غادر العراق مطلع الثمانينات إلى تركيا ومنها إلى اليونان بجواز سفر مزور يعود إلى شقيقه «رسول» ويستقر، إلى حين، في يوغسلافيا، ومنها يعود، عبر سوريا، إلى الجبل مقاتلاً ضد نظام البعث. أغلب الحكايات تحيل لسيرة الكاتب الشخصية، سوى أن العودة إلى الثورة - مدينة الصدر كانت مفارقة للسيرة الشخصية للكاتب، وقد تقصَّدها الكاتب في تمثيل عوالم روايته. في النهاية نظل إزاء عالم متخيل يتفق أو يفارق الوقائع المتصلة به.
«عودة إلى وادي الخيول» رواية جديدة تعزز اتجاهاً سردياً في الرواية العراقية، لا سيما رواية المنفى، تُفيد مما يمكن أن نسميه بـ«سرديات المنفي العائد». وهو اتجاه جدير بالدراسة والتأمل. كان مؤسس الرواية العراقية الفنية غائب طعمة فرمان قد أتحفنا بروايتين تمثِّلان حقبتين مختلفتين «المخاض وظلال على النافذة». غير أن الروايتين لم تؤسسا، آنذاك، اتجاهاً سردياً مفارقاً يختص بـ«قصة العائد»؛ لأن المنفى لم يصبح، حتى ذلك الوقت، الخيار الأوحد المفروض على معارضي السلطة، وهو ما صار واقعاً نهاية السبعينات من القرن الماضي. ولنا هنا أن نسجل إن رواية المنفى العراقية، حتى عام 2003، قد أهملت قصة العائد؛ إذ لا عودة، ولا منفي يعود من دون زوال المسبب بالمنفى، وهو ما تحقَّق بسقوط نظام البعث واحتلال البلاد؛ لكن هذه العودة تظل بمثابة حلم يستحيل تحقيقه واستمراره. إنها العودة المستحيلة، أو كما كتب فرمان نفسه قبل عقود، وسمّاها «العودة الخائبة». كان هذا شأن روايات عراقية متعدِّدة. كريم كطافة نفسه سبق له أن قدَّم لنا رواية اتخذت مساراً مماثلاً، واستمدت عالمها كله من تجربة الأنصار في الشمال، وكانت عن لحظة مفصلية من تلك التجربة المتميزة، لأجلها، ربما، سمّاها «حصار العنكبوت».



«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
TT

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

وجدت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين في كلية الطب بجامعة نورث وسترن الأميركية، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية -تسمى بالشبكة المعرفية الاجتماعية- متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة، وهي على اتصال باستمرار مع تلك الشبكة.

يشار إلى اللوزة تُعرف أيضاً باسم «دماغ السحلية»، ومن الأمثلة الكلاسيكية لنشاطها الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية لشخص يرى أفعى؛ حيث يصاب بالذعر، ويشعر بتسارع ضربات القلب، وتعرّق راحة اليد.

لكن الباحثين قالوا إن اللوزة تفعل أشياء أخرى أكثر تأثيراً في حياتنا.

ومن ذلك ما نمر به أحياناً عند لقاء بعض الأصدقاء، فبعد لحظات من مغادرة لقاء مع الأصدقاء، يمتلئ دماغك فجأة بأفكار تتداخل معاً حول ما كان يُفكر فيه الآخرون عنك: «هل يعتقدون أنني تحدثت كثيراً؟»، «هل أزعجتهم نكاتي؟»، «هل كانوا يقضون وقتاً ممتعاً من غيري؟»، إنها مشاعر القلق والمخاوف نفسها، ولكن في إطار اجتماعي.

وهو ما علّق عليه رودريغو براغا، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية فاينبرغ للطب، جامعة نورث وسترن، قائلاً: «نقضي كثيراً من الوقت في التساؤل، ما الذي يشعر به هذا الشخص، أو يفكر فيه؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟».

وأوضح في بيان صحافي صادر الجمعة: «أن الأجزاء التي تسمح لنا بالقيام بذلك توجد في مناطق الدماغ البشري، التي توسعت مؤخراً عبر مسيرة تطورنا البشري. في الأساس، أنت تضع نفسك في عقل شخص آخر، وتستنتج ما يفكر فيه، في حين لا يمكنك معرفة ذلك حقّاً».

ووفق نتائج الدراسة الجديدة، التي نُشرت الجمعة في مجلة «ساينس أدفانسز»، فإن اللوزة الدماغية، بداخلها جزء محدد يُسمى النواة الوسطى، وهو مهم جدّاً للسلوكيات الاجتماعية.

كانت هذه الدراسة هي الأولى التي أظهرت أن النواة الوسطى للوزة الدماغية متصلة بمناطق الشبكة المعرفية الاجتماعية التي تشارك في التفكير في الآخرين.

لم يكن هذا ممكناً إلا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تصوير دماغ غير جراحية، تقيس نشاط الدماغ من خلال اكتشاف التغيرات في مستويات الأكسجين في الدم.

وقد مكّنت هذه المسوحات عالية الدقة العلماء من رؤية تفاصيل الشبكة المعرفية الاجتماعية التي لم يتم اكتشافها مطلقاً في مسوحات الدماغ ذات الدقة المنخفضة.

ويساعد هذا الارتباط باللوزة الدماغية في تشكيل وظيفة الشبكة المعرفية الاجتماعية من خلال منحها إمكانية الوصول إلى دور اللوزة الدماغية في معالجة مشاعرنا ومخاوفنا عاطفياً.

قالت دونيسا إدموندز، مرشح الدكتوراه في علم الأعصاب بمختبر «براغا» في نورث وسترن: «من أكثر الأشياء إثارة هو أننا تمكنا من تحديد مناطق الشبكة التي لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وأضافت أن «القلق والاكتئاب ينطويان على فرط نشاط اللوزة الدماغية، الذي يمكن أن يسهم في الاستجابات العاطفية المفرطة وضعف التنظيم العاطفي».

وأوضحت: «من خلال معرفتنا بأن اللوزة الدماغية متصلة بمناطق أخرى من الدماغ، ربما بعضها أقرب إلى الجمجمة، ما يسهل معه استهدافها، يمكن لتقنيات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة استهداف اللوزة الدماغية، ومن ثم الحد من هذا النشاط وإحداث تأثير إيجابي فيما يتعلق بالاستجابات المفرطة لمشاعر الخوف والقلق».