«صمت ملون» ولوحات مبهرة في ذكرى {الشهيد} بالخرطوم

التشكيلي عصام عبد الحفيظ يدفئ أمسيات العاصمة السودانية في عز الشتاء

ترك المساحة لحديث اللون في لوحته الفنية
ترك المساحة لحديث اللون في لوحته الفنية
TT

«صمت ملون» ولوحات مبهرة في ذكرى {الشهيد} بالخرطوم

ترك المساحة لحديث اللون في لوحته الفنية
ترك المساحة لحديث اللون في لوحته الفنية

جدران البنايات في الخرطوم باردة وصامتة بفعل البرد غير المألوف الذي أتت به العاصفة «هدى»، لكن جدران «غاليري» المركز الثقافي الفرنسي يكاد يحرقها الدفء، فلوحات الرسام عصام عبد الحفيظ المعلقة عليها تشعلها نيرانا من اللون والتشكيل، وتحيل صمت الشوارع اللئيم إلى فصاحة ضاجة الجمال.
في 10 يناير (كانون الثاني) من كل عام تحل ذكرى شهيد ثورة يناير 1982 طه يوسف عبيد، ودأب التشكيلي عبد الحفيظ على إحياء ذكرى تلميذ الفنون الذي قتلته رصاصة غادرة في مدينة ودمدني وسط البلاد، أيام نضال السودانيين لإسقاط ديكتاتورية النميري، ثم لحقت بجثمانه وهو محمول رصاصة أخرى، كأن موته الأول لم يكف عسس ذلك الديكتاتور، فوجهوا لصدور مشيعيه فتحات بنادقهم، فأصابت إحداهن الجثمان الطهور.
اختار عبد الحفيظ «صمت ملون» عنوانا للوحاته الزاهية، كأنه يعني أن اللوحة واللون يقولان بأبلغ من اللسان، فكان كلام الرسم فصيحا والحضور بهيا، وأم المكان أجيال من التشكيليين، وأجيال من ذواقة الفن، وأجيال أخرى من «الشعراء والجوعى» ليشهدوا صمت اللون وعرس الشهيد.
يقول عبد الحفيظ لـ«الشرق الأوسط» إن «العرض امتداد لتاريخ من اللوحات بدأ في يناير 1983 ذكرى استشهاد طه يوسف عبيد الأولى، ومعنى بحرية التعبير، وأن اسمه (صمت ملون) آت من (الرفض) ويعني ترك المساحة لحديث اللون».
ويضيف: «حين يتحدث اللون يفتر فمه تعبيرا عن نوع آخر من الصمت، الذي لا يعني الرضاء، لكنه صمت يفصح بلغته المخصوصة عن مأساتنا وأننا منذ استقلال البلاد 1956 لم تتشكل حياتنا إيجابا».
ويعتبر عبد الحفيظ لوحاته دعوة للانتفاض من أجل الذات، باعتبار الفن «طريق تغيير وسبيلا لحرية التعبير»، يقول: «نحن صامتون على المر، لكن اللوحات هنا تتكلم لغتها البصرية الفصيحة، وحان الوقت الذي تجيب فيه اللوحة على الأسئلة».
ويوضح أن لوحاته تحاول إعادة رواية «الحكاية السودانية»، كأنها تنقل حقبا من الصراعات والضراعات شهدتها البلاد، وهو ما دفعه لتخصيص «جدار» من «انفصال جنوب السودان»، يقول: «كأنه يماثل صرخة وادي أزوم الذي أقمته في النادي الألماني 2004، صرخة صامته متألمة يتكلم فيها اللون وحده، بعد أن عز الكلام».
واكتفى شيخ التشكيليين السودانيين إبراهيم بالقول: «هذه لونية تشكيلية ممتازة»، فيما وصفت التشكيلة والشاعرة نجاة عثمان عبد الحفيظ بأنه أحد أهم الرسامين الناشطين في تسخير الرسم لخدمة حركة الثورة والعمل الإنساني، وعدته واحدا من الذين نحتوا طريقا مرصعا بالألماس لتطوير الذائقة الجمالية والبصرية للشعب.
وتضيف: «عصام من الذين طوروا التصوير الفوتوغرافي، بما جعله أحد أفضل مصوري البلاد، وهو متفرغ للفن الذي يسوقه لكل مظان الجمال».
ويرى الرسام عادل مصطفى في «صمت ملون» قفزة تشكيلية كبيرة، في تقنيات الرسم وموضوعاته، بالنسبة لحركة التشكيل السودانية، بل بالنسبة للرسام نفسه، ويقول: «صمت ملون، لا يترك لك غير الصمت لتعبر عن المرحلة التلوينية التي لامسها الفنان، وانتقالاته من الزيت إلى الإكريليك».
ويلاحظ الناقد والقاص عثمان شنقر أن عدد اللوحات المعروضة فاق أعدادها في عروض «صمت ملون» السابقة، ويضيف: «مع هذا فإن ملامح وسمات تجربة عصام اللونية ماثلة في أيقونات اللوحة، لكن اللوحات كبيرة تغيرت فيها طريقة تعامله مع اللون، فقد كانت ألوانها فاقعة، لكنها الآن شابتها بعض العتمة».
أما تهاني عباس وهي مهتمة بالجمال والرسم، فتصف المعرض بأنه «غاية في الجمال»، وتقول إنه «صمت ملون» يهمس بالكثير، وتضيف: «حجزت لوحتين، دفعت ثمن واحدة منها وتسلفت الأخرى، فعصام لا يمكنه حرماني من تجميل حياتي إذا كنت مفلسة».
وأجمع الحضور على أن حميمية اللون، ومأساوية ذكرى الشهيد، وبراعة التشكيلي في الحديث بلسان اللون، أحال «الصمت الملون»، إلى صوت جهير يقول: «هيا نشهر اللون بوجه تعاسة واقعنا»، وأحال «برد هدى» إلى دفء عميم، وقضى الناس ساعات دافئة في غاليري المركز الفرنسي.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».