السعودية تحصد 6 جوائز في الدورة الأولى من «التميز الحكومي العربي»

«التجارة» في المملكة تتوج بأفضل وزارة عربية ووزيرة التخطيط المصرية كأفضل وزير

جانب من اجتماعات الجائزة السابقة (الشرق الأوسط)
جانب من اجتماعات الجائزة السابقة (الشرق الأوسط)
TT

السعودية تحصد 6 جوائز في الدورة الأولى من «التميز الحكومي العربي»

جانب من اجتماعات الجائزة السابقة (الشرق الأوسط)
جانب من اجتماعات الجائزة السابقة (الشرق الأوسط)

حازت الجهات والمبادرات الحكومية السعودية نصيب الأسد في سباق الدورة الأولى لجائزة التميز الحكومي العربي، والتي أطلقتها حكومة الإمارات بالتعاون مع جامعة الدول العربية، ممثلة في المنظمة العربية للتنمية الإدارية بهدف الإسهام في التطوير الإداري والتميز المؤسسي الحكومي، وتحفيز الفكر القيادي، والاحتفاء بالتجارب الإدارية والحكومية الناجحة في الوطن العربي.
وحصلت السعودية على 6 جوائز، حيث توجت وزارة التجارة السعودية بجائزة أفضل وزارة عربية ضمن الجوائز المؤسسية، فيما حازت هيئة الغذاء والدواء في السعودية بجائزة أفضل هيئة حكومية عربية.
وتم الإعلان عن الجوائز في حفل أقيم برعاية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حيث أعلن مجلس أمناء جائزة التميز الحكومي العربي عن أسماء الفائزين بجوائز الدورة الأولى، وذلك خلال حفل افتراضي شارك فيه عدد من الوزراء والمسؤولين ومن ممثلين من الحكومات العربية، وبحضور أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية وأعضاء مجلس أمناء الجائزة.

تطوير المؤسسات

وقال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي: «نبارك للفائزين، ونقول لكل من رشح ولم يفز استمر في التطوير، ولكل المسؤولين الحكوميين العرب، لا تتوقفوا عن تطوير مؤسساتكم، استقرار عالمنا العربي، وتطور اقتصاده، وازدهار حياته، وبناء مستقبل أبنائه كله بيدكم، مهمتكم عظيمة وتاريخية».
وأضاف «أبارك لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان فوز وزارة التجارة في المملكة، كأفضل وزارة في العالم العربي من بين أكثر من 5 آلاف مشاركة حكومية عربية، (رؤية 2030) التي يقودها الأمير محمد أفرزت تجارب عربية حكومية غير مسبوقة تنافس العالمية».

وزارة التجارة السعودية

وجاء فوز وزارة التجارة السعودية بجائزة التميز الحكومي العربي كأفضل وزارة عربية من بين أكثر من 5 آلاف مشاركة حكومية عربية، نتيجة للتميز المؤسسي وفق أفضل المعايير الدولية، وتبني مفاهيم الابتكار والتطوير، وحوكمة الأداء لتحقيق الأهداف والاستراتيجيات المرتبطة بالرؤية.
كما حققت الوزارة جائزة أفضل خدمة حكومية على مستوى العالم العربي عن خدمة «أسس شركتك» التي تُمكن من التأسيس الإلكتروني للشركات خلال 30 دقيقة بعد أتمتة جميع الإجراءات.
وأكد الدكتور ماجد القصبي وزير التجارة السعودي أن «فوز وزارة التجارة بجائزة التميز الحكومي العربي التي يرعاها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم كأفضل وزارة عربية إنجاز جديد لوطننا الغالي، وهو إحدى ثمار (رؤية المملكة 2030)، مشيدا بالجهود الإبداعية والعمل الدؤوب لفريق عمل التجارة».
وعملت وزارة التجارة خلال السنوات الماضية على إعادة الهيكلة واعتماد هيكل تنظيمي جديد يتواءم مع (رؤية 2030) ليشمل وكالة خاصة لخدمة العملاء، وإدارة عامة لحوكمة الأعمال ومكتب لإدارة التحول في الوزارة، كما حدثت استراتيجيتها لأعمالها للارتقاء بالبيئة التجارية ومواءمتها مع مستهدفات الرؤية، ولكي تكون نموذجا للتميز المؤسسي على مستوى المنطقة.
واستقطبت الوزارة الكفاءات المؤهلة في مختلف المجالات، وعملت على تعزيز الارتباط الوظيفي، حيث وصل إلى 80 في المائة في 2019، ويعد أعلى من المعدل العالمي، والأعلى بين الجهات الحكومية خلال 3 سنوات متتالية، وارتفعت نسبة الموظفين الذين تم تدريبهم لتتجاوز 90 في المائة، كما عززت المشاركة المجتمعية للموظفين والتوسع في تدريب وتأهيل الشباب والطلاب، وتطبيق كل بنود مواصفة المسؤولية المجتمعية «آي إس أو 2600» وحرصت الوزارة في أعمالها على تسهيل بدء وممارسة النشاط التجاري، حيث تم اختصار 5 إجراءات في خطوة واحدة لبدء العمل التجاري إلكترونيا، وتقليص مدة تأسيس الشركات من 15 يوما إلى 30 دقيقة، وأتمتة الخدمات لترتفع نسبة العملاء الذين تتم خدمتهم إلكترونيا إلى 97 في المائة، إضافة إلى التوسع في مراكز العملاء بمفهوم الموظف الشامل.
وتم تعزيز منظومة التشريعات بإعداد وتطوير قرابة 60 تشريعا، تشمل: أنظمة وتنظيمات ولوائح، أبرزها: «نظام التجارة الإلكترونية، نظام الامتياز التجاري، نظام الشركات المهنية، نظام الرهن التجاري، نظام مكافحة التستر» وغيرها.
وأسهمت الإصلاحات والتحسينات التي نفذتها الوزارة في تحقيق السعودية لقفزة نوعية بـ103 مراتب في مؤشر بدء النشاط التجاري - الذي تشرف عليه الوزارة - وصولا للمرتبة 38 عالميا، والمرتبة الـ3 عالميا في مؤشر حماية أقلية المستثمرين بحسب تقرير سهولة الأعمال 2020 الصادر عن البنك الدولي، كما تعد السعودية ضمن أبرز 10 دول نموا في التجارة الإلكترونية، وأسهمت جهود التحول الرقمي في تصنيف تعاملات الوزارة ضمن الفئة البلاتينية في نضج الخدمات الإلكترونية بحسب برنامج (يسّر) للتعاملات الإلكترونية.

الجوائز الفرعية

وفي فئة الجوائز الفرعية للجائزة، حاز مشروع «الاستخدام الأمثل للمضادات الحيوية» من وزارة الصحة في البحرين بجائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتطوير القطاع الصحي، وحصلت كل من خدمة حوكمة المعلومات الاقتصادية والجمركية لتسهيل التجارة «أفق» من شؤون الجمارك بوزارة الداخلية في البحرين، وخدمة «فرجت» التابعة للمديرية العامة للسجون بوزارة الداخلية في السعودية، وخدمة «الترخيص المتنقل» للأمن العام في الأردن على جائزة أفضل مبادرة لتجربة تطويرية حكومية. وحصل مشروع بنبان للطاقة الشمسية في مصر بجائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتطوير البنية التحتية، ومشروع صناعة النخبة من وزارة شؤون الشباب والرياضة في البحرين على جائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتمكين الشباب.
وحصد كل من مشروع الدعم التكميلي «تكافل» بصندوق المعونة الوطنية في الأردن، ومشروع خطوة للمشاريع المنزلية بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية في البحرين على جائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتنمية المجتمع.
ونالت منظومة الابتكار في وزارة العمل في عمان جائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتطوير التعليم، وفي جائزة أفضل تطبيق حكومي عربي ذكي، فقد فاز بها كل من تطبيق «المستشار العقاري» من صندوق التنمية العقارية في السعودية، وتطبيق النظام الوطني للمقترحات والشكاوى «تواصل» لهيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية في البحرين، وتطبيق «أسس شركتك» التابعة لوزارة التجارة في السعودية.
قواعد وشروط عمل جديدة
وقال محمد القرقاوي وزير شؤون مجلس الوزراء رئيس مجلس أمناء جائزة التميز الحكومي العربي خلال كلمته في الحفل: «في ظل الأوضاع التي يفرض فيها وباء (كوفيد - 19) قواعد وشروط عمل جديدة في العالم، فإنّ جائزة التميز الحكومي العربي لم تكن لتأتي في وقت أفضل، فأهداف الجائزة وآفاقها تترجم الرؤية التي انطلقت منها في الأساس؛ وهي إعادة تصميم حكومات المستقبل في الوطن العربي، بحيث تعمل على استحداث آليات عمل حديثة وتطوير أدوات وحلول مبتكرة للتصدي للتحديات المستجدة».
من جانب آخر أكد أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية أن «جائزة التميز الحكومي العربي تستهدف كافة الجهات الحكومية، والقيادات والموظفين الحكوميين في الدول العربية، ولأنها جائزة متخصصة بالتميز الحكومي العربي، وتهدف إلى نشر ثقافة الجودة والتميز في المؤسسات الحكومية العربية بما يعزز ممارسات الحوكمة الرشيدة والتوظيف الأمثل للموارد، وخلق فكر قيادي إيجابي لتبني مفهوم التميز، وتركز على تحسين الأداء والتطوير المستمر في الأجهزة الحكومية العربية، ولأنها بمثابة منصة لتبادل أفضل الممارسات والتجارب الحكومية العربية».
من جانب آخر، أكد الدكتور ناصر علي القحطاني مدير عام المنظمة العربية للتنمية الإدارية أن جائزة التميز الحكومي العربي تهدف إلى توفير خريطة طريق عربية للوصول إلى تميز المؤسسات العربية، وما كان لهذه الفكرة لترى النور لولا الدعم الذي حصلت عليه المبادرة من حكومة دولة الإمارات والرعاية الكريمة للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
الجوائز الفردية

تم الإعلان عن الفائزين في الجوائز الفردية وتكريم الأفراد ذوي الأداء المميز، الذين استطاعوا ترك أثر كبير وتغيير إيجابي على الجهات التي ينتمون إليها أو على القطاعات التي يعملون بها.
وفازت الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية في مصر بجائزة أفضل وزير عربي، والتي تم تقييمها من قبل شركة خارجية، كما فاز بجائزة أفضل محافظ عربي اللواء عادل الغضبان محافظ محافظة بورسعيد في مصر، وفاز في جائزة أفضل مدير عام لهيئة أو مؤسسة عربية، المهندس محمد الموكلي الرئيس التنفيذي لشركة المياه الوطنية في السعودية، وحصد أحمد المنفوحي مدير بلدية الكويت جائزة أفضل مدير بلدية في المدن العربية.
فيما نال الجائزة في فئة أفضل موظف حكومي عربي العقيد صلاح الدين الطرابشة استشاري جراحة القلب في مركز الملكة علياء لأمراض وجراحة القلب في الأردن، وجائزة أفضل موظفة حكومية عربية لمنى مشعل، وهي باحثة رئيسية ومستشارة لشؤون وقاية النبات في المركز الوطني للبحوث الزراعية في الأردن، ونهى السيد، مديرة المركز التكنولوجي بحي منتزه أول في مصر.

مصر تحتفي بحصد 4 جوائز

احتفت الحكومة المصرية، أمس، بحصد 3 من مسؤوليها وأحد مشروعاتها لأربع جوائز للتميز الحكومي العربي، والتي تنظمها دولة الإمارات العربية بالتعاون مع جامعة الدول العربية، وتلقت نحو 5 آلاف مشاركة.
وهنأ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقال في تغريدة على حسابه الرسمي على موقع «تويتر»: «أبارك لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي فوز وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية هالة السعيد كأفضل وزيرة في العالم العربي... التطوير الحكومي في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي يحقق قفزات مدروسة».
وقدم مجلس الوزراء المصري التهنئة للمسؤولين المصريين الفائزين في الدورة الأولى لجائزة «التميز الحكومي العربي»، والتي تم إعلان جوائزها افتراضيا عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، بمشاركة أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية.
ونالت الدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية؛ جائزة أفضل وزير في العالم العربي، واللواء عادل الغضبان، محافظ بورسعيد؛ أفضل محافظ عربي، كما فاز مشروع مجمع «بنبان» للطاقة الشمسية بجائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتطوير البنية التحتية، وكذلك فازت مدير المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين في حي المنتزه أول بمحافظة الإسكندرية نهى السيد، بجائزة أفضل موظفة حكومية عربية.
وقال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إن «هناك اهتماما واسعا من الرئيس السيسي، بملفات التحول الرقمي، وتيسير أداء الخدمات الحكومية للمواطنين»، مؤكداً على «الدور المهم، الذي تقوم به جائزة التميز الحكومي العربي، والتي يتم تنظيمها برعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بالتعاون بين حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة والمنظمة العربية للتنمية الإدارية بجامعة الدول العربية، في إحداث طفرة هائلة في الأداء الحكومي، إلى جانب تعزيز روح المنافسة لتقديم أفضل الخدمات للمواطنين في المجتمعات العربية كافة، لا سيما مع الاتجاه بقوة نحو أداء هذه الخدمات إلكترونيا في ظل التحول الرقمي الذي تشهده الدول العربية في المرحلة الراهنة».
ودعا مجلس الوزراء جميع المسؤولين والعاملين بالجهاز الإداري للدولة إلى «استمرار تعظيم الأداء كل في موقعه، لتطوير الأداء الحكومي والنهوض بمستوى الخدمات المقدمة للمواطنين، مع تفعيل المشاركة في هذه الجائزة بدوراتها المقبلة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)