توقف أكبر سوق شعبية في مدريد ينعش محيطها

الوباء أتاح لتجار الأنتيكات فرصة للظهور أمام الزوار

تسبب الوباء في توقف سوق إل راسترو بمدريد ما سمح للمحلات بجذب المتسوقين (رويترز)
تسبب الوباء في توقف سوق إل راسترو بمدريد ما سمح للمحلات بجذب المتسوقين (رويترز)
TT

توقف أكبر سوق شعبية في مدريد ينعش محيطها

تسبب الوباء في توقف سوق إل راسترو بمدريد ما سمح للمحلات بجذب المتسوقين (رويترز)
تسبب الوباء في توقف سوق إل راسترو بمدريد ما سمح للمحلات بجذب المتسوقين (رويترز)

كان باستطاعة المرء بسهولة حشد مجموعة من أوعية الثلج في مدريد، ذلك أنها تنتشر في مختلف الأرجاء. وتتميز كثير منها بنماذج وتصميمات تنتمي إلى العصور الوسطى، وتجمع بين مواد مختلفة مثل اللوسيت والكروم والنحاس والباكليت والجلد والفلين، وهي تذكارات أنيقة كان يمكن للمرء تخيل وجودها في متناول يد النجمة إيفا غاردنر خلال سنوات شبابها وانطلاقها وحفلاتها التي لا تنتهي في إسبانيا، أواخر خمسينات القرن الماضي.
ومن السهل إشباع الرغبة في امتلاك كثير من مثل هذه التحف والتذكارات داخل العاصمة الإسبانية، وذلك ليس لأن الناس هناك يملكون شققاً واسعة بها كثير من الأرفف الإضافية (هذا ليس الواقع)، وإنما لأن «إل راسترو»، السوق مترامية الأطراف التي تغطي مساحة واسعة من قلب المدينة دائماً ما تعج بكثير من المقتنيات الجميلة من كتب وقطع من الأثاث الصيني والخزف واللوحات والمطبوعات والأزياء القديمة والكثير من الأشياء الأخرى التي لم يكن المرء ليدرك رغبته في اقتنائها، لولا أنه رآها ماثلة أمام عينيه داخل هذه السوق الشهيرة بأسعار منافسة مقارنة بالعواصم الأوروبية الأخرى.
تقع سوق «إل راسترو» إلى الجنوب مباشرة من «بلازا مايور»، ما بين «كالي دي توليدو» و«كالي دي لا ريبيرا دي كورتيدوريس». ويعود تاريخ هذه السوق العتيقة إلى قرون مضت عندما كان الحي يزخر بالمدابغ. وتستقي السوق والحي بأكمله الاسم من «أثر» الدماء التي كانت فيما مضى تلطخ الشوارع أثناء نقل جثث الحيوانات. وظلت المنطقة تعمل بمثابة غرفة المقاصة الرئيسية بالمدينة. وتطورت المتاجر خلال العقد الماضي من أماكن تتكدس بها قطع الأثاث القديمة حتى السقف إلى مساحات شبيهة بالمعارض تزدان بنقوش صغيرة متسقة مع المعروضات.
وخلال أيام الآحاد فيما قبل الوباء، اجتذبت السوق المقامة في الهواء الطلق ومترامية الأطراف الآلاف من السكان المحليين والسياح الباحثين عن التحف، الذين يتوقفون داخل السوق لمشاهدة معروضات المئات من الأكشاك المقامة على طول الشوارع الرئيسة والساحات التي تبيع منتجات متنوعة ما بين القمصان وأقراص «الفلامنكو» المدمجة وتركيبات السباكة والحرف اليدوية. في مارس (آذار)، أغلقت السوق ويجري اليوم إعادة فتحها تدريجياً. إلا أنه في خضم ذلك، نالت المتاجر المحيطة بالسوق، التي أعيد افتتاحها بحلول أوائل يونيو (حزيران) فرصة للتألق بمفردها (مع حرص التجار والعملاء على اتخاذ التدابير الاحترازية اللازمة لضمان السلامة).
فيما يخص من اعتادوا زيارة «إل راسترو»، فإنها غالباً ما تكون لديهم طرقهم المفضلة. وإذا حظيت بفرصة زيارة السوق ولم تكن من عاشقي المشي صعوداً، فإنه من الأفضل أن تبدأ بالطرف الشمالي للحي، ربما «كاسا جوزفين» في «كالي دي سانتا آنا»، حيث قطع الأثاث والخزف، أضيفت إليها في الفترة الأخيرة بعض المنسوجات الرائعة التي تمزج ما بين التصميمات الريفية والأناقة. ويشتهر متجر «أولوفاني» القريب مصدراً شهيراً للمصابيح والشمعدانات والعناصر الزخرفية الأخرى التي يجري استخدامها في المنازل.
أما متجر «لا ريكوفا»، فيضم بين جنباته قطعاً من الأثاث والخزف ومصنوعات زجاجية تنتمي لفترة منتصف القرن الماضي وقادمة من ألمانيا وهولندا وبريطانيا.
على بعد مبنى واحد إلى الجنوب، يقع شارع «كالي ديل كارنيرو»، ويضم بين جنباته مزيجاً متنوعاً من الباعة. داخل «ألمونيدو تكسومين»، قطع فاخرة من مدرسة «آرت نوفو». وعلى بُعد أبواب قليلة، يوجد متجر مملوك للتاجر الشهير أندريس سيرانو الذي يُعتبر مصدراً رئيسياً للقطع الخزفية والزجاجية قديمة الطراز.
وقبل الوباء، كان التنزه في «ريبيرا دي كورتيدورس» صباح الآحاد من النشاطات المفضلة لكثيرين، وربما يعاود استقبال الجماهير قريباً. في المقابل، فإنه من الاثنين إلى السبت، لطالما تميز الشارع الذي تصطف الأشجار على جانبيه بالهدوء، خاصة أن أكبر منطقتين للتسوق عبارة عن ساحتين داخليتين تصطف على جوانبها المتاجر. ومن أبرز المتاجر الموجودة في المنطقة «نوفاس غاليرياس بيلار إلوسيون» المتخصص في بيع أزياء وإكسسوارات كلاسيكية فاتنة من إنتاج أسماء تجارية إسبانية وعالمية أخرى بارزة.
ويعتبر «فيردي غابان» من الوافدين الجدد على المنطقة، ويضم مجموعة واسعة من الأدوات المنزلية المتنوعة.
على الجانب المقابل من الشارع، يوجد «غاليرياس بيكير» المتخصص بمجال الديكور الداخلي، بجانب قرابة 20 متجراً آخر. وتزخر المنطقة بقطع فنية من مدرسة «آرت نوفو» وتماثيل وقطع أثاث من مختلف أرجاء القارة الأوروبية من القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين.
وحتى لو كنت في السوق من أجل الإلهام والترفيه فقط، فإن قضاء يوم في التسوق عبر نوافذ المتاجر في أحد أقدم أحياء مدريد، مع الواجهات الرائعة المكسوة بالبلاط والشرفات الحديدية المعقدة وورش العمل القديمة، كفيل بأن يفتح نافذة أمامك على الروح الأصيلة للمدينة.
* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)