لبنان يحتفي ببلوغ فيروز 85 سنة

عام جديد شاركت فيه مواطنيها آلامهم ورافقتهم بأغنياتها وصلواتها

جدارية فريق أشكمان التي زينت بيروت منذ عام 2013
جدارية فريق أشكمان التي زينت بيروت منذ عام 2013
TT

لبنان يحتفي ببلوغ فيروز 85 سنة

جدارية فريق أشكمان التي زينت بيروت منذ عام 2013
جدارية فريق أشكمان التي زينت بيروت منذ عام 2013

فيروز التي بلغت الخامسة والثمانين يوم أمس، لا ينسى اللبنانيون ميلادها، أبداً، لأنه يأتي عشية عيدي العلم والاستقلال. وهي رغم تواريها المستمر منذ سنوات، تبدو وكأنّها حاضرة عند المفترقات الصعبة. فقد بقيت خلال الأشهر المنصرمة نجمة الشاشات، وقبلة الأنظار، ليس فقط عبر أغنياتها التي رافقت اللبنانيين في انتفاضتهم التي دامت أشهراً منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي. ففي أبريل (نيسان) من العام الحالي، ومع بدء أزمة كورونا وقد أخذ الخوف من الوباء يدب في الأوصال، أطلت فيروز على محبيها في تسجيل على «يوتيوب»، وهي تصلي في منزلها، وتبتهل إلى الله طالبة خلاص العالم.
ولم تتردد أغنية بعد الانفجار التراجيدي للمرفأ ومحيطه في الرابع من أغسطس (آب) الفائت، قدر ما أعيدت وكررت أغنية «من قلبي سلام لبيروت» بصوت فيروز، التي وضع كلماتها الشاعر الراحل جوزيف حرب واقتبس زياد الرحباني لحنها من أغنية للإسباني يواخين رودريغو. وهي أغنية يسمعها اللبنانيون، منذ أطلقت في مطالع الثمانيات، في عز الحرب الأهلية، لكنّها هذه المرة، اكتسبت بعداً آخر، وهي ترافق مشاهد دمار العاصمة المفجع.
ومع تصاعد المحن، وتوالي الانهيارات، جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لها، مناسبة غير متوقعة، ليراها عشاقها الذين قلقوا على صحتها لكثرة الشائعات التي أثيرت حولها، ويطمئنوا ولو من خلال صور قليلة، لم يتسرب غيرها، بدت فيهما عفية، باسمة، بسيطة، تماماً كما يعرفها جمهورها. ولشح المعلومات، انكبّ المحبون على قراءة ما ظهر في الصور، وتخمين ما دار من حوار، ومحاولة فهم ما حصل في الكواليس. لكن على الأرجح تفاصيل ذاك الخاص، ستبقى طي الكتمان. ولن يرى أحد شريطاً مصوراً في أي وقت مقبل، حسب ريما الرحباني ابنة فيروز، لأنّها أدارت زر الكاميرا، لتسجل تلك اللحظات التاريخية وذهبت لاستقبال ماكرون عند وصوله، وبعد انتهاء الزيارة اكتشفت أنّ شيئاً لم يُسجّل.
لم يكن عام فيروز التي تلازم تلفازها، ولا تزال مدمنة على متابعة الأخبار، أفضل من حال بلدها. فالجميع في مركب واحد. وهي إذ تواكب مواطنيها الذين رفضت أن تتركهم في سلم أو في حرب، وبقيت معهم ترافقهم بأغنياتها وصلواتها، تستقبل عدداً قليلاً من أصدقائها الخلّص الذين تضاءل عددهم إلى حد كبير، وجاءت مخاوف «كورونا» لتجعل اللقاءات أصعب وأكثر شحّاً.
وبمناسبة عيدها الخامس والثمانين، أعادت ابنة فيروز ريما على حسابها على «فيسبوك»، نشر أغنية مصورة لوالدتها، لمعاني كلماتها دلالاتها، إذ تقول فيها: «أنا وصغيرة حلمت كثير، بكرا بس أكبر شو بدي صير. وسالت إمّي شو يلي ناطرني، ضحكت وقالتلي يلي بدو يصير يصير». وارفقت الأغنية بإهداء إلى والدتها: «مني ومن زياد وليال وهلي، وأبي لأمي ووطني كل الحب..... يخليلنا قلبِك. والبدو يصير يصير».
واحتفالاً بهذه المناسبة طلبت وزيرة الإعلام منال عبد الصمد من وسائل الإعلام الرسمية، أي تلفزيون لبنان والإذاعة اللبنانية، تخصيص مساحة في يوم عيد ميلاد فيروز، لعرض أعمالها المسرحية والغنائية والسينمائية ومقابلاتها، وذلك «بمثابة لفتة تكريمية للسيدة التي رفعت اسم لبنان عالياً بأعمالها، ووضعته على الخارطة الفنية العالمية».
وبمبادرة من جمعية جاد، سيطلق اسم فيروز بقرار من بلديّة بلدات بلاط وقرطبون ومستيتا في قضاء جبيل، على جادة رئيسية ستحمل اسمها. فيما ستحمل أسماء الشوارع المتفرعة من هذه الجادة، أسماء لشخصيات عرفت فيها فيروز في مسرحياتها وأفلامها. ويحرص أصحاب المشروع على أن يعطى لهذه المنطقة طابعاً يتناسب وشخصية فيروز، ومكانتها، إن لجهة غرس أنواع معينة من الأشجار والزهور، أو لجهة إعطاء طابع للمكان يشبه صورتها ومزاجها.
وهذه اللفتة التي نسقت مع جهات رسمية، هي الأولى من نوعها في لبنان، فقد حملت الجادات عادة، أسماء شخصيات سياسية، أو شهداء، وزعماء، وأحياناً أدباء أيضاً، وإن كان بنسبة أقل، لكن كبار الفنانين لم يكن لهم هذا الحظ.
ومطلع السنة المقبلة، سيعلن عن تفاصيل المشروع، الذي يرجى أن يكون فاتحة لتذكر الفنانين وتخليد ذكراهم بمبادرات رسمية. إذ درجت العادة أن تكون تلك لفتات شعبية بحيث يعكف فنانون تشكيليون على وضع رسومهم على لوحات أو على الجدران، وثمة رسم غرافيتي لفيروز في بيروت وآخر لصباح، وغيره للأديبة إميلي نصر الله.
واحتفاء بفيروز هذه السنة نبش أحبتها صورة لها في عرسها تظهر فيها مع عاصي الرحباني، وقالوا إنّها تُنشر للمرة الأولى. والواقع أنّ الصورة سبق نشرها، لكن يبدو أنّ المطلعين عليها قلة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)