جمعية «رشة خير» تلون منطقة الكرنتينا المنكوبة بـ«حائط الأمل»

نفذه أبناء حي المدوّر والصم والبكم في مدرسة «سيلويت»

جمعية «رشة خير» تلون منطقة الكرنتينا المنكوبة بـ«حائط الأمل»
TT

جمعية «رشة خير» تلون منطقة الكرنتينا المنكوبة بـ«حائط الأمل»

جمعية «رشة خير» تلون منطقة الكرنتينا المنكوبة بـ«حائط الأمل»

نفضت منطقة الكرنتينا غبار انفجار بيروت عنها من خلال «حائط الأمل» في شارع المدوّر.
فبمبادرة من جمعية «رشّة خير» توجّهت مجموعة من أبناء أحياء الكرنتينا وعدد من أطفال مدرسة «سيلويت» الفنية للصّم والبكم إلى شارع المدوّر، للمشاركة في استحداث مساحة فنية؛ بهدف تزويد أهالي المنطقة بجرعة أمل يحتاجون إليها.
فرسموا ولوّنوا حائطاً بطول 36 متراً وعلو 5 أمتار، يقع قرب كنيسة مار مخايل في الكرنتينا كانت معالمه وأحجاره تبدو حزينة قبل أن تمر عليه أنامل شابة تنبض بالتفاؤل. فالمنطقة أصبحت منكوبة بسبب انفجار بيروت الذي أتى على معظم عماراتها ومحالها. ومع هذه المبادرة تبدلت المشهدية العامة للحائط وتحوّل إلى معلم فني.
تقول ايلدا نحاس، مديرة «رشة خير» في حديث لـ«الشرق الأوسط»، «قصتي مع هذه المنطقة بدأت إثر تعرضها لانفجار بيروت. فعندما زرتها بعد أيام قليلة من الكارثة، لاحظت حزن الناس وتعبهم بعدما تشرّدوا من بيوتهم وصارت أحياؤهم غير صالحة للسكن. فقرّرنا في الجمعية أن ننظم هذا الحدث ليكون بمثابة رسالة أمل نحثّ فيها أهالي المنطقة على إعادة بناء ما تهدّم». وتتابع نحاس في سياق حديثها «المشهد كان محزناً ينفطر له القلب. واليوم كما تشاهدون تبدّل تماماً بعد أن أدخلنا الفرح إلى قلوب أبناء الحي مع هذه المبادرة. فهم اندفعوا من دون ترددّ لتلوين هذا الجدار ورسم كل ما يخطر على بالهم على مساحته الطويلة، بعد أن غطيناها بالطلاء الأبيض لتكون بمثابة صفحة جديدة ينطلقون معها».
غابات من الأشجار ومنازل وعصافير ترفرف في سمائها، إضافة إلى صور وجوه تبتسم وأطفال يركضون بسعادة وأمهات وعائلات تحيط بهم وغيرها، شكّلت مجموعة أفكار ترجمها أبناء الحي كل بريشته لتغمر «حائط الأمل».
وعن مشاركة أطفال من الصمّ والبكم في هذا الحدث، تشرح ايلدا نحاس «هي رغبة الكوريغراف بيار جعجع الذي ينتمي إلى نفس شريحة هؤلاء الأطفال. فعندما استدعيناه ليشاركنا الفرحة ويقدم لوحات راقصة ترافق عملية الرسم على الحائط اقترح علينا التعاون مع طلاب مدرسته (سيلويت) الفنية للصم والبكم. فأرادهم أن يعبروا بدورهم عن أفكارهم ومشاعرهم تجاه ما تعرّضت له مدينتهم. فتجاوبنا بسرعة مع اقتراحه، وكان لها أثرها الإيجابي الكبير على الحدث».
استعانت جمعية «رشّة خير» بعدد من طلاب الهندسة والرّسم في جامعات لبنانية للإشراف على تنفيذ رسومات «جدار الأمل». ويقول وليد الحاج، طالب في كلية الهندسة في جامعة الروح القدس في الكسليك «رغبت في المشاركة في هذا الحدث كي أسهم في إعادة بناء سعادة أولاد منطقة الكرنتينا على طريقتي. فساندتهم وأشرفت على تعليمهم كيفية استخدام الريشة ليرسموا كل ما يخطر على بالهم، ويقلبوا معها صفحة حزينة من حياتهم».
أمّا عليا الطرابلسي، المتخرجة حديثاً في دراسة التصميم والهندسة الداخلية، فتشير في حديث لـ«الشرق الأوسط»، «جئت خصيصاً إلى شارع المدوّر لأنشر فيه الألوان؛ فهي تزود من ينظر إليها بالأمل والفرح. فأبناء منطقة الكرنتينا يستأهلون هذه الفسحة، وتتيح لهم الوقوف والاعتماد على أنفسهم من جديد».
رسم الطالب جوي على «حائط الأمل» في الكرنتينا وجه امرأة تحاول الاهتمام بأبنائها بحنان. ويعلّق في معرض حديثه «هذه المرأة تمثل مدينتي التي أحب بيروت. وصوّرتها كأم حنون تعطف على أبنائها وتجمعهم تحت جناحها كي يتوحدوا ويعملوا معاً من أجل بلدهم لبنان».
طبع أولاد أحياء منطقة الكرنتينا بصماتهم على «حائط الأمل» ووقّعوا أسماءهم بقربها كي تبقى محفوظة فتتحول إلى ذكرى لا تنسى. ويقول بيار ابن الـ15 عاماً «أنا من أبناء حي المدوّر، وأحببت فكرة ترك بصمة ليدي على هذا الحائط وقد أحطتها برسومات ملونة. وسأزور هذا الجدار بين وقت وآخر؛ لأنه أول معلم فني يحمل الفرح لأهالي منطقتي بعد انفجار بيروت».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)