أبحاث ترجّح وجود كواكب في مجرتنا صالحة للحياة

بعد 11 سنة من إطلاق المركبة الفضائية «كبلر»

رسم تخيلي للكوكب «كبلر-186ف» أول كوكب يماثل حجم الأرض ويدور في فلك نجم بعيد (ناسا)
رسم تخيلي للكوكب «كبلر-186ف» أول كوكب يماثل حجم الأرض ويدور في فلك نجم بعيد (ناسا)
TT

أبحاث ترجّح وجود كواكب في مجرتنا صالحة للحياة

رسم تخيلي للكوكب «كبلر-186ف» أول كوكب يماثل حجم الأرض ويدور في فلك نجم بعيد (ناسا)
رسم تخيلي للكوكب «كبلر-186ف» أول كوكب يماثل حجم الأرض ويدور في فلك نجم بعيد (ناسا)

تحليل للبيانات المرسلة من مركبة الفضاء «كبلر»، التابعة لـ«ناسا»، أظهر ضخامة عدد الكواكب الخارجية الصالحة للحياة المرجح وجودها في مجرتنا.
وشرعت مجموعة من علماء الفلك قبل عقد من الزمان في البحث عن إجابة لأحد أقدم الأسئلة التي عجز الفلاسفة والعلماء والكهنة وعلماء الفلك والصوفيين وبقية الجنس البشري في إيجاد إجابة لها، وهي: كم عدد الكواكب الشبيهة بالأرض في الكون؟ وإن وجدت، كم عدد الكواكب البعيدة الصالحة للعيش بالشكل الذي نعرفه؟
كانت الأداة التي استخدمها هؤلاء العلماء هي مركبة الفضاء البحثية «كبلر» التي أطلقت في مارس (آذار) 2009، في مهمة استمرت 3 سنوات ونصف لرصد 150 ألف نجم في بقعة من السماء في مجرة «درب التبانة»، واستكشفت تراجعاً طفيفاً في ضوء النجوم ناجماً عن كوكب خارجي يمر أمام نجمه الأصلي.
وعندما أطلقت المهمة العلمية في مارس (آذار) 2009، قال ويليام بوروكي، عالم الفلك بمركز أبحاث «أميس» التابع لوكالة «ناسا» المتقاعد حالياً: «إنها ليست رحلة لاستكشاف مخلوقات فضائية، بل لاكتشاف عوالمها». وكان الدكتور بوروكي هو الذي حلم بالمشروع، وقضى عقدين من الزمن في إقناع «ناسا» بالقيام بذلك.
وعندما انتهت مهمة المركبة الفضائية في عام 2018، كانت قد اكتشفت أكثر من 4 آلاف عالم محتمل بين تلك النجوم، لكن أياً منها لم تظهر فيه ولو علامة واحدة على الحياة (وإن اتسمت دراستها بالصعوبة نظراً لبعدها بمسافات شاسعة عن عالمنا). غير أنه من باب الاستقراء، يشير هذا الرقم إلى وجود بلايين من الكواكب الخارجية في مجرة درب التبانة، ولكن كم من هذه الكواكب يمكن أن يكون صالحاً للعيش؟
بعد تحليل بيانات «كبلر» على مدار عامين، توصل فريق مكون من 44 عالم فلك، بقيادة ستيف برايسون من مركز أبحاث «أميس» التابع لـ«ناسا»، إلى ما قالوا إنه الإجابة النهائية، على الأقل في الوقت الحالي، وقُبل بحثهم للنشر في «المجلة الفلكية».
كان الهدف الرسمي لـ«كبلر» هو قياس رقم يسمى «إيتا إيرث»، وهو بعض النجوم الشبيهة بالشمس التي لها جسم بحجم الأرض يدور حولها، فيما يعرف بـ«الأقفال الذهبية» أو المنطقة الصالحة للسكن، حيث يكون الجو دافئًا بدرجة كافية، بحيث يحتفظ السطح بالماء السائل.
وقد قدر الفريق أن ما لا يقل عن ثلث، وربما 90 في المائة، من النجوم المماثلة في الكتلة والسطوع لشمسنا تحتوي على صخور مثل الأرض في مناطقها الصالحة للسكن، وهذا في حدث ذاته ليس بالشيء الهين، وإن بدا لك كذلك.
ووفقًا لتقديرات وكالة «ناسا»، يوجد ما لا يقل عن 100 مليار نجم في مجرة درب التبانة، منها نحو 4 مليارات نجمة تشبه الشمس. وإذا كان 7 في المائة فقط من هذه النجوم لديها كواكب صالحة للسكن -في أقل تقدير- فقد يكون هناك ما يصل إلى 300 مليون من الكواكب المشابهة للأرض الصالحة للسكن داخل مجرة درب التبانة وحدها.
وفي هذا الإطار، قال رافي كومار كوبارابو، الباحث في مركز «جودارد» لرحلات الفضاء التابع لـ«ناسا» في «غرينبيلت» بولاية ماريلاند، أحد واضعي التقرير: «نريد أن نكون متحفظين للغاية في حالة وجود أي مفاجآت تخص الطبيعة وصلاحية العيش هناك؛ لذلك نحن نخفض التقديرات عن عمد».
وحسب علماء الفلك، في المتوسط، يجب أن يكون أقرب كوكب على هذا النحو على بعد نحو 20 سنة ضوئية، ويجب أن يكون هناك 4 منها على بعد 30 سنة ضوئية أو نحو ذلك من الشمس.
وفي السياق ذاته، قالت ناتالي باتالها، عالمة الفلك في جامعة كاليفورنيا التي كانت تدير مهام «كبلر» معظم فترات حياتها، أحد مؤلفي الكتاب الجديد: «لقد استغرق الأمر 11 عامًا من إطلاق المهمة البحثية حتى النشر، وهذه هي النتيجة العلمية التي كنا ننتظرها جميعًا، وهذا هو سبب اختيار (كبلر) للانطلاق في ديسمبر (كانون الأول) 2001».
وأشارت النتيجة الجديدة إلى أن المجرة تتمتع بضعف الخصوبة أو صلاحية الحياة، في مقابل تقديرات أحد التحليلات الأولية لبيانات «كبلر» عام 2013. فالنتيجة التي توصل إليها أندرو هوارد، وإريك بيتيجورا، وجيفري مارسي، الذين لم يكونوا جزءاً من فريق «كبلر»، هي أن نحو خمس النجوم الشبيهة بالشمس تؤوي كواكب في مناطقها الصالحة للسكن.
واستطردت الدكتورة ناتالي باتالها قائلة إن إحدى التحسينات هذه المرة تمثلت في إضافة بيانات من القمر الصناعي الأوروبي «غايا» الذي قام بقياس موقع وسطوع نحو مليار نجم. وقد سمحت معرفة ذلك لعلماء «كبلر» برسم المناطق الصالحة وسط هذه النجوم بدقة أكبر.
وكان هناك تحسن آخر، تمثل في التعامل بشكل أفضل مع الإحصائيات، رغم أن «الاستطلاعات غير مكتملة بطبيعتها»، بحسب الدكتورة ناتالي، حيث لا يمكن مراقبة كل نجم على حدة.
وفي حالة مركبة الأبحاث «كبلر»، كان هذا التحديد خطيراً، حيث فشل نظام توجيه المركبة الفضائية قبل أن تتمكن «كبلر» من إكمال مسحها الأساسي الذي حصرته في اكتشاف الكواكب ذات الفترات المدارية التي لا تقل عن 700 يوم، نحو ضعف مدة السنة على كوكب الأرض.
وفي رسالة بالبريد الإلكتروني، أفاد ديفيد شاربونو، من مركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكية، بأنه كان متشككاً بعض الشيء في النتائج، قائلاً: «لم تكتشف مهمة (كبلر) الكثير (وربما أي) من النظائر الحقيقية للأرض، أو أي كواكب لها نصف قطر الأرض نفسه، وتدور في الفترة نفسها، وبالتالي تتلقى كمية الضوء نفسها، وتدور حول نجوم شبيهة بالشمس.
ومن جانبها، قالت الدكتورة ناتلي: «ليس لدينا حتى الآن أي كوكب مرشح ليكون نظيراً دقيقاً للأرض، من حيث الحجم أو المدار أو نوع النجم». ولذلك، كان على علماء الفلك استقراء البيانات من الكواكب التي رأوها بالفعل.
ورغم أن الكواكب التي رصدتها «كبلر» تقارب حجم الأرض -من نصف إلى مرة ونصف حجم الأرض- ويفترض أنها صخرية، فلا أحد يعرف كيف تبدو تفاصيلها، وما إذا كان أي شيء يعيش أو يمكن أن يعيش عليها، فهي أبعد من أن نستطيع دراستها بتفاصيل أكبر. نحن نعرف حتى الآن كوكباً واحداً فقط يأوي حياة، هو كوكبنا.
وكانت هناك كثير من الفرص والاحتمالات التي لم تصادف المركبة «كبلر» أياً منها حتى الآن. فقياس مركبة الأبحاث «كبلر» يتعلق فقط بكوكب الأرض ونجوم مثل الشمس، لكن في المجرة هناك ما يفوق تلك النجوم عدداً، لكنها نجوم أصغر وباهتة، تُعرف باسم «الأقزام الحمراء». كما أن ربع إلى نصف «الأقزام الحمراء» تؤوي أيضاً كواكب صالحة للسكن، وفقاً للباحث كورتني دريسينج الذي يعمل حالياً بجامعة كاليفورنيا، رغم أن بعض علماء الفلك قلقون من أن التوهجات الإشعاعية الصادرة عن مثل هذه النجوم ستؤدي إلى تدمير أي حياة محتملة هناك. والجدير بالذكر أن «كويكبات القزم الأحمر» لم يتضمنها التحليل الجديد.
وتعد «كويكبات القزم الأحمر» ذات صلة بموضوع البحث عن الحياة لأن مركبة الأبحاث «كبلر» نقلت الشعلة والمهام إلى مركبة فضائية تسمى «ترانسيتنغ إكسبلوتنت سيرفي ستاليت»، تم إطلاقها في عام 2018 لمسح السماء بحثاً عن الكواكب الخارجية التي تبعد مئات السنين الضوئية عن الأرض. وقد اكتشفت حتى الآن 66 كوكباً خارجياً جديداً، وقامت بتصنيف أكثر من 2000 كوكب مرشح للحياة.
وفي السياق ذاته، قال جورج ريكر، عالم الفيزياء الفلكية في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» الباحث الرئيسي في المهمة، في رسالة بالبريد الإلكتروني، إنه كان من المتوقع أن يتم العثور على معظم هذه الكواكب تدور حول «الأقزام الحمراء»، مضيفاً: «نظراً لأن نحو ثلاثة أرباع النجوم في الجوار الشمسي أقزام، فهذا يترك مساحة اكتشاف كبيرة جداً لمركبة الأبحاث الجديدة (ترانسيتنغ إكسبلوتنت) خلال العقد المقبل».
وقال الدكتور باتالها إن العلماء الشباب في المستقبل قد يجدون طريقة ما لتحسين معرفة الكواكب الصخرية التي تتخلل النجوم (أيتا أيرث)؛ سيكون هذا هو المعيار الفعلي».
ويعد تقييم «أيتا أيرث» عاملاً مهماً غير معروف حتى الآن في تعبير رياضي يُعرف باسم «معادلة دريك» التي يستخدمها علماء الفلك لتقدير عدد الحضارات التكنولوجية التي قد توجد في المجرة، وأننا قد نكون قادرين على التواصل مع تلك الحضارات بالراديو أو بأي وسيلة أخرى في يوم كوني.
حان الوقت للانتقال إلى العامل التالي في «معادلة دريك» للحضارات خارج كوكب الأرض، وهو ذلك الجزء الضئيل من هذه العوالم الذي ظهرت عليه الحياة. إن البحث حتى عن قالب طين واحد على بعض الصخور الغريبة سيحدث ثورة في علم الأحياء، وهي خطة العمل خلال نصف القرن المقبل، حيث يواصل البشر تسلق الكون في رحلة لا نهاية لها لوضع حد لوحدتنا الكونية.

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

رصد 138 كويكباً صغيراً جديداً

يوميات الشرق الكويكبات الجديدة رُصدت بواسطة تلسكوب جيمس ويب الفضائي (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)

رصد 138 كويكباً صغيراً جديداً

تمكن فريق من علماء الفلك في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة من رصد 138 كويكباً صغيراً جديداً.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
الولايات المتحدة​ باميلا ميلروي نائبة مدير «ناسا» وبيل نيلسون مدير «ناسا» خلال مؤتمر صحافي في واشنطن (أ.ف.ب)

«ناسا» تعلن تأجيلات جديدة في برنامج «أرتميس» للعودة إلى القمر

أعلن مدير إدارة الطيران والفضاء (ناسا)، بيل نيلسون، تأجيلات جديدة في برنامج «أرتميس» الذي يهدف إلى إعادة رواد الفضاء إلى القمر لأول مرة منذ 1972.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
علوم رائدا الفضاء سونيتا ويليامز وباري ويلمور (أ.ب)

مرور 6 أشهر على رائدَي فضاء «ناسا» العالقين في الفضاء

مرّ ستة أشهر على رائدَي فضاء تابعين لوكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) عالقين في الفضاء، مع تبقي شهرين فقط قبل العودة إلى الأرض.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق رحلة ولادة الكسوف الاصطناعي (أ.ب)

«عرض تكنولوجي» فضائي يمهِّد لولادة أول كسوف شمسي اصطناعي

انطلق زوج من الأقمار الاصطناعية الأوروبية إلى الفضاء، الخميس، في أول مهمّة لإنشاء كسوف شمسي اصطناعي من خلال تشكيل طيران فضائي مُتقن.

«الشرق الأوسط» (كيب كانافيرال فلوريدا )
يوميات الشرق نموذج ثلاثي الأبعاد لسطح كوكب الزهرة تم إنشاؤه بواسطة الكمبيوتر من قبل وكالة «ناسا» يظهر بركان سيف مونس الذي يظهر علامات نشاط مستمر في هذه الصورة المنشورة دون تاريخ (رويترز)

دراسة ترجّح عدم احتواء كوكب الزهرة على المحيطات إطلاقاً

من المرجح أن أي ماء في الغلاف الجوي لكوكب الزهرة بقي على شكل بخار، وأن الكوكب لم يعرف المحيطات، وفق دراسة أجرتها جامعة كامبريدج.

«الشرق الأوسط» (لندن)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».