الأمن والخطر الصيني يتصدران حسابات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ

قراءة في جولتي وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين على دول جنوب آسيا

الأمن والخطر الصيني يتصدران حسابات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ
TT

الأمن والخطر الصيني يتصدران حسابات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ

الأمن والخطر الصيني يتصدران حسابات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ

في خضم الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة، أجرى وزيرا الخارجية مايك بومبيو والدفاع مارك إسبر، اللذان يعدان من أبرز شخصيات الإدارة الأميركية، زيارة إلى 5 دول في جنوب آسيا، هي الهند وسريلانكا والمالديف وإندونيسيا وفيتنام. وجاءت الزيارات بعدما وافقت واشنطن على صفقة جديدة لبيع أسلحة لتايوان بقيمة 1.8 مليار دولار، وكذلك أخطرت إدارة الرئيس دونالد ترمب الكونغرس الأميركي بخططها لبيع منظومة صواريخ «هاربون» بقيمة 2.37 مليار دولار لتايوان، وهي ثاني أكبر صفقة أسلحة تعقد في غضون أسبوعين إلى الدولة - الجزيرة التي تعتبرها السلطات الصينية إقليماً مارقاً، وذلك في رسالة واضحة لإثارة ضيق بكين.
وفي حين تجري غالبية الارتباطات الوزارية، بل اجتماعات القمة، عبر الفضاء الإلكتروني، حملت مسألة سفر المسؤولين الأميركيين رفيعي المستوى إلى دول جنوب وجنوب شرقي آسيا في طياتها رسالة جيوسياسية لا لبس فيها، مفادها أن الولايات المتحدة تبذل أقصى ما باستطاعتها لاجتذاب هذه الدول إلى «تحالف» استراتيجي تقوده الولايات المتحدة في مواجهة الصين، سعياً لتعزيز التعاون في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وبالتالي تعزيز تحالف «الحوار الأمني الرباعي»، المعروف اختصاراً باسم «كواد».

تتميز منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في الواقع، باتساع شاسع، ولطالما تنافست فيها الولايات المتحدة والصين على بسط النفوذ. أضف إلى ذلك أن هذه المنطقة، التي تحتضن ضمن ما تحتضنه شبه جزيرة الهند الصينية، وامتدادها الماليزي المياناماري (البورمي)، عاشت خلال الفترة الأخيرة تضارباً بين المصالح الهندية والصينية، تحديداً في سريلانكا وجزر المالديف. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدول الثلاث التي زارها بومبيو، أي سريلانكا وجزر المالديف وإندونيسيا، تتمتع بأهمية استراتيجية لـ«مبادرة الحزام والطريق» التي أطلقها الرئيس الصيني شي جينبينغ.

تدريبات مالابار... عودة «كواد»!

شهدت مياه المحيط الهندي وسواحله تدفقاً لقطع حربية وطائرات هليكوبتر حربية متقدمة، مرسلة من كل من أستراليا واليابان والولايات المتحدة، للمرة الأولى منذ عام 2007. وذلك خلال الأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني).
ومن ثم، أجرت القوات البحرية التابعة للدول المشاركة في التدريبات مجموعة من العمليات العسكرية المعقدة السطحية والمضادة للغواصات والمضادة للطائرات، بجانب تدريبات على إطلاق الأسلحة. ومن المقرر عقد المرحلة الثانية من التدريبات والمناورات في بحر العرب، بشمال النصف الغربي من المحيط الهندي، نحو منتصف نوفمبر.
هذا، وتأتي مشاركة أستراليا في تدريبات مالابار السنوية، التي انطلقت هذا الأسبوع في خليج البنغال (بالنصف الشمال الشرقي من المحيط الهندي) بمثابة تأكيد على صعود «كواد» كملمح جديد من ملامح المشهد الجيوسياسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وعلى الرغم من أن جميع القرارات التي صدرت في الفترة الأخيرة لتعزيزها جاءت خلال الأسابيع الأخيرة من أول فترة رئاسية للرئيس دونالد ترمب، يبقى من المحتمل أن تستمر «كواد»، وذلك بفضل الالتزام المؤسّسي القوي تجاهها الذي تبديه العواصم الأربع المعنية جميعها؛ كانبيرا ودلهي وطوكيو وواشنطن.
من ناحية ثانية، نظراً لتركيزها على الصين، قرّرت ألمانيا هي الأخرى تسيير دوريات في المحيط الهندي عبر نشر سفينة حربية بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في إطار خطة برلين لمحاولة السيطرة على النفوذ الصيني في المنطقة. واستطراداً، أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية أنيغريت كرامب كارينباور أن بلادها تعمل في إطار حلف شمال الأطلسي (ناتو) بهدف تعزيز علاقاتها مع الدول ذات التوجهات المشتركة مثل أستراليا داخل منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وأضافت الوزيرة الألمانية خلال مقابلة أجرتها معها صحيفة «سيدني مورنينغ هيرالد» الأسترالية: «نعتقد أن ألمانيا عليها أن تجعل موقفها داخل المنطقة واضحاً»، متابعة: «أوروبا في الوقت الراهن بدأت تلتفت على نحو متزايد إلى الأجندة الاقتصادية للصين وتكتيكاتها الجيوسياسية».
كرامب كارينباور، التي ما زال يعتبرها كثيرون خلفاً محتملاً للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قالت أيضاً للصحيفة: «نحن نأمل في أن نتمكن من نشر قوات العام المقبل. وسنوجه مزيداً من الإنفاق نحو الدفاع خلال العام 2021 عن عام 2020... على الرغم من الأضرار التي ألحقتها جائحة (كوفيد 19) بميزانيتنا. واليوم، تكمن الأهمية الكبرى في تحويل ذلك إلى قوة حقيقية».
من ناحيته، قال العميد البحري أنيل جاي سينغ، الذي يتولى أيضاً منصب نائب رئيس «المؤسسة البحرية الهندية» معلقاً: «في أعقاب اجتماع وزراء خارجية (الحوار الأمني الرباعي) في طوكيو أوائل أكتوبر (تشرين الأول)، وما تلاه من الحوار الوزاري الهندي الأميركي (2 + 2) في نيودلهي الأسبوع الماضي، تأتي تدريبات مالابار بمثابة مؤشر واضح على زيادة صلابة الموقف الذي تتخذه اليابان وأستراليا والهند راهناً تجاه الصين. كذلك يجري النظر إلى هذه التدريبات باعتبارها دليلاً على الأهمية التي توليها هذه البلدان الأربعة لمسألة الحفاظ على النظام الدولي الراهن القائم على قواعد بعينها ووجود حرية وانفتاح بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ».
إلا أنه حذّر، في المقابل، من أنه «لا ينبغي افتراض أن مشاركة قوات بحرية من الدول الأربع في تدريبات مالابار تعد بالضرورة مؤشراً على تطوير تحالف بحري أو عسكري فيما بينها». وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنه في حين لم تُخفِ الولايات المتحدة البعد العسكري لنهجها تجاه الصين في المحيطين الهندي والهادئ، بينما تناصبها الصين قدراً مكافئاُ من العداء، في سياق مساعيها لفرض هيمنتها البحرية الإقليمية، فإن الدول الثلاث الأخرى تبدو أكثر حذراً في نهجها.
وعلى رغم الاستفزازات الأخيرة، مثل المواجهة المستمرة التي بدأتها الصين على طول خط السيطرة الفعلية في منطقة جبال الهيمالايا، فسيكون النهج التدريجي يمثل الخيار الأكثر براغماتية. وأفاد مصدر هندي: «كل هذه البلدان، سريلانكا وجزر المالديف وإندونيسيا، مفتاح النجاح داخل منطقة المحيطين الهندي والهادئ»، مشيراً إلى أن الهند تسعى لإقامة سلاسل إمداد قوية ومرنة معها.

المحطة الأولى... الهند

كانت العاصمة الهندية نيودلهي المحطة الأولى للمسؤولين الأميركيين الرفيعين؛ حيث أجرى بومبيو وإسبر الحوار الثالث (2 + 2) مع نظيريهما الهنديين للشؤون الخارجية إس جايشانكار والدفاع راجناث سينغ.
وفي نيودلهي، وقّعت الولايات المتحدة والهند اتفاقاً تاريخياً للتبادل والتعاون، يسمح للبلدين العملاقين بالتشارك في معلومات عسكرية، بما في ذلك خرائط ملاحية وبحرية ومجموعة أخرى من الصور والبيانات التجارية والجيوفيزيائية والجغرافية والجيومغناطيسية، بجانب بيانات تتعلق بالجاذبية. ومن شأن هذا الأمر، معاونة الهند على الوقوف في مواجهة تهديد الجيش الصيني، المتقدم علمياً وتقنياً، على نحو متزايد على طول الحدود داخل إقليم الهيمالايا الممتد لمسافة 4000 كيلومتراً.
وحول العلاقات الاستراتيجية القائمة، بل المعززة حالياً، بين الجانبين الأميركي والهندي، علّق الكاتب الصحافي بي. كيه. بالاتشاندران معرباً عن اعتقاده بأنه «بغضّ النظر عن هوية الفائز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لن تتغير الأوضاع الاستراتيجية للهند، وستصبح السياسات المناهضة للصين جزءاً لا يتجزأ من السياسات الخارجية الأميركية من أجل ضمان أمن ورخاء الولايات المتحدة و(العالم الحر)... في الوقت الذي ربما يكون هذا التوجه المعادي للصين جيداً للفوز بالانتخابات، فإنه يتسم بأهمية حيوية لضمان بقاء الولايات المتحدة قوة عظمى أولى».
وسريلانكا... المحطة الثانية

أما في العاصمة السريلانكية كولومبو، فقد ألقى الوزير بومبيو بمشروع الولايات المتحدة «مؤسسة تحدّي الألفية»، الذي تبلغ موازنته 480 مليون دولار، جانباً وانطلق في توجيه انتقادات شديدة للصين. ومن جانبها، واجهت سلطات سريلانكا طلبات بضرورة اتخاذها قرارات بخصوص علاقتها بالصين ومراجعة الخيار الذي تعرضه عليها الولايات المتحدة والمتمثل في معاونتها على تحقيق تنمية اقتصادية شفافة ومستدامة. جدير بالذكر في هذا الصدد أنه سبق لبومبيو أن ألغى زيارة كانت مقررة لسريلانكا في يونيو (حزيران) العام الماضي في أعقاب خروج مظاهرة مناهضة للولايات المتحدة هناك. وما يذكر ضمن هذا الإطار أن سريلانكا تقع مباشرة بجوار خطوط الشحن الرئيسية في المحيط الهندي، التي تستخدمها الصين في استيراد الطاقة والمواد الخام من أفريقيا والشرق الأوسط، وتصدير منتجاتها إلى العالم.

تحركات في المالديف

في المحطة الثالثة، التي كانت مدينة ماليه الصغيرة، عاصمة جزر المالديف، ما كان لدى وزير الخارجية الأميركي كثير لينجزه، لأن الرئيس إبراهيم صليح موالٍ للغرب بقوة. ونشير هنا أن نظام الرئيس السابق عبد الله يمين كان موالياً للصين علانية، واقترض منها بشدة من أجل تطوير البنية التحتية للبلاد، وهناك من يقول إنه سقط ضحية شرك الديون الصينية. غير أن نظام يمين خسر في انتخابات عام 2016 بسبب اتهامات بالتورط في الفساد والاستبداد. وحول المسألة الاستراتيجية، يصف بعض المحللين المعنيين بالشؤون البحرية جزر المالديف بأنها «بوابة» بين الممرات الضيقة في غرب المحيط الهندي في خليج عدن ومضيق هرمز من ناحية، ومضيق ملقا في شرق المحيط الهندي على الجانب الآخر. وقد وقّعت الولايات المتحدة «اتفاقية إطارية أمنية ودفاعية» مع المالديف.
الهند، الجارة الكبرى للأرخبيل الصغير، اختارت أن تسرب بحذر حقيقة أن «إطار العمل للعلاقات الدفاعية والأمنية بين الجانبين» جرى «عرضه» على مسؤولي نيودلهي في ماليه «أولاً». ويبدو هذا الأمر مثيراً للاهتمام بالنظر إلى أن الاتفاق جرى توقيعه بهدوء أثناء زيارة وزيرة الدفاع المالديفية، ماريا ديدي، إلى الولايات المتحدة. ولم تكشف تفاصيل عن هذا الأمر بعد. وكانت الهند قد حالت دون إبرام معاهدة دفاعية بين الولايات المتحدة وجزر المالديف عام 2013. لكنها «رحّبت» بالخطوة الأخيرة، وأعلنت على نحو أثار الدهشة إلى حد ما أن الاتفاقية لم تقلص من دور الهند «كجهة موفرة للأمن»، وإنما في الواقع تكمل هذا الدور.
أما، فقد قال من جانبه، في ماليه وبصراحة إن «الحزب الشيوعي الصيني يواصل سلوكه التهديدي والخارج عن القانون والتهديد». وأعلن عن افتتاح سفارة في العاصمة المالديفية. وتجدر الإشارة إلى أنه فيما مضى كان السفير الأميركي لدى سريلانكا مسؤولاً عن جزر المالديف.
منذ عام 2018، عندما أصبح إبراهيم صليح رئيساً، تخلت البلاد عن ميلها السابق نحو بكين، وأعادت صياغة سياستها الخارجية لتعكس العلاقات الأخرى الطويلة الأمد، بما في ذلك مع الهند. وكانت هناك بعض الأصوات في جزر المالديف المعارضة لفكرة بناء صداقة وثيقة للغاية مع الولايات المتحدة والهند. وفي الأيام الأخيرة، وبعد تداول شائعات بأن جنوداً هنوداً سيتمركزون في جزر المالديف، طلبت إحدى وسائل الإعلام المحلية الحصول على معلومات بموجب قانون حق الحصول على المعلومات في جزر المالديف حول عدد أفراد الدفاع الهندي في البلاد، إلا أن قوات الدفاع الوطنية لجزر المالديف قالت إنه من المتعذر الكشف عن هذه المعلومات لدواعٍ أمنية.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.