في مطلع الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، قررت شركة «مترو غولدوين ماير» القيام بعملية تحويل مسار فيلم «لا وقت للموت» (No Time to Die) من فيلم جاهز للعرض إلى فيلم لا بد من تأجيل عروضه.
لم يكن هذا قرارها الأول بالنسبة لأهم إنتاج لديها هذا العام، ومنذ عدّة أعوام. فقد سبق لها أن قامت بتغيير موعد عرضه، عندما كان من المقرر له أن يعرض في مطلع الصيف الماضي. ففي الشهر الثالث من هذه السنة، قررت إرجاء ذلك العرض، على أمل أن يكون وباء كورونا قد انتهى مع اقتراب نهاية السنة.
الآن، هي بسبيل إصدار قرارها الثالث في هذا الشأن. فيلم جيمس بوند الخامس والعشرون لن يرى نور العرض قريباً، والأمرّ من ذلك أن الشركة لا تدري إذا كان من الضروري تعيين موعد جديد الآن أم ترقّب ما يحدث حول العالم من جراء هذه النكبة غير المسبوقة، وهذا ما قد يطول أمره، ويعرّض الفيلم لمزيد من المشكلات.
بداية متعثرة
«لا وقت للموت» ليس وحيداً في أزمته، فهناك أفلام أخرى كثيرة تقف في صف طويل قامت الاستديوهات بتأجيل عروضها أحياناً إلى أجل غير مسمّى. لكن بالنسبة لهذا الفيلم تحديداً، فإن هناك اختلافات جوهرية خاصة به، من بينها أنه فيلم من سلسلة تعوّد الجمهور على القفز صوبها أول ما تتلقف مواعيد عروضها. لم يخسر فيلم منها، ولم يمر بمأزق فعلي، ولا اضطر لتأجيل عرض واحد، ليس على هذا النحو أو على أي نحو قريب.
ومن بينها أيضاً أنه لا يقف وحده في خضم أزمته، بل تقف معه شركة «مترو غولدوين ماير» التي استثمرت فيه الوقت والجهد والمال، وكانت تتمنى لو أنها بدأت بتحصيل أرباحها منه، والانتهاء من تبعاته. وهذا كان يمكن له أن يقع لولا تأخير في الإنتاج واكب الفيلم منذ 3 أعوام، عندما أُضيئت الشارة الخضراء للانطلاق بتصويره، ثم أُطفئت، ثم أُضيئت مرّة ثانية، ثم أُطفئت مرّة أخرى. وتعود عجلة الإنتاج في الواقع إلى شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2015، عندما تمّت كتابة النسخة الأولى من السيناريو. وفي العام التالي، دخل العمل مرحلة تحضير طويلة شهدت إعادة كتابات، ودخول المخرج داني بويل («سلامدوغ مليونير»، «127 ساعة»... إلخ) المشروع مخرجاً.
تاريخ دخول بويل المشروع كان ربيع 2018، وذلك بسيناريو آخر جديد، لكن خلافاً كبيراً وقع بين رؤيته الفنية لما يجب أن يكون عليه جيمس بوند في هذا الوقت من الزمن (أرق حاشية، أكثر ليبرالية، المرأة لا تُعامل بمنظور الترفيه... إلخ) وبين المنتجين (باربرا بروكولي ومايكل ج. ولسون) اللذين عدا أن التطوّر الذي صاحب شخصية بوند في الآونة الأخيرة يتضمن مثل هذه المفاهيم، ولا يمكن السماح لمزيد منها.
ترك بويل المشروع في الحادي والعشرين من أغسطس (آب)، فتم اختيار كاري فوكوناغا (أنجز نجاحه النقدي عبر «وحوش بلا وطن - Beasts of No Nation» قبل 3 سنوات من ذلك التاريخ) بديلاً له، بعد أقل من شهر واحد على مغادرة بويل. وفي التاسع والعشرين من مارس (آذار) سنة 2019، بوشر بالتصوير، وانتهي الفيلم، وأصبح جاهزاً للعرض في الثالث والعشرين من شهر فبراير (شباط) هذه السنة. بكلمات أخرى، لو تم اختصار التأجيلات السابقة التي وقعت بين 2015 و2018، لانتهى الفيلم في الوقت المناسب لعرضه، مع نهاية 2018، أو في صيف 2019 على الأقل.
تفاصيل الأزمة
لم يكن هذا التأجيل ما رغبت به «مترو» مطلقاً. ليس هناك من استديو سينمائي يمكن أن ينظر بعين الارتياح لارتجاجات في جدول العمل على إنتاج ما، خصوصاً إذا ما كان من الإنتاجات الضخمة، و«لا وقت للموت» هو أحدها.
انطلق بميزانية قدرها 225 مليون دولار، ارتفعت إلى 250 مليون دولار، وانتهت -للآن- وقد اخترقت سقف 300 مليون دولار (301 مليون دولار تحديداً). هذا علاوة على نحو 66 مليون دولار (حسب مجلة «ڤاراياتي») دُفعت في الحملة الإعلامية والإعلانية له في السنوات السابقة (حمل مهرجان «كان» إعلانات عنه منذ 2018، وشهدت الحملة الإعلامية برنامج زيارات لمواقع التصوير، ومقابلات مبكرة للمواقع والمجلات المتخصصة والكبيرة).
وما يجعل المهمّة صعبة أن الشركة المموّلة تحتاج لنجاح هذا الفيلم في مرحلتها الحالية؛ لقد اجتازت للتو أزمة مالية دقيقة بدأت قبل أكثر من 10 سنوات، وبوند كان تذكرتها لاستعادة كيانها بصفتها واحدة من أكبر استديوهات هوليوود، وآخر ما كانت تطمح إليه هو أن تصطدم بعائق لا يستطيع بوند نفسه تخطيه.
وما يجعل المسائل على قدر كبير من التأزّم أن الفيلم يحتاج لتسعمائة مليون دولار من الإيرادات قبل أن تبدأ «مترو» تحصيل أرباحها، وذلك ليس لارتفاع كلفة الإنتاج فقط، بل لأن شركة «Eon Productions» البريطانية (وهي الشركة الأم التي يرأسها الثنائي بروكولي وولسون) لديها نسبة كبيرة من الإيرادات تنجزها حسب الاتفاق الجاري، كذلك حال بطل الفيلم دانيال كريغ؛ كلهم سيأكلون من قالب الحلوى، تاركين لـ«مترو» نصف القالب (وبعض المصادر تقول «أقل من نصف» القالب). هذا كان مقبولاً لو أن عروض الفيلم لم تتأخر، ما يتسبب في تأخير سداد فواتير الشركة للمصارف الضامنة.
لكن «مترو غولدوين ماير» لا تستطيع فعل شيء يُذكر: لا الانسحاب وارد (عبر إلغاء الاتفاق مثلاً)، ولا مزيد من التأجيل فكرة حميدة (الموعد المقرر حالياً لعرض الفيلم هو الشهر الرابع من العام المقبل) بحد ذاتها.
الحل الأول يعني ضربة مادية كبيرة، وولوجاً لاحتمال رفع دعاوى من قِبل الشركات المشتركة في إنجاز الفيلم (لجانب شركة «إي أون»، هناك بضع شركات بريطانية صغيرة أودعت في التمثيل حصصاً صغيرة)، وعملياً: خسارة المشروع واستثمار الشركة الأميركية فيه. والحل الثاني سيدلف بها إلى وضع عسير آخر؛ كل شهر تأجيل يكلّفها مليون دولار، والعدّاد لا يتوقف. لكن هناك حل ثالث بات يلوح في الأفق: مقابل أي مبلغ لا يقل عن 600 مليون دولار، تستطيع «إم جي إم» بيع الفيلم لمالك جديد. والشائعات تقول إن الشركة تواصلت مع بعض شركات البث المنزلي، لكن هذه ارتعدت أمام الرقم أعلاه، وواجهته بمبلغ يقل بنحو 200 دولار عن المطلوب.
محاولات الشركة إيجاد حل لوضع خارج في الأساس عن إرادتها (وإرادة الجميع حولها أساساً) حثيثة، لكن الشركة تؤكد أنها تتمتع بمناعة مادية لا تقل عن 700 مليون دولار نقداً، ونحو مليار دولار من الاحتياط المصرفي. هذا إلى جانب مخزون من الأفلام التي تشكّل أرشيفها الخاص: نحو 4000 فيلم من إنتاجها، وإنتاج ذراعها الإنتاجية «United Artists»، يبلغ ثمنها حالياً ما يزيد على مليار دولار، لو أرادت بيعها وحقوقها.
السهل والصعب
إنه الفيلم الخامس والعشرون لجيمس بوند، والأخير من خمسة لبطله دانيال كريغ. وفيه أن بوند اعتزل المهنة في مطلع الفيلم، قبل أن يوافق على العودة إليها (في مطلع الفيلم أيضاً)، وذلك في مهمّة تضعه في مواجهة مؤسسات تعمد إلى آخر المتوفر من تكنولوجيات لكي تفرض أجندتها على العالم.
وككل مهام جيمس بوند منذ سنة 1962، عندما تم تحقيق أولها («دكتور نو» لترنس يونغ)، فالمهمّة الجديدة صعبة، بل تبدو مستحيلة. لكنها، ككلها أيضاً، تنتهي بالنجاح الفردي لعميل بريطانيا والغرب الأول.
غير أنه بالرجوع إلى نشأة أفلام بوند في مطلع الستينيات، وبمقارنتها بالوضع الحالي، فإن الاختلاف الكبير الحاصل ليس من نصيب المضمون وطرق التنفيذ فقط، بل من نصيب متطلبات الإنتاج على كل مستوى عملي ممكن.
أيامها، كان من السهل إنجاز بوند لمهامه التجارية أيضاً، وتحقيق أرباح سريعة هي السبب التي دفعت بالفيلم الأول صوب توالي الأجزاء التالية كلها حتى اليوم: «دكتور نو» جلب حينها 60 مليون دولار (ما يوازي 550 مليون دولار حالياً)، والإيرادات ارتفعت من رقمٍ عالٍ لأعلى منه في أغلب تلك السنوات الماضية.
الخوف هو أن ارتفاع الإيرادات لم يعد كافياً بسبب ارتفاع التكاليف، مصحوبة بالطبع بارتفاع حالات «كوفيد-19»، وهي مهمّة قاتلة تتربص بكل الأفلام من دون استثناء.